كان إشهار إفلاس مصر شنيعا في نظر إسماعيل. هكذا يتحدث الدكتور محمد حسين هيكل – في رسالته للدكتوراه عن “ديون مصر العامة” من جامعة السوربون بفرنسا عام 1912 م -عن لحظة المواجهة الصادمة بين الخديو والحقيقة المرة.

فبعد ثلاثة عشر عاما عاش فيها دور الإمبراطور الذي ينفق بغير حساب في تشييد القصور الخاصة والمشروعات العامة ويستدين بغير تدبر للعواقب ويعتصر الشعب دون خوف أو حساب، بعد ذلك كله يتحول إلى كائن مفلس قليل الحيلة غير قادر على سداد القديم وغير قادر على استدانة الجديد، وفاقد القدرة التامة على الحركة والمبادرة والتصرف، فهو تحت رحمة الترك الذين يريدون استعادة القدر من الاستقلال الداخلي الذي نالته مصر عن السلطنة العثمانية منذ عهد محمد علي، مثلما هو تحت رحمة سبعة عشر قنصلا أوروبيا يمثلون سبع عشرة دولة أوروبية لها مطامع في مصر ويخدمون أطماع سبع عشرة جالية أوروبية يستوطنون حضر مصر وريفها ويضعون أيديهم على كل شبر تلوح فيه لقمة عيش، لقد كان كل قنصل بمثابة حاكم فعلي إلى جوار الخديو الذي فقد سلطانه -بفعل الديون- ولم يعد غير صورة لا يملك من أمر نفسه ولا من أمر بلده قليلا ولا كثيرا، وهكذا فقدت مصر استقلالها بصورة كاملة دون طلقة رصاص واحدة، لتغدو مستوطنة أو مستعمرة لعموم المستوطنين المستعمرين الأوروبيين خلال ثلاثين عاما فقط، هي الفترة من وفاة الجد محمد علي 1849م إلى عزل ونفي ورحيل الحفيد إسماعيل 1879 م.

الخديو إسماعيل
الخديو إسماعيل

الخديو كان من الخبرة والذكاء بحيث يستطيع مواجهة محنة الديون، خاصة وقد اجتذب إليه وجوه البلد وأعيانها وأدمجهم في حركة وطنية تسانده، كانت هذه الحركة البازغة على استعداد لضمان ديون الخديو، مثلما كانت على استعداد لمناصرته في مواجهة الأوروبيين إلى أبعد مدى .

كانت السنوات بين إفلاسه 1876 وعزله ونفيه وترحيله م هي الرحم التاريخي الذي تخلقت في جوفه وتبلورت بذور ثم جذور المجتمع المصري الحديث مثل: مفهوم الشعب المصري المتميز في وجوده عن الحاكم، ومفهوم الأمة المصرية المختلف عن مفهوم الرعية العثماني، ومفهوم الدستور الذي يقرر جملة الحقوق والواجبات للحاكم والمحكوم عبر التعاقد والتوافق وليس عبر الإملاء من الحاكم والخضوع من المحكوم، ثم الإطار الجامع لذلك كله وهو مفهوم الوطنية المصرية كمرتكز تأسست عليه -ومازالت إلى اليوم والغد- كافة نضالات المصريين سواء في مواجهة استبداد الحكام في الداخل أو في مواجهة أطماع وتدخلات الخارج في شؤون البلاد، فمنذ ذلك التاريخ 1876- 1879 بات مستقرا في ضمير المصريين استحالة الجمع بين الوطنية والاستبداد بالقدر الكافي لنزع رداء الوطنية عن كل ديكتاتور، مثلما استقر في وعي المصريين -كذلك- أن الوطنية هي باختصار شديد مواجهة مزدوجة ضد الاستبداد المحلي والتدخل الأجنبي سواءً بسواء، فكلاهما يؤديان إلى نتيجة واحدة وهي عرقلة تقدم الشعوب وإعاقة نهضة البلدان .

في الفترة من 1863 – 1876 م كانت أوروبا هي قبلة الخديو وملهمته وآسرة عقله وقلبه وبالضرورة كانت مقرضته ودائنته والمستفيدة من مشاريعه، لكن في السنوات من 1876- 1879 م غدت أوروبا معلنة إفلاسه ومراقبته ومنافسته في سلطته بل وعدوته بالدرجة الأولى.

