قبل نحو 3 سنوات، وإبان توليه رئاسة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، استنكر الأستاذ مكرم محمد أحمد – رحمة الله عليه – محاولات «البعض» عرقلة إصدار قانون لحرية تداول المعلومات، بالرغم من أن المناقشات حوله بدأت قبل عشر سنوات، فضلا عن كونه أحد القوانين المكملة للدستور.
الأستاذ مكرم قال في تصريحات تلفزيونية تعليقا على تجميد مشروع القانون: «هناك إلزام دستوري يجبر الدولة على إصدار قانون حرية تداول المعلومات»، مضيفا: «فترة مناقشة هذا القانون تجاوزت الـ10 سنوات، وهذه مدة كفيلة لتأسيس دولة وليس إصدار قانون.. فيه دول قامت والقانون لسة مخرجش للنور».
تصريحات مكرم كانت تعبيرا عن غضب مكتوم، مبعثه أن مشروع قانون حرية تداول المعلومات الذي أعدته لجنة تم تشكيلها بقرار من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام «دَخَل الدرج»، على حد تعبير أحد أعضاء المجلس.
مشروع القانون الذي أعدته لجنة ترأستها الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسي، تضمن 28 مادة تنظم عملية إتاحة المعلومات، وتجبر مؤسسات الدولة المختلفة على إتاحتها وفقا لنصوص القانون إلا ما يتعارض منها مع «مقتضيات الأمن القومي»، وتعاقب كل من يمنعها أو يمنح الجمهور معلومات مغلوطة.
أثار مشروع القانون جدلاً حينها، لعدم أخذ آراء عدد من الجهات ذات الصلة، واتهم البعض المجلس الأعلى للإعلام بالانفراد بإعداد مسودة القانون، دون إخضاعه لحوار مجتمعي قبل إرساله للحكومة وعرضه ومناقشته في البرلمان.
بعد دخول مشروع القانون المشار إليه «الدرج»، تحدث الأستاذ مكرم بتهكم عن الجهات الأخرى التي دخلت على الخط لإعداد مشروع قانون آخر لحرية تداول المعلومات لكنه لم يسمها «لو كل واحد عاوز يعمل قانون ابقوا قابلوني لو طلع».
مكرم أشار في تصريحاته هذه المرة إلى أن مشروع القانون الذي أعدته لجنة بتكليف من مجلسه استغرق 6 أشهر من العمل المنظم حتى تم الانتهاء منه وعرض على بعض الجهات في الدولة، «لكننا اكتشفنا أن أطرافا أخرى تقوم بنفس العمل»، منتقدا غياب التنسيق في إعداد مشروع قانون بهذه الأهمية.
لم يكشف مكرم في تصريحاته عن الجهات التي تعمل على «تفصيل» قانون آخر لحرية تداول المعلومات، يُلبي رغبات الجهات التي دفنت مشروعه الذي راعى إلى حد ما متطلبات العصر واحتياجات الجمهور وفي ذات الوقت مقتضيات الأمن القومي.
كانت اللجنة العليا للإصلاح التشريعي التابعة لمجلس الوزراء، قد انتهت قبل ذلك التوقيت بشهور من إعداد مسودة قانون لحرية تداول المعلومات، وظن البعض أن تجميد مشروع قانون مكرم كان بهدف إخراج مشروع تلك اللجنة إلى النور.
المادة ( 68 ) من دستور 2014 نصت على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا».
لكن يبدو أن الأطراف الذي تحدث عنها الأستاذ مكرم آنذاك، لم تكن مقتنعة بضرورة وجود قانون يلزم الدولة بإتاحة المعلومات والبيانات، فعملت على تجميد المشروع الثاني أيضا، بنفس الطريقة التي جمدت بها مشروعات ومسودات سابقة عمل عليها نواب وخبراء وحقوقيون، كان أبرزها مشروع القانون الذي أعده النائب السابق محمد أنور السادات وقتما كان رئيسا للجنة حقوق الإنسان بالبرلمان.
