روشتة قديمة لمرض مقيم، لم يفارقنا ولم نفارقه، وكاتُبها واحد من أوائل المتخصصين في الأمراض التي استوطنت أقطار العرب وبلدان المسلمين، هذا تخصصه العام، أما عن التخصص الدقيق فهو أستاذ ورئيس قسم مناهضة الاستبداد، وعلاج الديكتاتوريات المتوطنة.

له كتابان وصلا إلينا، وآخران لم يُطبعا، والكتابان متكاملان في أنهما يشخصان الأدواء، ويتلمسان السبيل للنهضة، أولهما كتاب «أم القرى» وفيه تشخيص أوضاع العرب والمسلمين في كل أقطارهم، والثاني «طبائع الاستبداد» وهو تشخيص وعلاج لداء كل الأدواء، ورأس كل بلاء، داء «الحكم المطلق والاستبداد السياسي».

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

لو أن الأمر بيدي لجعلت كتابه الممتع «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» مقرراً على طلاب المرحلة الثانوية، وأعدت تدريسه في الجامعة لجميع طلابها بكافة تخصصاتها العلمية والعملية والنظرية. وما زلت أتتمنى أن يكون كتاب «الطبائع» في يد كل فتى وفتاة، وأن يطبع ويوزع على كل بيت بالمجان، وأن يقام لصاحبه تمثال في أكبر ميادين القاهرة التي عشقها ولجأ إليها ومات فيها مغدوراً من سلطان الأتراك عبد الحميد الثاني.

**

لو بحثت طويلاً عن رجل كرَّس حياته لقضية واحدة، جمعت عليه كل أفكاره، وناضل من أجلها كل حياته، وقُتل في سبيلها وهو ينافح عنها، فلن تجد أحداً مثل «عبد الرحمن الكواكبي» مثالاً ونموذجاً، بل لعله الوحيد من بين رواد النهضة العربية الذي قضى جُل حياته النضالية في سبيل مقاومة ظاهرة الاستبداد والتحذير من مخاطره، وتبصير الأمة بمساوئه، التي تسببت في أن يبقى المسلمون والعرب قرونا عديدة تحت نير الاستعباد والاستعمار والديكتاتورية، هذا الثالوث الذي تحالف على الأمة طوال تاريخها حتى اليوم ليُنهك قواها، ويؤخر نهضتها، ويحول دون تقدمها، وتطورها، ويؤجل انعتاقها من التخلف والتردي.

كتاب «الطبائع» الصادر (1902)، يتحدث فيه «الكواكبي»  عن أوضاع تكاد تكون مطابقة لما نعيش فيه، وتكاد عبارته البليغة تصف حالنا بعد ما يزيد على قرن وربع القرن، وقد اعتبره صاحبه «كلماتُ حقٍ، وصيحةٌ في وادٍ، إن ذهبت اليوم مع الريح، قد تذهب غداً بالأوتاد»، والحق أنه كان يبدو مفرطاً في التفاؤل، وربما لم يتصور أن تظل القضايا التي ناضلت وكافحت في سبيلها أجيال متعاقبة، جيل من بعد جيل، هي ذات القضايا التي ما نزال نكافح من أجلها حتى يومنا هذا، كأننا مربوطون في الساقية نفسها، ندور في حلقات مفرغة، حلزونية تفضي أولها إلى آخرها، بدون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ندور في نفس الفلك ومحكومون بنفس الأفق.

الكواكبي
الكواكبي

**

لا يُولد المستبدون وفي أيديهم شهادة ميلاد مدون فيها في بند الصفة: «ديكتاتور مستبد»، بالعكس، هناك الكثير من الديكتاتوريات صنعت نفسها خطوة وراء أخرى، وكانت المادة الخام المستخدمة في صناعة الاستبداد هي مادة الخوف الأولية، يضاف إليها كثير من خامة النفاق الأصلية، بهما يرتفع بناء كل ديكتاتور، وبهما تمتد جمهوريته ويشتد استبداده.

وحسب «الكواكبي» فإن المستبد يستمد قوته من ضعف شعبه، وهوانه على نفسه، حيث يتغذى الديكتاتور على الخوف، ويطول عمره بالنفاق، لا يتطاول في استبداده بغير معاونة المحيطين به، رجال وأشباه الرجال، والدمى البشرية التي يحركها كما يشاء، لا تحرص على شيء قدر حرصها على المنفعة الشخصية والمصالح الخاصة.