وفي هذه السنوات الثلاث كان الخديو هو الراعي الحقيقي والفعلي لكافة التجليات الإيجابية التي بذرت وغرست ورعت التطبيقات العملية والميدانية لمفاهيم الأمة والشعب والدستور والوطنية والاستقلال، كانت هذه السنوات الثلاث هي المعمل والمختبر الذي تفاعلت فيه كل تلك المفاهيم، ومنها كان المدد التاريخي والمعين الذي لا ينضب من الحافز والدافع والإلهام الذي أنار سبيل الوطنية المصرية في تعريفها لأمرين مهمين: نوع المخاطر التي تواجه المصريين، ثم نوع الأدوات التي يلزم توافرها حتى يخوض المصريون مواجهات ناجحة ضد تلك المخاطر.

مجلس شورى النواب
مجلس شورى النواب

باختصار شديد: كان الخديو هو القائد غير المعلن للمعارضة العظيمة التي أبداها مجلس شورى النواب، وكان قبل ذلك لا يختلف قليلا ولا كثيرا. ثم كان الخديو هو القائد غير المعلن للمطالبات الدستورية والحكومات الدستورية التي قام على رعايتها محمد شريف باشا، ثم كان هو القائد غير المعلن لما تأسس من جمعية أو حركة وطنية جمعت وجوه البلد وذواتها وأعيانها سواء من الترك أو الشركس أو المصريين، لقد نجح الخديو – بغير قصد ولا وعي – في وضع الأسس الكافية التي مهدت الطريق للثورة العظمى المعروفة بالعرابية. كان قصد الخديو محصورا في الحفاظ على سلطته ومواجهة التدخل الأوروبي السافر ولكن كان للتاريخ قصد أكبر وأبعد .

كانت سلطة الخديو تتفكك من جهتين:

الأولي: ما يقدمه للأوروبيين من تنازلات تحت الضغط، فقد قبل رقابة أجنبية على موارد البلاد ومصروفاتها، وقبل تشكيل وزارة بها وزيران فرنسي وبريطاني وقبل لجنة تحقيقات من أوربيين يرأسها الفرنسي دي ليسبس، وقبل تأسيس صندوق الدين الذي كانت وظيفته تأمين سداد الأقساط حتى لو لم يتبق للدولة والشعب شيء من ذلك، مثلا، أنه في عام 1877م كانت الواردات العامة للدولة حوالي تسعة ملايين ونصف جنيه، ذهب منها حوالي سبعة ملايين ونصف للدائنين، ولم يتبق للدولة والشعب غير مليونين، ومن هذين المليونين تم سداد قيمة أرباح بريطانيا من أسهم قناة السويس، ومن ثم لم يتبق للدولة والشعب غير مليون أو أكثر قليلا .

الثانية: ما يقدمه من تنازلات للحركة الوطنية المصرية الناشئة، سواء في حريات التفكير والتعبير والنشر، أو في حريات الاجتماع والتنظيم والتواصل، بما كان كافيا لتأسيس إرادة عامة تستقل وتتميز عن إرادة الحاكم .

………………………

الخديو كان من الخبرة والذكاء بحيث يستطيع مواجهة محنة الديون، خاصة وقد اجتذب إليه وجوه البلد وأعيانها وأدمجهم في حركة وطنية تسانده، كانت هذه الحركة البازغة على استعداد لضمان ديون الخديو، مثلما كانت على استعداد لمناصرته في مواجهة الأوروبيين إلى أبعد مدى .

لكن الأوروبيين كانوا يريدون ما هو أكبر من سداد الديون، كانوا يريدون مصر نفسها، كانوا يريدونها مستعمرة مثل باقي مستعمراتهم في شمال أفريقيا، وكانوا يريدونها مستعمرة مثل باقي مستعمراتهم في أفريقيا ذاتها، وكان ذلك حلما أوروبيا قديما ومتجددا منذ خواتيم القرن الثامن عشر. لقد كانت مائة عام تقريبا هي الفاصل بين الحملة الفرنسية 1798م والاحتلال البريطاني 1882م. [محمد علي وإبراهيم كانا على وعي بذلك بعكس عباس الأول وسعيد وإسماعيل] .

كان المخطط في كلمتين: تجريده من أملاكه ثم تجريده من سلطانه .

– أما عن التجريد من الأملاك فكان خطوة لنزع هيبته وإذلاله وتقزيمه في عين نفسه وعين الأسرة الحاكمة وعين المصريين وعيون العالم الخارجي الذي كان هو واحدا من ألمع نجومه، فقد كان ينافس أباطرة أوروبا في الفخامة والأبهة، وإذا فقد الحاكم -بالذات في الشرق- هيبته فإنه يكون قد فقد سلطته، فالسلطة عندنا هيبة، ولا هيبة عندنا بغير سلطة، فقد وافق الخديو على تشكيل لجنة أوروبية للتحقيق في الديون وحصرها واقتراح سبل سدادها، وكان من صلاحيات اللجنة استجواب الخديو والوزراء وكبار الموظفين العموميين، وكانت تستدعي الوزراء للمثلول أمامها، وقد رأى محمد شريف باشا وكان ناظرا للحقانية -وزيرا للعدل- أن مثل هذا المثول لوزير مصري أمام لجنة أجنبية مما ينافي الكرامة والشرف حتى لو كانت مشكلة بموافقة الخديو وبقرار منه، وحفاظا على استقلاله وكرامته وشرفه تقدم شريف باشا بالاستقالة من منصبه.

