إن تحفة فنية واحدة يمكن أن تجتذب مبلغًا كبيرًا من المال. في حين أن «صنع قنبلة لا يتطلب سوى 10 دولارات». وهو أمر يفرض ضرورة تتبع حركة الأموال التي تُجنى في أسواق الفن. خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار قيمة المبيعات العالمية للفنون والآثار -قُدرت في 2020 بحوالي 50.1 مليار دولار أمريكي– وربطنا ذلك بقدرة جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة على غسيل أموالها، وتمويل عمليات القتل والنهب وتجارة السلاح والمخدرات، مستغلة أسواق الفن، فيما يمكن وصفه بتجارة «آثار الدم».
تقول دراسة حديثة لمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية إن معايير سوق الفن أدت إلى تعاون مالي -عن قصد أو غير قصد- بين المشاركين في أسواق الفن ومسؤولي الجريمة المنظمة والإرهابيين. ما قد يكون له عواقب مميتة على الإنسانية. وهي تشير إلى ضرورة وضع استراتيجية متكاملة تُمكن من ضبط هذا السوق وتتبع حركة البيع والشراء داخله. بينما تلفت إلى ما أفضت إليه استراتيجية الاتحاد الأمني للاتحاد الأوروبي في العام 2020 من أن «الاتجار بالسلع الثقافية أصبح أحد أكثر الأنشطة الإجرامية ربحًا ومصدرًا لتمويل جماعات الجريمة والإرهاب».
وقد تطرقت الدراسة إلى 4 طرق يخدم بها سوق الفن الجماعات غير المشروعة. وتتمثل في غسيل الأموال. إضافة إلى التراكم المالي في الملاذات الآمنة مثل الموانئ الحرة. وكذلك تسويق القطع الثقافية الملوثة بعدم الشرعية من خلال صالات العرض ودور المزادات. فضلاً عن استخدام التحف الفنية الثقافية كضمان يضفي شرعية على العمليات المشبوهة حول العالم.
غياب الشفافية عن أسواق الفن
لأسواق الفن حول العالم طبيعة خاصة تُفرض عليها السرية والنهج غير الرسمي نسبيًا. فهي تخضع لشبكات معقدة من القوانين الجمالية والاقتصادية النسبية المتشابكة. كما أنها نادرًا ما تأتي إلى السوق بوثيقة كاملة تثبت تاريخ ملكيتها. وحتى إن وجدت هذه الوثيقة، فإنها قابلة للتزوير في ظل غياب توثيق منظم للسلع المسروقة، والاعتماد على خبراء غير معتمدين في تقييمها. ما يغيب الشفافية عنها.
على سبيل المثال، غالبًا ما تشير الوثائق المصاحبة للآثار إلى مجموعة خاصة حصلت على القطعة في عام 1969. أي قبل اتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن وسائل حظر ومنع الاستيراد والتصدير غير المشروع ونقل ملكية الممتلكات الثقافية. وعلى عكس تجارة المخدرات أو الأسلحة غير المشروعة، التي تُباع عادةً في السوق السوداء، يمكن الإعلان عن التحف الفنية وبيعها بشكل أكثر وضوحًا. ذلك بسبب صعوبة إثبات الاستحواذ غير المشروع عليها.
وفق الدراسة -التي يقدمها معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية– فإن أهمية الأصالة في أسواق الفن ترتبط بمسألة الأدلة الوثائقية. وهي في ذلك على عكس الذهب، الذي يمكن التعرف على تقليده بسهولة نسبيًا.
إن الحكم على أصالة قطعة فنية يخضع للخطأ والتلاعب المشروعين. فخبراء الفن المستقلون غير معتمدين من قبل أي برامج تدريبية محددة، ولا يتم تنظيمهم. كما أن التحليل الفني يترك الباب مفتوحًا للتفسيرات المختلفة للخبراء في هذا المجال. التقييم الفني نسبي بين متذوقيه.