الديكتاتور هو الابن الشرعي لزواج غير شرعي بين الخوف والنفاق، وهو النتيجة الطبيعية للمجتمع الخانع، الذي يخشى دفع ضريبة الكرامة، يستعبد نفسه للخوف، فيبيع حريته لقاء أمنه، ويتنازل عن إرادته لإرادة فرد يرى فيه المخلص الذي سرعان ما يستفحل أمره، بعدما يشتد عوده، ويتمكن من قوة موقعه، ليعود الشعب يكابد الأمرين من هذا الذي تصوره في يوم من الأيام مخلصاً والمنقذ الوحيد فإذا به يصحو على مرحلة استعباد تمت باسم الرضا الشعبي، وعنوانها الوحيد هو المستبد الجديد.

**

بيت سيء السمعة
بيت سيء السمعة

في مجموعته القصصية «بيت سيء السمعة» قصة قصيرة اسمها «الخوف»، يقدم فيها الأديب الكبير «نجيب محفوظ» درساً عميقاً من الحارة العتيقة التي كانت ترزح تحت بلطجة الفتوات، فتحولت إلى مجتمع ذليل مهان، يبحث كلُ فردٍ فيه عن السلامة الخاصة، والخلاص الفردي، حيث استنامت الحارة تحت تلك العيشة، حتى ظهر البطل المنتظر، والمخلص المرتقب، ضابط البوليس الشجاع أبو قلب حديد «عثمان الجلالي».

يبدأ «الجلالي» في الضرب بيد من حديد على الفتوات وسط إعجاب ودهشة وتشجيع أهل الحارة، الذين بدأوا يتغنون بفتوته وقوته وتصديه لتلك الجماعة التي حاولت أن تسيطر بالبلطجة على الحارة، وحاول كل فرد فيها التقرب إلى قلب «نعيمة» التي كانت نوارة المنطقة، يأتيها الخطاب، فتوة من بعد فتوة، كلهم يطلب يدها، ليأخذها لنفسه، وستمر الحال حتى يظهر «الجلالي» فيقضي على سلطة الفتوات والبلطجية، وينفرد وحده بالقوة، ويتسلطن على كرسي الفتونة، ويتوحد معه، حتى يتحول خطوة وراء أخرى إلى فتوة جديد أشد بطشاً، فيطمع ـ كما طمع البلطجية من قبل ـ في أن يأخذ «نعيمة» لنفسه، من دون شريك.

السؤال الذي يترك «نجيب محفوظ» إجابته لفطنة قارئ قصة «الخوف» هو: (هل حصلت «نعيمة» على حريتها حين تخلصت من الفتوات لينفرد بها الفتوة الأوحد).

**

قبل ستين سنة على كتابة «محفوظ» قصة «الخوف» في مجموعته القصصية «بيت سيئ السمعة» كان «الكواكبي» يكتب أن الخوف هو روح الاستبداد، حيث يحرص المستبد وأعوانه على نشر الرعب والخوف بين أفراد الرعية، (لأنّهم يعلمون يقينًا أن الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الاستبداد محتمة).

تفاؤل «الكواكبي» جعله يقول: «لن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح، إذا ولد رجال صادقون بعدنا يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة»، والغريب أن يأتي «محفوظ» بعد قرابة قرن من الزمان ليقول: (سألت شيخي: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة).

**

ختم «الكواكبي» الفصل الأخير من كتاب «الطبائع» بالحديث عما سماه (مبحث السَّعي في رفع الاستبداد)، وهو المبحث الذي يقدم فيه «روشتة الخلاص»، في ثلاثة قواعد رئيسية:

ـ أن الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة.

ـ أن الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج.

ـ أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد.

القاعدة الأولى يؤكد فيها أن الأمة عليها مسؤولية كبيرة في التحرر من الاستبداد، ويوضح فيها أهمية العمل على أن يتنامى الوعي العام بخطر الاستبداد على الحاضر والمستقبل، وأن (الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئًا؛ لأنَّ الثورة ـ غالبًاـ تكتفي بقطع شجرة الاستبداد، ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولًا).