أملاك الخديو كانت تقترب من مليون فدان إلا قليلا بما عليها من قصور تفوق أفخم قصور أباطرة أوروبا وبما عليها وما فيها من معدات واستثمارات ومنشآت، بما يعادل خمس الأراضي الزراعية في مصر كلها، وقد أوصت لجنة التحقيق بضرورة أن يضع الخديو أملاكه الخاصة تحت إدارة الدولة، كمساهمة منه في سداد ديون البلاد، وذلك على أساس أن هذه الديون نتيجة لسوء تصرفه وسوء استخدامه لسلطته المطلقة .

وجاء في نص التقرير النهائي للجنة التحقيق: “نطلب من سمو الخديو التفضل بتخصيص كامل أملاكه الشخصية لمواجهة العجز في مالية البلاد .

أذعن الخديو، ولم يكن أمامه من قرار غير الإذعان، وفي 26 أكتوبر 1878م صدر المرسوم بتخلي الخديو وأسرته عن أملاكهم، وجاء في ديباجة المرسوم: “إن أعضاء أسرتنا قرروا التخلي عن جميع ممتلكاتهم العقارية، ونقل ملكيتها إلى الدولة، لتمكينها من تسوية الأوضاع المالية للحكومة بصورة مستقرة ومنصفة “.

– ثم أصبح الوقت مناسبا لتجريد الخديو من آخر بقايا الكرامة والشرف، لقد ذهب إليه مسيو تريبو قنصل عام فرنسا في وقت متأخر من الليل، في قصر عابدين، وطلب مقابلته، وقابله بالفعل، ليخبره أن حصيلة ضرائب الوجه القبلي قد تمت سرقتها، وأن هذه الأموال المسروقة وصلت هنا في قصر عابدين، ولم يكتف القنصل الفرنسي بتوجيه اتهام السرقة للخديو، وإنما زاد على ذلك بأن: “فرنسا وبريطانيا وسائر الدول العظمى سوف تطلب من السلطان العثماني عزل الخديو في الحال”.

جمع الخديو وزراءه وعرض عليهم ما حدث من إهانة القنصل الفرنسي له، أشاروا عليه بمخاطبة السلطان العثماني ووزير خارجية فرنسا بطلب عزل القنصل الفرنسي وإلا فإن مصر سوف تقاطع فرنسا، لكن الخديو كان قد وصل إلى حالة تعيسة من العجز والضعف والهوان حتى على نفسه .

– كان الخديو يتخيل أن السلطان سوف يحميه من مكائد الأوروبيين، ولكن السلطان كان أسبق من الأوروبيين، وفي 26 يونيو 1879م صدر الفرمان بعزل إسماعيل وتولية نجله الأكبر توفيق .

……………………..

ومن منفاه، في نابولي الإيطالية، كتب الخديو إلى السلطان رسالةً، تحدث فيها عن إنجازاته:

“خلال فترة إدارتي للبلاد، تمت تغطية مصر بشبكة من السكك الحديدية، وحدث توسع كبير في شق الترع، وتم إنشاء ميناء كبير في السويس، وميناء كبير في الإسكندرية، وقضيت على تجارة الرقيق في أفريقيا الوسطى، ورفرف علم الإمبراطورية على أماكن جديدة في أفريقيا، وشهدت مصر الانتهاء من حفر قناة السويس، وتم إصلاح القضاء بما يضع حدا لبطء التقاضي الناجم عن تعدد جهات الولاية القضائية الأجنبية، [يقصد إلغاء القضاء القنصلي وتأسيس القضاء المختلط] .

ويعلق الدكتور محمد حسين هيكل على تلك الرسالة بالقول :

” ليس بوسع أحد أن يشيد بإسماعيل بأكثر من ذلك، وكل الذي ذكره صحيح، لولا أن هذه الإصلاحات الطيبة تمت كلها بتكلفة باهظة، بصورة أدت إلى الخراب، ثم إلى خلعه عن العرش .

……………………………….

الفجوة بين التكاليف والإنجازات موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.