بخلاف ما يبدو لك أن المعركة التي يخوضها نقيب الموسيقيين هاني شاكر، ونجوم المهرجان الشعبي، وما استجد من معارك هامشية مع «الرابرز المصريين»، تعكس بشكل أو بآخر وجهة النظر الرسمية في هذا الفن، الذي فرض نفسه على مسامع النخبة. واحتل مساحة تجاوز بها المساحات التي يخترقها التوكتوك. لكن ثمة مؤشرات تقول إن الدولة كأجهزة، بالمفهموم الواسع، لم تخض هذه المعركة، ولم يمثلها النقيب فيها. بل كانت في أوقات كثيرة تفتح الأبواب التي أوصدها شاكر أمامهم.
منذ أن بدأ نقيب الموسيقيين حملته الكبرى على فن المهرجان في أغسطس 2019، ومنع التعامل معهم أو منحهم تصاريح بالغناء، حينما وصفهم بأنهم مطربي الحارات الذين أفسدوا الذوق الفني، وهو يطالب بأن لا يقف وحيدًا في هذه المعركة.
فدائمًا ما يصرح شاكر بأنه ينتظر دور الدولة فى محاربة هذا الفساد والهبوط والتردى الفني. إلا أن الاستجابة لا تكون دائمًا على قدر النداء. وهو الانطباع الذي كرسته مشاهد متناثرة.
مثلاً، في الشهر الذي منع فيه النقيب الرابر مروان موسى، من الغناء، بثت المصرية للاتصالات «we» المملوكة للحكومة، إعلانًا لزميل له، هو شاهين العبقري، يقدم النوع نفسه من الفن الذي بدأ يحاصره هاني شاكر مؤخرًا، للترويج لحملة جديدة من الشركة.
«we» وهي من الشركات التي تعبر عن الدولة في سوق الاتصالات، اعتمدت من قبل على مروان موسى نفسه في حملة «الباقة لسه مكملة». واستعانت كذلك بنجوم المهرجان في مناسبات مختلفة، مثل فرقة صواريخ، اعتمادًا على أرقام المشاهدة التي حققوها في مهرجان «إخواتي».
مشهد أكتوبر.. بيكا والمدفعجية في مواجهة هاني شاكر
في خضم الحملة المستمرة من شاكر على مطربي المهرجان، وقف حمو بيكا وفرقة المدفعجية، أكتوبر قبل الماضي، على منصات أقامها رجال أعمال محسوبون على الأجهزة الرسمية، تدوي أغانيهم الصاخبة في منطقتي مدينة نصر ورمسيس، لإحياء مناسبة رسمية، وذات قيمة لدى الدولة، كذكرى حرب أكتوبر. في مخالفة لقرارات سابقة بعدم ظهورهم.
عكس مشهد احتفالات أكتوبر تحديدًا صورة تختلف عن عما يسود عن علاقة الدولة بنقابة المهن الموسيقية الرسمية. فالظاهر من استعانة الدولة أو جهات تابعة لها بمطربي المهرجانات في احتفالها شبه الرسمي بانتصار أكتوبر، أن النقابة لا تردد صدى صوت الدولة كما يتصور بعض المراقبين.
يفسر الناقد الفني طارق الشناوي العلاقة بين الحكومة والفنون غير السائدة بمختلف تنوعتها؛ بأن الحكومات عادة لا تحبذ دخول معارك مع وجدان شعوبها أو تحجر على أذواقهم. ويلفت إلى أن الدولة مطالبة في الوقت ذاته بتوفير مناخ صحي للأغاني الرصينة بدعم حفلات المطربين واحتواء المواهب الصاعدة. كما فعل نظام مبارك سابقًا مع آمال ماهر في بدايتها الفنية.
كما يتضح أن الدولة تلجأ للاستعانة بأصحاب الشعبية من فناني المهرجانات استجابة لأذواق الجمهور والتغييرات الطارئة على احتياجات السوق. وهو ما ذهبت إليه فرح رمزي، الباحثة في علم الاجتماع السياسي بمعهد الدراسات السياسية في بوردو.
نقابة هاني شاكر لم تحكم قبضتها
وبحسب ورقة بحثية ليوستين موريس وفرح رمزي، فإن المشادات بين الدولة والمهرجانات هدفها تأكيد اليد العليا للنظام وسيطرته بإحكام على المجال العام. لكنها ليست معركة وجود أو تناقض أصيل في المشروعات. طالما ظلت المهرجانات نمطا فنيًا يعبر عن فئات موجودة وقادر على فتح أسواق استهلاكية لمنتجه.
