قبل 20 عامًا كان تدمير برجي مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر حدثًا مؤسسًا وفارقًا في توجهات السياسات الدولية، التي رُسمت وفقًا لاستراتيجية «الحرب على الإرهاب». ومعها قدّم تنظيم القاعدة نفسه رائدا للجهادية عالمية التوجه. ومن رحمه سيخرج تنظيم الدولة الإسلامية لاحقًا، ليعلن إقامة الخلافة الإسلامية المنتظرة من المسجد الكبير في الموصل عام 2014. بعدما سيطر على مساحات شاسعة في العراق وسوريا. كانت تلك اللحظة الأكثر زخمًا بين التنظيمات الإرهابية كتعبير عن قدرتها على تحقيق حلم الخلافة العالمية، التي لا تعترف بحدود رسمها المُستعمر.

لكن بعد انقضاء عقدين، وخسارة وانحسار «الدولة الإسلامية» التي بقت وإن لم تتمدد، وضعف تنظيم القاعدة لاختلالات عدة أصابته، كانت حركة طالبان تعود إلى حكم أفغانستان مجددًا في حدث آخر فارق ومؤسس. وهذه المرة قدمت نموذجًا رائدًا للجهادية محلية التوجه. جهادية لا تسعى للتمدد خارج أراضيها، وإنما تلتفت لخصوصية مجتمعاتها وثقافتها.

ألهم النموذج الطالباني الكثير من التنظيمات الجهادية حول العالم. وقد استخلصت منه رسائل عدة حول إمكانية الوصول للحكم، إذا ما واصلت قتالها ضد «الغازي الأجنبي». وأدركت في طريقها السياقات الإقليمية والدولية وضرورة بناء التفاهمات دون الكثير من التنازلات.

اقرأ أيضًا| طالبان كرافعة لـ”الجهاد المحلي”: هيئة تحرير الشام نموذجًا

اقرأ أيضًا| طالبان كرافعة لـ”الجهاد المحلي”: رسائل اليمن المستخلصة

الصومال.. الدولة الهشة

يتجلى في تلك البقعة كمٌ كبير من السياقات المتشابهة والعوامل المتقاربة مع أفغانستان: حكومة ضعيفة ينهشها الفساد مع غياب الحوكمة وتقديم الخدمات. فضلاً عن الاتكالية في التعويل على المجتمع الدولي. وكذلك انسحاب قريب للتحالفات الدولية المسؤولة عن فرض الأمن. مع حركة جهادية تسيطر على مزيد من الأرض وتنزع نحو المحلية لملء فراغات الحكومة في المجتمعات الريفية.

عانى الصومال من انهيار الدولة وعقود من الحرب الأهلية قبل أن يبدأ تمرد «جماعة الشباب» التابعة للقاعدة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتكافح الحكومة المدعومة دوليًا لاستعادة السيطرة على جزء كبير من البلاد. وهي تعتمد على قوات الاتحاد الأفريقي العاملة بموجب تفويض من مجلس الأمن الدولي.

بدأت القصة في ديسمبر 2006، بعد إعلان «اتحاد المحاكم الإسلامية» الجهاد ضد إثيوبيا. وقد تمت إزاحته بعدها من السلطة، عبر الغزو الإثيوبي المدعوم من الولايات المتحدة.

كان اتحاد المحاكم الإسلامية، وهو ائتلاف مدعوم من قادة الأعمال في البلاد، قد طرد في السابق أمراء الحرب المعروفين بأعمال العنف العشوائية. بينما أسس تفسيرات صارمة للشريعة الإسلامية مثل طالبان. فحظر الموسيقى والسينما والرياضة، وضغط على النساء لارتداء الحجاب. 

لكنه جلب أيضًا بعض مظاهر الحياة الطبيعية مع وجود عدد أقل من الأسلحة في شوارع مقديشو وحرية الحركة نسبيًا. وأعيد فتح المطار، وتم توفير الاحتياجات الأساسية بشكل عام، بحسب الكاتب الكيني باتريك جاثارا.

ومع ذلك، انتهى الغزو الإثيوبي بتحول الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية إلى تمرد حركة الشباب. وبحلول الوقت الذي انسحب فيه الجيش الإثيوبي عام 2009 اجتاحت هذه الحركة جميع أنحاء البلاد. كما سيطرت الحكومة الاتحادية الانتقالية المدعومة دوليًا على بضع بنايات داخل العاصمة. وذلك في حماية بضعة آلاف من القوات الأوغندية والبوروندية. 

