مفتتح*:

أُغَنّي لمن، والأمانيُ قاحلةٌ، والكلامُ مُعادٌ، وما عَادَ سرٌ خبيئاً، وما عَادَتْ آلهةٌ تستجيبُ لقيثارتي؟

لماذا المفتتح؟

لأن الآذان المسدودة تؤدي إلى انسداد العيون وتصحر الضمائر واسوداد القلوب، حتى يتحول حارس المدينة الأعمى الأصم، إلى ثقب أسود يجلب اللعنات على كل من فيها

حكاية رمزية**

يحكى أن ملكا طاغية أصيب بالعمى، ولما عجز الأطباء عن علاجه، لجأ إلى العراف المحبوس منذ زمن في سجون المملكة، فقال له العراف: علاجك بمسحة من يد أم في ربوع المملكة، لم تدع عليك يوماً بالهلاك

ولأن الطاغية أحرق قلوب كل الأمهات بالظلم والتنكيل، فقد عاش أعمى، ويقال أنه أنجب كل من يحكمون البلاد بالظلم والتنكيل حتى اليوم.

نموذج للكلام المُعاد

في يوليو من عام 2014 كتبت مقالا عن مصر وأفريقيا بعنوان “برقيات الماعز وسياسة الفرص الضائعة فى العمق الأفريقي” بدأته بهذه الفقرة:

“أخشى أن تستمر إدارة السيسى فى التعامل الموسمى مع أفريقيا، بعد الأداء الجيد الذى عادت به مصر فى القمة الأخيرة، ومصدر خوفى ينبع من تآكل العلاقات والكوادر الدبلوماسية الفاعلة فى هذا الملف طوال عقدين كاملين، وذلك بالرغم من وجود معهد للدراسات الأفريقية، وباحثين فى هذا المجال، ومصالح تجارية وسياسية وأمنية وجغرافية أيضا، لكن مراكز الدراسات، والاجتهادات النظرية، والبيانات المناسباتية لا تصنع سياسة، السياسة تصنعها المصالح المشتركة، والمشاريع العملية، والحضور الدائم”.

(1)

ذات صباح شتوى قبل أيام من الحرب الأمريكية على العراق، كنت مع وزير الحربية ورئيس المخابرات الأسبق أمين هويدى فى منزله بمنطقة الجامع في مصر الجديدة، ومعنا الدكتور أنور عبد الملك، وتطرقت المناقشات إلى دور مصر فى المنطقة، ورؤية الإدارة المصرية للمستقبل، كان هويدى فى السنوات الأخيرة من حياته عاطفياً شديد التأثر بما يتعرض له من نكران وجحود، لدرجة أنه بكى أمامى 4 مرات فى آخر 7 لقاءات جمعتنا، في ذلك اليوم أدمعت عين الرجل وهو يتحدث عن هوان مصر مع جيرانها، وأفاض فى الحديث عن طبيعة علاقتنا بالسودان وليبيا، والمخاطر التى تنتظرنا فى العمق الأفريقى، وأراد الدكتور عبد الملك أن يداعب هويدى ويخفف من تأثره فتحدث عن عملية تدمير الحفار الإسرائيلى على شواطئ ساحل العاج، ومقدرة محمد نسيم (نديم قلب الأسد) على تمرير المتفجرات والتجهيزات عبر حدود 7 دول أفريقية، حتى تم تنفيذ العملية بنجاح، بالتعاون مع شخصيات أفريقية، والاستفادة من ترتيبات لوجستية سهلت الحركة والقدرة على المناورة والخداع.

التقط الجنرال خيط الحديث بحماس، وقال إن الأمن القومى الآن فى أضعف حالاته، نظرا لغياب الرؤية، وبالتالى تتعثر حزمة الإجراءات التى يمكن اتخاذها للمحافظة على أهدافنا ومواردنا فى المستقبل  (وليس فى الحاضر فقط)، وأشار هويدي إلى الدور الإسرائيلى فى أفريقيا، وقال بمرارة “إننا نعيش عصر الفرص الضائعة فى كل الجبهات”.

