نشر أستاذنا عبدالعظيم حماد في العاشر من هذا الشهر (نوفمبر ٢٠٢١) مقالا بنفس العنوان في مصر لماذا يهتم-الغرب-بديمقراطيتنا؟، والمقال من وجهة نظري بالغ الأهمية في توقيته ومضمونه. أهميته تنبع من اعتبارات عدة:

أولها أنه يلقي حجرا في تفكيرنا السياسي الذي جمد عند مراحل سابقة ارتبطت -علي حد قوله- بالحرب الباردة، ولم يتحرك لإدراك التطورات التي يموج بها العالم في كل حدب وصوب.
كما يطرح المقال- ثانيا- العلاقة بين تطلعات الجماهير وحراكها نحو الحرية والعدالة الاجتماعية وبين الموقف الدولي خاصة الغربي منه تجاه هذا التحرك. فمما لا شك فيه أن حقبة الربيع العربي -التي تجاوز عمرها العقد من السنين- أبرزت مدي التداخل بين المستويات الإقليمية والدولية والوطنية إلى حد كبير، كما لا يمكن لقوى التغيير في المنطقة في سعيها لتحقيق هذه التطلعات إلا أن تدرك بعمق وفهم خرائط المواقف الدولية المختلفة من هذه التطلعات، هي تفعل ذلك موقنة أن المحدد الأول والأخير هو ما تصنعه على الأرض في ظل موازين القوى الداخلية، وتظل مواقف الأطراف الدولية والإقليمية مما يساعد فقط هذا الحراك على تحقيق أهدافه.
أزمة الانتقال الديموقراطي في السودان
أزمة الانتقال الديموقراطي في السودان
توقيت المقال مهم في ظل ما يجري في السودان من تطورات سبقتها قرارات قيس سعيد الانقلابية على المسار الديموقراطي في تونس وحديث في مصر لا ينتهي حول علاقة إدارة بايدن بمسألة حقوق الانسان؛ ففي “حین تصوغ إدارة بایدن أھداف سیاستھا الخارجیة الأوسع إزاء المنطقة، ومن بینھا تلك المرتبطة بالدیمقراطیة وحقوق الإنسان، فإنھا تواجه واقعا لم تعد فيه الاحتجاجات استثناء بل سمة راسخة للوضع القائم.”- علي حد قول شينكر واشنطن و”الربيع العربي” القادم: الاحتجاجات والأولويات| The Washington Institute- مسئول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي زمن ترامب
ورابعا: فإن المقال يأتي في سياق ما أطلقت عليه حقبة ما بعد سبتمبر.
والتي تعيد فيها الولايات المتحدة رسم علاقتها بالعالم ومنه “الشرق الأوسط الكبير “بما يتضمنه من أولويات جديدة جيوسياسيا (المحيطين الهادي والهندي بدلا من الشرق الأوسط) بالإضافة إلى أجندة جديدة للأمن العالمي؛ فقد بدت أجندة واشنطن العالمية تشبه تلك التي وصفها بايدن في خطابه أمام مجموعة الدول السبع الكبرى أبريل الماضي: تنظيم العالم لمكافحة تغير المناخ، وتعزيز  أنظمة الصحة العالمية، والتركيز على آسيا مع احتواء روسيا، ويضاف إليها تحالف الديموقراطيات ودعمها علي المستوى الدولي.
لقد كان من سمات حقبة سبتمبر تراجع الديموقراطية ودعم النظم الاستبدادية: فعلي مدار العقدين الماضيين التي تصاعد فيهما الحرب على الإرهاب تراجعت فيه الديموقراطيات في العالم- كما رصد بيت الحرية في مؤشراته المتتالية.
في العلاقة المباشرة بين الحرب على الإرهاب وتصاعد الدكتاتوريات يمكن الإشارة إلى التحالف الذي بات مهما مع النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي مقابل مساهمتها في هذه الحروب، وهذه النظم قد فاقمت من استبدادها -أيضا- بحجة الحرب على الإرهاب، بما يمكن معه القول إن هذه الحرب كانت دائمًا في حالة حرب مع نفسها؛ فالدول الغربية “الليبرالية” وعلى رأسها الولايات المتحدة تدعم القمع والأنظمة المستبدة بينما تتشدق بالقيم الديمقراطية، كما بات العالم أكثر استعداد لزيادة نظم المراقبة وانتهاك الخصوصيات بحجج مختلفة جوهرها الخوف والفزع من الكائن الاسطوري المسمي بالإرهاب.
وأخيرا فإن المقال كتب عشية الاستعداد لقمة بايدن العالمية عن الديموقراطية المزمع عقدها الشهر المقبل لبناء تحالف الديموقراطيات في مواجهة النظم التسلطية.
في أمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية، وأستراليا، ونيوزيلندا؛ تم تسجيل عام 2010 هجوم إرهابي يميني متطرف واحد فقط في تلك الأماكن؛ لكن في عام 2019، كان هناك 49، وهو ما يمثل ما يقرب من نصف جميع الهجمات الإرهابية في تلك الأماكن وأسفر عن 82 في المائة من جميع الوفيات المرتبطة بالإرهاب هناك.