الانهيار المحتمل

يقول تحليل «معهد القرن الأفريقي للدراسات الاستراتيجية» إنه تمامًا مثل أفغانستان يُظهر الصومال هشاشة مقلقة للدولة. وهذه الهشاشة تجعل من الممكن أن يعقب الانسحاب الوشيك لقوات الاتحاد الأفريقي في الصومال انهيار حكومي وعودة حركة الشباب إلى مقديشو لاستعادة السلطة.

الحكومة الفيدرالية الصومالية مثقلة بالفساد، وضعف تقديم الخدمات الأساسية. كما أنها تعاني العجز الهائل في الميزانية، وانعدام الأمن. ذلك بسبب تفشي الهجمات على السكان المدنيين والمرافق الحكومية والموظفين من قبل حركة الشباب والجماعات المسلحة الأخرى. 

وتتسم الحكومة الصومالية -بحسب التحليل- كذلك بضعف الهياكل الإدارية، التي تهدد سيادة القانون والوصول إلى العدالة. إذ يلجأ السكان المدنيون إلى محاكم وإدارة حركة الشباب. ويتنقلون أحيانًا من مقديشو إلى مناطق سيطرة الشباب لمثل هذه الخدمات. 

وتُلاحظ تحديات مماثلة في مجال تحصيل الإيرادات. حيث يُزعم أن حركة الشباب تجمع ضرائب أكثر من الحكومة. ما يمكّنها من البقاء واقفة على قدميها ودعم عملياتها. وبدلاً من ذلك، تعتمد الحكومة بشكل كبير على التنمية الأجنبية والمساعدات الإنسانية التي تعتمد على المصالح السياسية الأجنبية. وهي تزيد من عزل الحكومة الوطنية (النخب الحاكمة) عن السكان المحليين. وفي ذلك تشابه كبير مع الوضع الأفغاني. 

من جانبها، حافظت حركة الشباب على رواية تصور الحكومة الفيدرالية على أنها أداة للمصالح الأجنبية، وغير فعالة وغير أخلاقية بسبب ارتفاع مستويات الفساد والنهب من قبل النخب الحاكمة. ويبدو أن دعاية حركة الشباب يتردد صداها على نطاق واسع في جميع أنحاء الصومال. مما يلحق المزيد من الضرر بشرعية الحكومة ودعمها الداخلي، وفقًا للباحث إدموند بامبا، الذي كتب التحليل.

تقول إلهام جسار، المستشار السياسي للمنظمة الدولية للهجرة في الصومال، إن الشركاء الدوليين كانوا يركزون على تدمير حركة الشباب، وليس تطوير دولة قوية «لم يكن التركيز أبدًا على تحسين حياة الصومالي العادي وإنشاء أنظمة للاستدامة».

ضعف الأجهزة الأمنية بالصومال

تتمتع الحكومة الفيدرالية الصومالية بأراض أقل مقارنة بحركة الشباب، التي تحتفظ بالسيطرة على أجزاء أكبر من وسط وجنوب الصومال. وبالتالي، تدير الحركة المساحات والسكان في الأراضي التي تسيطر عليها مما سمح للمجموعة بقطع وجود الحكومة وخدماتها وشرعيتها عن المناطق والسكان المعنيين. 

وتكافح الحكومة الفيدرالية باستمرار لزيادة تغلغلها وسيطرتها على الأراضي. بينما تهتم الحركة التابعة للقاعدة، في الغالب، باستعادة مراكز السكان المدنيين أو المناطق الحضرية الرئيسية. 

وبحسب المعهد المهتم بشؤون القرن الأفريقي «لا تزال قدرة الجيش الوطني الصومالي واستعداده للتعامل مع الانتقال من بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال موضع شك بسبب التقارير التي تتحدث عن قلة التدريب وقلة التجهيز وسوء الحافز». 

لذا قد لا يكون الجيش قادرًا على أداء دوره الدفاعي والأمني ​​بشكل فعال في «البيئة السياسية المستقطبة بشكل متزايد». إذ كانت هناك حالات لاجتياح «الشباب» للقواعد العسكرية. ويعاني الجيش من انقسامات عشائرية، والتي ظهرت في أبريل 2021، عندما دعمت أقسام من الجيش قادة سياسيين مختلفين على أساس عشائرهم. حيث اشتبكت قوات المعارضة مع القوات الحكومية بعد محاولة تمديد التفويض من قبل الرئيس الصومالي الحالي محمد عبد الله محمد.