(2)

خيبتنا فى إفريقيا إذن ليست مفاجأة، فهى معروفة لكل المراقبين منذ سنوات طويلة، لكننى سأركز اليوم على شهادة للدكتور بطرس غالى الذى يعرف خبايا الملف الأفريقى، ومدى الإهمال الذى أدى إلى ما وصفه بأنه “كوراث تهز المحيط الواقى لأمن مصر القومى، وتهدد مصادر المياه فى بلاد المنبع”.

وفى الشهادة التى تضمنتها مذكراته قال غالى إن موبوتو سيسيكو حاكم زائير (الكونغو حاليا) كان شديد الاقتناع بالدور المصرى فى أفريقيا، وسعى لتأسيس حلف ثلاثى فى بداية التسعينات “يضم بلاده ومصر ونيجيريا”، يتولى تقرير مصير القارة، وطلب منى أن أدرس هذا المشروع وأعرضه على الرئيس مبارك، وبالفعل عرضته على الرئيس الذى استمع إليّ مشككاً، دون أن يعطينى أى توجيهات لمتابعة المهمة”.

(3)

فى فبراير 1998 التقى بطرس غالى مع رجل إثيوبيا القوى ميليس زيناوى، الذى خرج عن جدول أعمال الاجتماع الخاص بالفرانكفونية وقال لغالى: “أفضل أن نناقش موضوع العلاقات بين مصر وإثيوبيا، أنت خبير بهذا الملف، ونريد أن نتباحث فيه.. إن لبلدينا هدفين مشتركين هما: محاربة الأصولية الإسلامية، وتقاسم مياه النيل.. لكن لدى تقارير مؤسفة عن أعمال تقوم بها مصر، تشعرنى بحالة من العداء تجاه بلدى.

ميليس زيناوى
ميليس زيناوى

فوجئ غالي بصراحة الفتى المدلل لبيل كلينتون حينذاك، وحاول طوال ساعتين من المحادثات أن يطمئن زيناوى بأن المصالح الاستراتيجية المشتركة بين البلدين تقتضي التغاضي عن الصغائر وتجاوز مظاهر سوء التفاهم

تجاوب زيناوى (على الأقل ظاهريا) مع تطمينات غالي، وعامله والوفد المرافق له بحفاوة بالغة، وعندما عاد غالى إلى القاهرة التقى الرئيس مبارك فى 2 مارس 1998 ليحيطه علما بمحادثاته مع زيناوى والجهود التى يجب أن يبذلها البلدان لاقتسام مياه النيل، لكن مبارك قفز على الموضوع وأهمل الرد.

(4)

يعلق غالى على الموقف قائلا: سمعنى الرئيس مبارك بانتباه، لكننى شعرت أنه لايهتم بما أقول، فقد كان دائما منشغلاً بمشاكل داخلية قصيرة المدى، أكثر من انشغاله بقضية كبرى مثل المياه، التى تبقى بالنسبة له مشكلة بعيدة المدى.

ويؤكد غالي في مذكراته على الفارق بين موقفه وموقف الرئيس فيقول: فى الحقيقة إن قضية مياه النيل تشكل بالنسبة لى اهتماما كبيرا، ولا أتصور أن تكون هذه القضية فى مطلع أولوياتى بينما هي بعيدة عن تفكير الرئيس، بل والإدارة كلها، فقد التقيت في المساء مع الوزير عمر سليمان مدير المخابرات والذى يتابع عن كثب العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، وأبلغته بما دار بيني وبين زيناوي، وكذلك بيني وبين الرئيس مبارك، ووعدنى سليمان بالاهتمام بهذه القضية التى يعتبرها أساسية، لكن لم يحدث شيء”.

يعلق غالى على الموقف قائلا: سمعنى الرئيس مبارك بانتباه، لكننى شعرت أنه لايهتم بما أقول، فقد كان دائما منشغلاً بمشاكل داخلية قصيرة المدى، أكثر من انشغاله بقضية كبرى مثل المياه، التى تبقى بالنسبة له مشكلة بعيدة المدى.