دعم الديموقراطية يبدأ من الداخل

الأطروحة الأساسية التي يقدمها لنا أ. حماد في مقاله أن السبب الأهم لدعم الغرب للديموقراطية في المنطقة هو خشيتهم على نموذجهم الديموقراطي، أو على حد قوله فإنهم: “يخشون على الديمقراطية في بلادهم، ولذا يعملون على وقاية مجتمعاتهم ونظمهم السياسية. ومستوى معيشتهم بتجفيف منابع الخطر القادم إليهم من منطقتنا، والذي يتهددهم بموجة جديدة من الفاشية القومية تكتسح كل مكتسبات ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب وفي العالم”.
ولن يتأتى ذلك وفقا لحساباتهم إلا “بتحسين ظروف الحياة في هذه المنطقة العربية الإسلامية، التي لا تصدر إليهم مهاجرين غير شرعيين ولاجئين فقط، ولكنها تصدر إليهم أيضا أو إلى المسلمين والعرب عندهم أفكارًا خطيرة، ودعايات مسمومة، وكراهية متأججة” -على حد قوله، ويضيف: “ووفقا لتلك الحسابات أيضا يرون أن بناء دولة قانون ومواطنة وتكافؤ فرص ومشاركة بلا إقصاء وحكم رشيد في دول هو أقصر وأسلم طريق للوقاية من كل تلك الشرور، التي تتوالد وتتكاثر داخل مجتمعاتهم ردا على تلك الصادرات غير المرحب بها”.
تتفق هذه المقولة الأساسية مع تصاعد الخطاب في الولايات المتحدة عن أزمة الديموقراطية في الوطن الأم، بالإضافة إلى خطر تصاعد اليمين المتطرف؛ فإن الواقع المحزن لحالة الديمقراطية الهشة في الولايات المتحدة -لا سيما في أعقاب تمرد 6 يناير باقتحام مبني الكابيتول في واشنطن- قد أضعف قدرة واشنطن على الترويج للقيم الديمقراطية في الخارج، كما انتقل الحديث في الخطاب الأمريكي من ١١ سبتمبر -حيث مهاجمة برجي التجارة ٢٠٠١- إلى ٦ يناير ٢٠٢١ حيث مهاجمة مبنى الكابيتول دلالة وإدراكا لخطورة اليمين المتطرف، فقد بلغت الزيادة في عنفه ذروتها في هجوم 6 يناير؛ ذلك الهجوم الوحشي الذي غذته أفكار اليمين المتطرف التي أصبحت سائدة.
في أمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية، وأستراليا، ونيوزيلندا؛ تم تسجيل عام 2010 هجوم إرهابي يميني متطرف واحد فقط في تلك الأماكن؛ لكن في عام 2019، كان هناك 49، وهو ما يمثل ما يقرب من نصف جميع الهجمات الإرهابية في تلك الأماكن وأسفر عن 82 في المائة من جميع الوفيات المرتبطة بالإرهاب هناك.
التغييرات جارية في الولايات المتحدة أيضًا؛ ففي أكتوبر 2020، أعلن تقييم التهديد السنوي لوزارة الأمن الداخلي أن التطرف العنيف المحلي (ويقصد اليميني) هو التهديد الأكثر إلحاحًا وفتكًا الذي يواجه البلاد.
وتتبقى نقطة لم يناقشها المقال وإنما أشار إليها سريعا وهي تلك التي تتعلق بالأسباب الكامنة وراء تصاعد اليمين وتهديده للمثال والقيم الغربية؛ فقد أشار سريعا إلى العولمة باعتبارها أحد أسباب تصاعد اليمين، إلا أنه ألقى باللائمة على المسلمين والعرب باعتبارهم السبب الرئيسي لتصاعدها. تظل مسألة المهاجرين سببا في تصاعد اليمين المتطرف، إلا أن هذا السبب لا يمكن أن يأخذ وزنه النسبي دون إدراك للعوامل الأخرى وفي مقدمتها أزمة الديون والتقشف ومجمل المشاكل الاقتصادية التي يتعرض لها النموذج الرأسمالي الغربي بشكل دوري.
وأخيرا وبغض النظر عمن يرى أن ورقة المهاجرين سببا لتصاعد اليمين أم تستخدم وتوظف من قبله لتوسيع شعبيته، إلا أنه يبدو برغم تراجعهم الانتخابي مؤخرا أن “التأثير الذي أحدثته تلك الأحزاب على الخطاب السياسي قد أدى إلى تعميم نوع من الإغلاق القائم على الهوية والمناهض للمهاجرين والذي يدعو إلى التساؤل حول هدف أوروبا [والغرب] ومعناها ، سواء في الداخل أو في الخارج” -علي حد قول رئيس تحرير “ورلد برس ريفيو”.