التحف الفنية قابلة للنقل والإخفاء
بسهولة، يُمكن نقل التحف الفنية عبر الحدود دون جذب الانتباه. إذ يمكن إخفاؤها على شكل هدايا تذكارية أو قلادات قديمة يتم ارتداؤها كمجوهرات عادية. بينما يمكن تفكيك القطع الأكبر حجمًا إلى أجزاء أصغر. بما لا يثير الشك لدى غير الخبراء.
أظهرت دراسة أجريت عام 2019، أنه تم التعرف على أصول أقل من 2% من الآثار العراقية المباعة في السوق الألمانية. وهو رقم انخفض إلى 0.4%. لذلك، فإنه لضبط عمليات التهريب تلك يجب إنشاء وحدات شرطة مخصصة. مثل شرطة التراث الإيطالي.
في يونيو الماضي، أطلق الإنتربول تطبيقًا للتعرف على الأعمال الفنية المسروقة يحمل اسم «ID-Art». قالت الشرطة الإسبانية إنها استخدمته لاكتشاف عملات رومانية مسروقة بقيمة 200 ألف يورو. ويسمح التطبيق الجديد للمستخدمين بالاطلاع على قاعدة بياناته للأعمال الفنية المسروقة لتتبعها. وتضم 52 ألف عمل مسجل على أنه مسروق.
مع ذلك، فإن قاعدة بيانات الإنتربول للفنون المسروقة -وهي الوحيدة الرسمية في مجال تتبع هذه التحف- لا تعتمد في موثوقيتها على أدلة عملية مدروسة. وإنما على تحسين التعاون الدولي في هذا الشأن. وهو أمر مشكوك فيه إذا ما وضعنا في الاعتبار ما يتلقاه الإنتربول من معلومات سنوية عن سرقة الممتلكات الثقافية والأثرية من أقل من نصف الدول الأطراف.
الذوق الشخصي يحدد القيمة
تخضع الفنون الجميلة لتصاعد حاد في الأسعار أكثر من السلع الأخرى. لأنه يمكن فجأة تعزيز القيمة من خلال الأشياء غير الملموسة الذاتية، مثل الذوق الشخصي. هنا تكون مهمة مسؤولي الجمارك وضباط إنفاذ القانون لكشف غسيل الأموال شبه مستحيلة. فعلى سبيل المثال، إذا دفع مشتر ذو نية سيئة 35 مليون دولار أمريكي مقابل تحفة فنية رائعة ربما اشتراها بمبلغ 25 مليون دولار أمريكي فقط من أجل نقل أمواله غير المشروعة، سيكافح موظف الجمارك العادي لتحديد قيمة هذه التحفة.
هذا ليس مفاجئًا، نظرًا لأن سوق الفن نفسه يتسامح أو يدعو حتى إلى طرح السؤال «ما هو الفن؟».
الثغرات التشريعية في القوانين المطبقة على أسواق الفن
ترتبط قلة المحاكمات والإدانات الناتجة بحقيقة أن غالبية أسواق الفن الأوروبية تخضع للقانون المدني. حيث تتم مقاضاة إتلاف وسرقة الأعمال الفنية جنائيًا. لكن حيازة الأعمال المسروقة ليست كذلك. قوانين القانون المدني -في فرنسا وسويسرا مثلاً- تحمي المشترين الصادقين على مصالح المالكين المحرومين.
في خطوة لحل هذه الأزمة، حددت اتفاقية المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص (UNIDROIT) لعام 1995 بشأن القطع الفنية المسروقة أو المصدرة بطريقة غير مشروعة، معيارًا أكثر صرامة للمشترين يتضمن العناية الواجبة بأصل القطع الفنية، بدلاً من حسن النية. لكن السوق الرئيسية في دول مثل بلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة لم تصادق على هذه الاتفاقية. وهو ما جعل سوق الفن منخفض المخاطر وذو مكاسب عالية للمجرمين المنظمين والإرهابيين والميليشيات.
إن أزمة أسواق الفن ليست ذات صلة بالفراغ القانوني، وإنما تتعلق بمستويات العناية الواجبة في تتبع التحف الفنية. فوفق ما تشير إليه التقارير، شهد العام 2015 تطبيق 167 قانونًا ولائحة على سوق الفن البريطاني. لكنها بقيت سوق غير متسقة بشكل عام، تسمح بالثغرات التشريعية للمجرمين، الذين يستخدمون -على سبيل المثال- الموانئ الحرة للدخول عمدًا إلى أسواق الفن المشروعة.