وكأنه يحدثنا عن تجربتنا القريبة التي جربنا خلالها التغيير في الأشخاص، وبقيت نفس السياسات؛ حيث بقي جوهر النظام، ولذلك سوف يؤكد في النقطة الثالثة على ضرورة صناعة البديل القادر على تغيير طبيعة النظام؛ والبديل ليس أشخاصا؛ البديل لابد له أن يكون برنامجاً للتغيير الشامل، يبدأ بقضية استقلال القرار الوطني، ولا ينتهي إلا بالتوافق الوطني العام على الكيفية التي تحقق مطالب الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

**
والقاعدة الثانية والمهمة في روشتة «الكواكبي» تقوم على أنَّ الاستبداد لا يُقاوم بالشدة، إنما يُقاوم بالحكمة والتدريج، وهو يرى أنَّ الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس.

وهو إذ يؤكد على أن الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، يحذر من أن ينقلب الأمر إلى فتنة تحصد الناس حصدًا، بعد أن تخمد الثورة ويخرج الناس من المعادلة، وينتهي بها المطاف إلى التوهة الكبرى، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، وإن تغيرت الوجوه، لنجد أنفسنا من جديد أمام المهمة نفسها، ولكن للأسف هذه المرة في غيبة الناس، سواء كانت غيبة تغييب، أم غيبة إحباط. يقول «الكواكبي» بلسان قديم ما نقوله بلسان الوقت: إذا أردتم التغيير الحقيقي فانتزعوه خطوة وراء أخرى.

**
القاعدة الثالثة في مقاومة الاستبداد التي تتبناها روشتة «الكواكبي» تتمثل في تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد، ويشير إلى أن (معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئًا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقًا، بل لابد من تعيين المطلب والخطة تعيينًا واضحًا موافقًا لرأيِّ الكلِّ، أو الأكثرية التي هي فوق الثلاثة أرباع عددًا أو قوة بأس وإلا فلا يتمّ الأمر).

بصياغة عصرية فإن صناعة التغيير لا تقتصر على مظاهرة حاشدة، أو حتى على مليونيرات غاضبة، ثم يعود الجمع لينام ملء جفونه الخدر اللذيذ، جربناها ونتيجتها أمامنا واضحة للعيان، التغيير بالضربة القاضية نتيجته معروفة، حتى لو أعطونا الرأس، سبق وأن فعلوها، وفرحنا برأس مبارك التي طارت، وتلهينا بها، سنوات ليخرج بعدها إلى بيته، وبقي الجسد قادراً على انتاج نفس النوعية من الرؤساء.

**

لابد أن تكون خطة مقاومة الاستبداد واضحة حتى تضمن الالتفاف حولها، لأنها حسبما يرى «الكواكبي»: (إذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء ينضمّون إلى المستبدِّ، ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافّة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأَولى حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم).

التغيير بالنقاط هو الحل؛ معارك صغيرة يفضي الانتصار في أي معركة منها إلى الدخول في المعركة التي تليها؛ معركة يحضر الشعب فيها ولا يغيب عنها، معارك تهمه ويهتم بها، معارك تدافع عن حقوقه ومصالحه ولقمة عيشه، ولا تفرض النخبة أجندة قضاياها على أجندة قضايا الناس، وبغير ذلك فأبواب التغيير الحقيقي تبقى مسدودة، والأمل في فتحها يظل بعيداً.

**

«الاستبداد» يخاف من الكلمة أكثر مما يخشى من الرصاصة، لأنه في معركة الكلمة يخسر، أما في معارك القوة فهو يمتلك منها الكثير والزائد عن الحد، ولذلك مات «عبد الرحمن الكواكبي» صريع كلماته، مات مسمومًا بتدبير من السلطات التركية، شـُيعت جنازته في موكب مهيب، ودُفن في قرافة «باب الوزير» بسفح جبل «المقطم»، وكتب على قبره «الشهيد»، وأقام له الشيخ «علي يوسف» صاحب جريدة «المؤيد» مأتما استمر ثلاثة أيام، ونـُقشت على قبره أبيات لشاعر النيل «حافظ إبراهيم» جاء فيها:

هنا رجل الدنيا هنا مهبِط التـقى    هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا   عليه فهذا القـبر قــــبر الكواكبي

 

**