سياقات أوسع

في علاقة الغرب بديموقراطيتنا هناك عدد من المحددات المستمرة من السياسات السابقة، وسياقات مستجدة أوسع من مسألة تصاعد اليمين المتطرف. في القديم نجد المفاضلة بين الديموقراطية والمصالح أو القيم والمصالح، إلا أن المحرك المتنامي المستجد للمفاضلات بين الديمقراطية والأمن في الجهود الأمريكية المتزايدة هي إدارة المنافسة الاستراتيجية مع الصين، ففي حين أن ضمان “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة” يعتمد على الشراكات مع الحلفاء الديمقراطيين الرئيسيين، وقبل كل شيء أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، فإن استجابة الولايات المتحدة لصعود الصين تتضمن أيضًا الحفاظ على العلاقات الأمنية أو تعميقها مع مجموعة من منتهكي الديمقراطية، مثل الهند والفلبين، وكذلك بعض الأنظمة الاستبدادية الصريحة مثل تايلاند وفيتنام.
منطقتنا ليست بعيدة عن هذا الصراع، فالموقف الغربي مما يجري في السودان أحد محدداته التنافس مع كل من الصين وروسيا في أفريقيا عامة وفي القرن الأفريقي خاصة.
السودان
السودان
كما تؤكد عديد التحليلات على تنوع وتعقيد الطرق التي تظهر بها معضلة الديموقراطية والمصالح، فالمقايضات يمكن أن تختلف اختلافًا كبيرًا من بلد لآخر، وبمرور الوقت أيضا حتي ضمن حدود علاقة ثنائية واحدة.
الاستنتاج المنطقي المركزي هو أنه لا توجد صيغة واحدة لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان تناسب جميع الحالات في المنطقة. بدلاً من ذلك، يقدم كل بلد مزيجًا فريدًا من التحديات والفرص، والمفاضلات بين الأهداف المتنافسة المحتملة، والآفاق قصيرة الأجل مقابل التوقعات طويلة الأجل للتغيير الإيجابي، كما أن دول الشرق الأوسط اليوم تبدأ من أماكن مختلفة إلى حد كبير.
في الختام نشير إلى نقطتين مرتبطتين طرحتهما حقبة الربيع العربي: الأولى تخص مسألة “الاستثمار في الاستقرار”. الانتفاضات العربية والاستثمار في الاستقرار.
فهناك طلب متزايد منذ لحظة انفجار الربيع العربي على الاستقرار من الأطراف الفاعلة كافة -وطنية وإقليمية ودولية- في المنطقة العربية، بما يدفعها جميعا للاستثمار فيه، إلا أن التنافس فيما بينها حول تحديد مضمونه ومحاولة فرضه والمقايضات المطلوبه له أحد الأسباب الأساسية وراء ما بات يعرف بــ”الإنهاك العربي”.
والنقطة الثانية هو ما لحظته علي خطاب مراكز التفكير الغربي مؤخرا من انتقال بالحديث عن الديموقراطية وحقوق الانسان (الباء للمصاحبة والاستمرار) إلى كيفية التعامل مع الاحتجاجات العربية واشنطن و”الربيع العربي” القادم: الاحتجاجات والأولويات | The Washington Institute
فبعد مرور عشر سنوات على “الربیع العربي”، لا تزال الظروف التي أشعلت فتیل الاحتجاجات قائمة في معظم الدول التي شھدتھا – وفي كثیر من الحالات، ساءت تلك الظروف. ونتیجةً لذلك، شھدت المنطقة خلال العقد الماضي تظاھرات مستمرة، مما یشیر إلى أنه حتى الأشكال الأكثر اعتدالاً من الاضطرابات أصبحت “الوضع الطبیعي الجدید” في الشرق الأوسط وشمال أفریقیا. وفي بعض الحالات -وأبرزھا في عام 2011 وثانیة في عام 2019- تضخمت الاحتجاجات إلى أن أصبحت أحداثا سیاسیة بارزة أدت إلى الإطاحة بالقادة.