مطاردة أفروديت.. الموانئ الحرة لتهريب الآثار
على مدار خمسة أعوام بدءًا من 1995، قاد الصحفيان جاسون فالخ ورالف فرامّولينو تحقيقًا نشرا نتائجه في دراسة بعنوان «مطاردة أفروديت»، حول وقائع تهريب قطع أثرية عبر ميناء جنيف الحر، الذي استُخدم كملاذ لشبكة دولية متخصصة في نهب الآثار، كانت على صلة بمتحف جيتّي في مدينة لوس أنجلس. وقد طفت القضية لأوّل مرّة على السطح على إثر تحطّم سيارة كان يقودها شرطي إيطالي في منتصف الطريق تقريبًا بين نابولي وروما. حيث عثرت الشرطة على أدلّة داخل السيارة المحطّمة، واتصلت بالسلطات السويسرية ونظّمت بالتنسيق معها هجومًا على غرفة توجد بالطابق الرابع بالميناء الحر بجنيف. حيث كانت تستخدم كمقرّ لإحدى الشركات المتعاونة مع جياكومو ميديسي، أحد مهرّبي الآثار من أصل إيطالي.
الهجوم حينها أسفر عن العثور على 3000 قطعة أثرية تعود إلى مقابر أثرية قديمة يوجد أغلبها في إيطاليا. أما الإكتشاف الأهمّ من ذلك فتمثل في وضع الشرطة يدها على وثائق مفصّلة لجميع الصفقات التي أنجزت حتى ذلك الوقت. واتضح أن البعض منها أبرم مع العديد من المتاحف الرائدة في العالم. وفي أعقاب ذلك، قامت سويسرا بتعديل التشريعات لتعزيز الشفافية داخل الموانئ الحرة.
تشير التقارير أيضًا إلى احتمال تسهيل الجرائم المتعلقة بالتحف الفنية والثقافية بعد إعلان المملكة المتحدة عن إنشاء ما يزيد عن ثماني مناطق حرة جديدة كجزء من استراتيجيتها التجارية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
قالت حكومة المملكة المتحدة حينها إنها لا تنوي تخصيص الموانئ الحرة لأغراض التخزين الفاخر عالي القيمة. لكنها لم تصل إلى حد الالتزام الصارم بعدم استخدام الموانئ الحرة لتخزين الأعمال الفنية والآثار، وفق ما تشير الدراسة التي أجراها معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية. ما يمثل مشكلة كبيرة. خاصة بالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي هو سوق فني متواضع مقارنة بالأسواق الثلاثة الأكبر -الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة- والتي تشكل 82% من إجمالي المبيعات العالمية، من حيث القيمة، وليس لديها تشريعات تقييدية مماثلة لما في أوروبا.
الشركات الوهمية والهروب من العقوبات
تُستخدم «الشركات الوهمية» أيضًا في التسلل إلى أسواق الفن، مستفيدة من ميزة كونها أقل قابلية للاكتشاف من الجهات الراغبة في غسيل أموالها غير المشروعة. وقد أشارت وثائق مسربة إلى مثال لهذا النشاط المتزايد في حدته، بضلوع الملياردير أركادي روتنبرج -أحد أقرب أصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- في استخدام مصرف باركليز في لندن لغسل الأموال والالتفاف على عقوبات فُرضت على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
وفق الوثائق، ففي عام 2008، فتح مصرف باركليز حسابًا لشركة تدعى «أدفانتج أليانس». وقد نقلت هذه الشركة 60 مليون جنيه إسترليني بين عامي 2012 و2016. وتمت معظم التحويلات بعد فرض العقوبات على روتنبرج وشقيقه لصلتهما ببوتين.