(5)

بعيداً عن الرئاسة والمخابرات حاول غالي أن ينقل القضية إلى العقل السياسي، وحسب ما دونه في مذكراته قال: التقيت بعد ذلك مع أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس وأفصحت له عن مخاوفى من السياسة المصرية فى أفريقيا، وقلت له بوضوح: إنكم تهملون ملف السودان ومشكلة مياه النيل.. لقد تخليتم عن أى حضور فاعل فى منظمة الاشتراكية الدولية، منذ أن استقلت من منصبى كنائب لرئيس المنظمة عام 1991، وكان الباز خلال مقابلاتنا السابقة كلها يدون الكثير من الملاحظات، ثم يهملها أو ينساها بعد اللقاء.. لكنه اليوم (الأحد 3 يناير 1999) لم يقم حتى بهذا المجهود الشكلي في التدوين.. واكتفى كعادته بهز رأسه، ويقول بصوته الأخن عبارة من هنا وعبارة من هناك.

(6)

بعد لقاء غالي والباز بيومين (الثلاثاء 5 يناير) كان الموضوع لا يزال يسيطر على تفكير غالي ففتحه مع وزير الخارجية عمرو موسى، الذي أظهر وعياً بالقضية واهتماماً كبيرا بالملف السودانى ومشكلة إدارة مياة النيل، وكان موسى (حسب ما قاله غالي) يرى أن القضية الفلسطينية فى طريقها إلى حل دولى، لذلك يجب علينا العودة إلى مشكلة النيل، وتكريس كل جهدنا لتوطيد العلاقات مع السودان، وهو موضوع كانت له الأولوية دوما فى نظر الدبلوماسية المصرية، لكن هذا الملف للأسف (والكلام لموسى) موزع بين عدة سلطات: رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الخارجية، ووزير الرى، وأنا متخوف من هذا التشتت.. لأنه قد يهدر جهودنا.

وعند هذه النقطة اقترح غالي الاعتماد على منظمات وجماعات غير رسمية مثل “منظمة الاشتراكية الدولية”، مؤكدا أنها وسيلة مهمة أهملناها منذ عدة سنوات، فلماذا لا يتم تسمية دبلوماسى للتواصل معها للمساعدة فى هذا الدور؟، خاصة وأنها ستمنح مصر الفرصة لحضور الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات الدولية فى أفريقيا؟.

ويقول غالي: لكن موسى لم يرد، لأنه مثل جميع الدبلوماسيين الرسميين لا يبدى اهتماما كبيرا بالمنظمات غير الحكومية.

(7)

يسجل غالى حكاية طريفة تكشف مهزلة تعامل الدبلوماسية المصرية في أفريقيا الخطير، فأثناء زيارة عمرو موسى لدولة مالى أهداه الرئيس عمر كونارى “ماعز”، واهتم الوزير (المعروف بمراعاته للبروتوكولات الرسمية) بإرسال عدة برقيات مشفرة إلى القاهرة، يسأل فيها: ماذا عليه أن يفعل بهذا الضيف غير المتوقع الذى يعيش فى حديقة السفارة، لكن القاهرة لم ترد، فترك موسى الماعز تحت تصرف السفير عصام فتح الله، ولم يعطه أى تعليمات بالتصرف، وحدث في إحدى الزيارات أن تلقى غالى نفس الهدية من كوناري، فلما سأله السفير: هنتصرف إزاي؟

أجابه ضاحكاً: إذبح الجدى وووزع لحمه على المحتاجين، دون أى حاجة لسؤال القاهرة وانتظار الجواب!

(8)

هذه أمثلة من تعامل السياسة المصرية في الرئاسة والاستخبارات والسلك الدبلوماسي مع أفريقيا، ثم نأتي اليوم لنتحدث عن المشكلة كأنها نتيجة لثورة شعب في الألفية الثالثة!

محطة تأمل***

# لا أحد مسؤول عن هزيمتي، أنا المسؤول لأننى كنت أخطر عدو لنفسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

* مقطع تكراري من قصيدة “من متواليات المغني والنهر” للشاعر الراحل على قنديل، وتعبير “والأماني قاحلة” راج في النشر بعد ذلك  بصيغة “والأغاني قاحلة”

** التيمة الرئيسية للحكاية الرمزية، مستوحى من مسرحية “الملك الأعمى” للشاعر ناظم حكمت

*** محطة التأمل منسوبة لنابليون بونابرت