منذ ذلك الحين، توقف الحديث في أروقة الحكومة والبرلمان عن قانون حرية تداول المعلومات الذي طال انتظاره، وباستثناء دعوات بعض المنظمات والمراكز الحقوقية المعنية بحرية الرأي والتعبير وعدد من الكتاب وأصحاب الرأي المضارين من عدم وجود قانون يلزم مؤسسات الدولة بتقديم المعلومة وإتاحاتها، لم يصدر عن أي جهة رسمية نيابية كانت أم إعلامية دعوة أو بيان يطرح الأمر لنقاش مجتمعي تمهيدا لإصدار القانون.
الدعوات إلى إصدار قانون لحرية تداول المعلومات فى مصر لم تبدأ بعد ثورة 25 يناير 2011، بل ترجع إلى سنوات ما قبل الثورة، فمنذ عام 2005 تصاعدت المطالبات بضرورة إصدار قانون على غرار القوانين التي تم سنها في انجلترا والولايات المتحدة والهند وغيرها من الدول التي تحترم حق مواطنيها في المعرفة.
لم يكن دستور عام 1971 يتضمن أى نص يلزم الدولة بإتاحة المعلومات والبيانات والوثائق، فباستثناء المادة (210) الخاصة بحرية الصحفيين فى الحصول على الأنباء والمعلومات طبقا للأوضاع التى يحددها القانون، لم تشر مواد هذا الدستور إلى أي إلزام على الدولة لإتاحة المعلومة.
عدم وجود نص ملزم بإتاحة المعلومات في دستور 1971، سهل من عمليات تقنين وحظر تداول المعلومات، وصدرت في ظله عدد من القوانين المقيدة لحرية النشر والإعلام والتداول، لكن مع إقرار دستور 2012 ثم دستور 2014 تغير الوضع، وأصبح هناك ضمانة دستورية لحرية تداول المعلومات ونشرها وإتاحاتها.
فالمادة ( 68 ) من دستور 2014 نصت على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا».
للأسف لم تُفعل هذه المادة حتى تاريخه، وإن كانت هناك محاولات لصياغة مسودات لقانون حرية تداول المعلومات عمل على إعدادها جهات ذات صلة خلال السنوات العشر الماضية كما أشرنا سلفا، لكنها لم تر النور، فيبدو أن هناك من يعرقل فكرة وجود نص تشريعي يلزم الدولة بإتاحة المعلومات ويعاقب الموظف أو المسئول إذا حجبها أو أتاح معلومة مغلوطة.
وأد أي محاولة لخروج قانون ملزم لإتاحة المعلومات، يثبت إن إرادة الحجب في مصر تعلو ولا يعلى عليها، فرغم أن الأصل في الأشياء الإباحة والإتاحة إلا أن في بلادنا صار الأصل هو الحظر والمنع.
عمليات الحجب والمنع والحصار التي تتصادم مع نصوص الدستور والعهود والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر، أضحت منهجا للدولة بمؤسساتها المختلفة منذ عام 2017، تحديدا بعد المناوشات القانونية والقضائية والإعلامية التي صاحبت تسليم مصر لجزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية عقب توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين.
منذ ذلك التوقيت تقريبا، عادت القيود كما كانت عليه قبل ثورة يناير، وصار حجب المعومات ومنع الجمهور من الوصول إليها مجددا هو الأصل، وعمل البرلمان على إضفاء الشرعية على عمليات الحجب والحصار، فأصدر عددا من القوانين التي تصادر حق المواطن في المعرفة وتعيق وسائل الإعلام من القيام بدورها في إخبار الناس بما يجري.
سوابق هذا البرلمان والبرلمان الذي سبقه مع قوانين لها علاقة بالحريات العامة أو الحريات الصحفية، تصاعد المخاوف من أن يتحول مشروع لحرية تداول المعلومات إلى قانون ينظم وضع القيود على تداول المعلومات.
مرر البرلمان السابق القانون 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام وضمنه نصوص تتيح للمجلس الأعلى للإعلام ممارسة علميات الرقابة والحجب والمنع ووقف الترخيص، وكأنه حسيب ورقيب وليس أمينا على «حرية الصحافة والإعلام وملتزما بحماية حق المواطن في التمتع بإعلام وصحافة حرة ونزيهة».