وفي يوليو من هذا العام، اتهم تحقيق أجراه مجلس الشيوخ الأمريكي عائلة روتنبرج باستخدام عمليات شراء سرية لأعمال فنية باهظة الثمن للتهرب من العقوبات. وكانت «أدفانتج أليانس» إحدى الشركات المشاركة في المخطط. وخلص المحققون الأمريكيون إلى وجود أدلة قوية على أن أركادي روتنبرج يملك «أدفانتج أليانس».
وفي أبريل 2016، باشر مصرف باركليز تحقيقًا داخليًا في العديد من الحسابات التي اشتبه في ارتباطها بعائلة روتنبرج. وبعد ستة أشهر، أغلق المصرف حساب شركة «أدفانتج أليانس» بعد إثارته مخاوف من استخدامه لنقل أموال مشبوهة. لكن الوثائق المسربة أظهرت أن حسابات أخرى في باركليز، يشتبه بارتباطها بعائلة روتنبرج، ظلت مفتوحة حتى عام 2017، مثل شركة «آيرتون دفلوبمنت ليميتيد».
تمويل الجماعات الإرهابية والميليشيات
إن فترات النزاع المسلح أو التمرد أو النشاط الإرهابي تجعل الموارد الثقافية أكثر عرضة للخطر بشكل ملحوظ. وقد تجلى ذلك في الثمانينيات من القرن الماضي باستفادة الخمير الحمر في كمبوديا من الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. وكذلك قيام حركة طالبان وآخرين بذلك في أفغانستان في التسعينيات. وفي الآونة الأخيرة، نقب الجيش السوري الحر عن الآثار لبيعها مقابل أموال لشراء أسلحة.
وبحسب ما أوردته التقارير، فقد سيطر تنظيم داعش على النهب والاتجار من خلال نظام تصاريح. حيث فرض ضريبة قدرها 20% على أي عائدات من بيع الآثار.
تشير دراسة معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية إلى أن تورط الإرهابيين في نهب الممتلكات الثقافية يتسم بـ «نهج الاستغلال المزدوج». لأن إزالة التراث الثقافي والاتجار به يدعم الأهداف الأيديولوجية للإرهابيين كما يولد الأموال. فبالنسبة لداعش مثلاً، لم يولد نهب الآثار وبيعها أموالاً فحسب. بل أدى أيضًا إلى القضاء على بقايا فترة ما قبل الإسلام في بلاد ما بين النهرين. ولمثل هذه الأسباب، أصدرت منظمة اليونسكو تحذيرات بشأن الأضرار المحتملة والنهب للتراث الثقافي الأفغاني. ذلك في أعقاب استيلاء حركة طالبان على السلطة.
الجماعات الإرهابية في نهبها للتحف الفنية تختلف عن الجماعات الإجرامية المنظمة، التي تهتم بالربح وليس بالأهداف الأيديولوجية.
وفق الدراسة، يجب أن يأخذ صانعو السياسات عددًا من الاعتبارات في استراتيجيتهم لإدارة أزمة استغلال أسواق الفن في غسيل أموال الإرهاب وجماعات الجريمة. ومنها تشديد العقوبات الجنائية على حيازة وبيع القطع الفنية والأثرية المسروقة. إلى جانب تنظيم دور خبراء الفن لمنعهم من إضفاء الشرعية على الأصل الزائف. وهذا مهم بشكل خاص نظرًا لأن رأي الخبراء الأولي غالبًا ما يكون بمثابة أساس للمبيعات المتكررة من قبل صالات العرض أو المعارض في المتاحف.
أيضًا، يجب إنشاء وحدة خاصة تابعة لليوروبول، تتعاون مع منظمة الجمارك العالمية (WCO) والإنتربول في تعقب القطع الفنية المسروقة.
وقد نجح مثل هذا التعاون في الكشف عن عملية غسيل أموال عديدة باستخدام الشركات الوهمية وتجارة القطع الفنية والأثرية المسروقة، فيما يُعرف بوثائق «باندورا»، التي أعلن عنها الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين في أكتوبر الماضي، وتضمنت ما يقرب من 12 مليون مستند، يكشف عن ثروات سرية، وتهرب ضريبي، وغسيل أموال من قبل بعض زعماء العالم وأثريائه.