لا ينفصل اعتماد الأعمال الدرامية التي تنتجها شركة سينرجي، الذراع الدرامي للدولة، وشركات الإنتاج الأخرى، التي يسمح لها بالعمل تحت المظلة الرسمية، على نجوم المهرجانات في غناء تترات البداية والنهاية، عن التوجه النيوليبرالي الذي تنتهجه الدولة في تعاملها مع هذا اللون الفني المنبوذ من قبل نقابة الموسيقيين.
أبرز مثال على ذلك، مشاركة عمر كمال، وهو من المطربين الذين منعتهم النقابة من الغناء، في تتر مسلسل «الاختيار 2»، أحد الأعمال التي تحظي برعاية خاصة من أجهزة الدولة، لتجسيدها بطولات رجال القوات المسلحة والشرطة في معركة الإرهاب. حيث شارك كمال بأغنية «هنلبس عساكر».
مشاركة شاكوش وعمر كمال وفريق المدفعجية في غناء تترات المسلسلات الدرامية في الموسمين الماضيين، أظهر أن النقابة لم تحكم قبضتها الكاملة على منافذ انتشار مطربي المهرجانات، في ظل وجود رغبة لدى المنتجين. وخصوصًا المحسوبين على أجهزة بالدولة، في الاستعانة بأبطال المهرجان في أعمالهم الفنية.
ووفقًا لفرح رمزي، فإن النظم الرأسمالية في كل العالم تتبنى تسليع أي شيء أو خدمة دون التركيز على الأبعاد الأخلاقية المتراكمة. ومن هنا، لا تستطيع أن تغفل أن سوق الموسيقي يفرض سيطرة المزيكا الرائجة. ويساهم في صنع التعددية المطلوبة لإثراء الساحة الفنية. لذا صار المهرجان جزءًا من السوق العام ويُستخدم لفتح أسواق جديدة.
وبحسب رمزي؛ فالعلاقة الرسمية قابلة للتطور على حسب أنواع الفن نفسه. لذا من السهل أن نرى المهرجان هو الموسيقى الوطنية إذا كان القطاع الأكبر من الشعب يستمع لهذا الفن.
هاني شاكر يقف بمفرده في معركة المهرجان
من ناحية أخرى، لا تقف نقابة المهن الموسيقية على أرض صلبة في التعامل مع هذه المستجدات. فبعد أن كانت ترحب بنجوم الراب وتصدر لهم تصاريخ الغناء. وفي بعض الأحيان تزعم أنها بها شعبة خاصة للراب، عادت النقابة لتنفي ذلك بعد تجاوز بعضهم قرار هاني شاكر والغناء بالفلاشة بدلاً من الفرقة الموسيقية.
الغريب أيضًا أن النقابة ترى أن أحمد مكي هو الوحيد الذي يحق له غناء الراب في مصر. لكنها سبق وتراجعت النقابة عن قرار منع محمد رمضان من الغناء باعتباره مغني راب. كما أخلت مسؤوليتها عن ما يقدمه رمضان على المسرح في الحفلات. وذلك سواء من ناحية كلام الأغاني أو الملابس، كونهما من اختصاص هيئة الرقابة على المصنفات الفنية.
وتقول مؤشرات أخرى إن الدولة سمحت لغناء محمد رمضان، المحمي بشعبيته الجماهيرية، بعد تقديمه ضمانات على أنه لن يخرج بعيدًا عن المنظومة، وفقًا لورقة بحثية بعنوان «يحيا الفن المنحط» صادرة عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير
يتوقع معد الورقة أن تدخل الدولة أيضًا في هدنة مع أوكا وأورتيجا، بعد أن أصبحا جزءًا من منظومة الإنتاج القانونية، ما مكنهما من إقامة حفلات بالخارج وزيادرة فرصة التسويق في الإعلانات. ولم تعد كلمات أغانيهما مشاغبة بالقدر الذي يغضب الدولة.
الورقة نفسها استبعدت أن يصل حمو بيكا إلى نموذج محمد رمضان وأوكا وأورتيجا. لأنه يقدم نفسه بصورة فجة بأكثر مما تستطيع الدولة ونقابة الموسيقيين أن تحتمل. كما أنه يقدم هذه الصورة بدرجة لا يُقبل معها دمجه ضمن صفوف الفن الرفيع الذي ترضى عنه الدولة.
وقوف هاني شاكر بمفرده في معركته ضد المهرجان، أو تخلي الدولة عنه، أثار انتباه كتاب الرأي من خارج المساحة الفنية. ومن هؤلاء سليمان جودة الذي كتب في زاويته بجريدة «المصري اليوم» قبل أسابيع قليلة أنه يلاحظ أن الفنان الكبير هانى شاكر يخوض معركته وحيدًا فى مواجهة الفن الهابط. أو في مواجهة ما اشتهر مرة بأنه أغانى المهرجانات. ثم اشتهر مرة ثانية بأنه أغانى الراب.