وبدعوى «مقتضيات الأمن القومي» وعدم إثارة الجماهير والحفاظ على الآداب العامة، قيدت نصوص هذا القانون، حق الصحفي في ممارسة عمله والتعبير عن آرائه وأفكاره ليس فقط في المنصات الإعلامية التي ينشر بها لكن أيضا على منصات التواصل الاجتماعي إذا تعدى عدد المتابعين لحسابه 5000 متابع.
صدرت بعد ذلك عدد من القوانين واللوائح التي تصب كلها في خانة الحجب والتقييد، وهو ما يعكس فهم الحكومة والبرلمان المغلوط لفلسفة المشرع الدستوري الذي أكد في مواد دستور 2014 على حق المواطن فى التعبير عن رأيه بأي طريقة، وحظر الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام إلا في حالة الحرب والتعبئة العامة، وألزم الدولة بإتاحة المعلومات والبيانات والإحصاءات الصحيحة.
ضمن التحديات التي أشارت لها «الاستراتيجية الوطنية للحقوق الإنسان» التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي في سبتمبر الماضي، حرية التعبير، فلفتت بنود الاستراتيجية النظر إلى «عدم وجود إطار قانوني ينظم الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات الرسمية وتداولها بالرغم من كونه أحد الحقوق الدستورية».
الاستراتيجية حددت عددا من النتائج المستهدفة في هذا الإطار، منها:
1- صدور قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات الرسمية وتداولها.
2- تعزيز مناخ وثقافة التعددية وتنوع الآراء والرؤى إزاء مختلف القضايا العامة.
3- تعزيز الحق في ممارسة حرية التعبير عن الرأي والتصدي لأية انتهاكات في إطار الدستور والقوانين المنظمة لذلك، والمراجعة الدورية لتلك القوانين لضمان كفالة ممارسة هذا الحق وفقا للدستور والتزامات مصر الدولية.
قد يظن البعض أن ما جاء في نصوص الاستراتيجية يعكس تطورا جديدا في تعامل الدولة مع ملف حرية الرأي والتعبير، وهو ما نتنمناه، لكن للأسف الوقائع التي جرت خلال الأسابيع الماضية بتمرير عدد من تعديلات القوانين التي تتصادم مع فلسفة الحرية أثبتت أننا لانزال محلك سر.
خلال ندوة أقامتها كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الأسبوع الماضي، كشفت النائبة مها عبد الناصر ممثلة الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي بمجلس النواب أن حزبها بصدد إعداد مشروع قانون لحرية تداول المعلومات تمهيدا لتقديمه إلى البرلمان، وهو جهد مشكور، خاصة أن المجموعة القائمة على إعداد المشروع من نواب الحزب أو من الخبراء الذين تم الاستعانة بهم مؤمنين بالفعل بحرية الرأي والتعبير وبحق الجمهور في المعرفة والحصول على المعلومة.
لكن سوابق هذا البرلمان والبرلمان الذي سبقه مع قوانين لها علاقة بالحريات العامة أو الحريات الصحفية، تصاعد المخاوف من أن يتحول مشروع لحرية تداول المعلومات إلى قانون ينظم وضع القيود على تداول المعلومات.
ورغم التشاؤم الذي يبديه البعض ومنهم كاتب هذه السطور من تعامل البرلمان مع هذا القانون، إلا أننا نتنمى أن يصدر قانون لحرية تداول المعلومات ينقل المواطن من موضع «الرعية» إلى موضع الشريك كامل الأهلية، الذي من حقه أن يعرف ويراقب ويحاسب سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها.
«إن إتاحة المعلومات من مختلف المستويات، أو ما تسميه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بـ«إبلاغ الناس» يسهم في توسيع المشاركة والرقابة على المستوى الشعبي، وينعكس بالإيجاب على علاقة المجتمع بالدولة. فمن خلال المعلومات وحدها، سيدرك المواطن أيا كان موقعه حقوقه وواجباته، وستتبدد أمامه الشائعات الكاذبة، وستنكشف أمامه الحقائق التي تجعله يتعامل بشكل أفضل وأكثر عملية مع حاضره ومستقبله»، على ما قال زميلنا الصحفي محمد بصل الذي أدار ندوة الجامعة الأمريكية المشار إليها سلفا.