"<yoastmark

من ناحية أخرى، تسلل جناح المخابرات في حركة الشباب «أمنيات»، إلى جهات حساسة في الحكومة الفيدرالية الصومالية. ويشير الباحث إلى «اخترقت أمنيات تقريبًا لكل المنشآت الحكومية الرئيسية والمؤسسات والبروتوكولات بما في ذلك وكالات الأمن القومي العليا والبرلمان والخدمة العامة على المستويين الفيدرالي ومستوى الولايات. 

وهكذا تمكنت حركة الشباب من جمع معلومات استخبارية مهمة عن العمليات الحكومية والقدرات ونقاط الضعف والقدرات الأمنية وكذلك تنفيذ اغتيالات لكبار المسؤولين الحكوميين.

نزعة «الشباب» نحو المحلية

يرى مركز «War on the Rocks» أن جماعة الشباب تخلت عن أهدافها العابرة للحدود للتركيز على القضايا المحلية. وبالنسبة للصومال. قد تكون هذه أخبارًا جيدة «مع وصول حرب الحكومة الصومالية، التي دامت سبع سنوات ضد الحركة إلى طريق مسدود دموي، فإن إعادة التوجيه هذه تخلق فرصا جديدة للمفاوضات. يجب على الحكومة الصومالية الاستفادة منها، باستخدام الزعماء الدينيين وشيوخ العشائر لإشراك الحركة».

ويوضح المركز أنه على مدى السنوات الخمس الماضية، قبلت حركة الشباب رسميا الحدود السياسية لدولة الصومال والتي رفضتها سابقا. وبدأت في توزيع الخدمات العامة لكسب قلوب وعقول الصوماليين. كما أبدت استعدادها للانخراط في نقاشات مع الزعماء الدينيين الصوماليين. ويبدو أن كلا من الحركة والسلطات قد بدءا بالفعل في الاستعانة بكبار شيوخ العشائر للتوسط في هدنات وإيصال المساعدات الإنسانية.

ويشير المركز إلى أن الحركة يبدو أنها راجعت سياساتها بخصوص «الجهاد العالمي»، بعد انضمامها للقاعدة في 2012، إثر انخفاض الدعم الشعبي بشكل كبير. إذ يقارن بين تصرفها خلال الأزمة الغذائية عامي 2011 و2017.

نظام الدمية

أثناء الجفاف عام 2011 منعت الجماعة تسليم المساعدات، وأحرقت الطعام، وقتلت العاملين في الجمعيات الخيرية، مما أدى إلى تفاقم الكارثة التي قتلت في نهاية المطاف أكثر من 260 ألف صومالي. لكن المجموعة أعادت اختراع نفسها وحسنت صورتها المحلية. 

وعندما حدثت أزمة مماثلة في عام 2017، استجابت الحركة بشكل استباقي، وقدمت الإغاثة الغذائية، وحفرت قنوات الري للمزارعين. كما سلمت مواد الطوارئ إلى المجتمعات المحلية في الأراضي المتنازع عليها، الذين اشتكوا منذ فترة طويلة من إهمال الحكومة.

ويقول التقرير: «اتخذ التركيز المحلي الجديد لحركة الشباب على عدد من الأشكال الأخرى. فبحلول عام 2015، كانت الحركة قد خفضت إلى حد كبير علاقاتها مع تنظيم القاعدة المركزي. وبينما تستمر الجماعة في الإعلان عن ولائها للقاعدة، فإنها تعتبرها الآن علامة تجارية تسويقية ومصدرا للنصائح العامة».

كذلك اتسعت الاستراتيجية الإعلامية للحركة لتشمل تسليط الضوء على القضايا المحلية. وبدلا من مجرد إدانة الحكومة على أنها «نظام مرتد» مدعوم دوليا، بدأت في انتقاد سجلها في الحكم أيضا. 

ففي بيان صوتي صدر في يوليو/تموز 2019، قال زعيم حركة الشباب أبو عبيدة إن السبب وراء «تخلفنا (الصوماليين) عن البلدان الأخرى» هو أن الشعب الصومالي يواصل تقديم الدعم لـ «نظام دمية صومالي».

وفي أوائل عام 2021، أصدرت المجموعة فيلما وثائقيا من ستة أجزاء بعنوان “تقييم” السنوات الأربع التي قضاها الرئيس محمد عبد الله فرماجو في السلطة في محاولة أخرى للاستفادة من استياء الصوماليين.

انسحاب الولايات المتحدة وقوات الاتحاد الأفريقي

في عهد الرئيس دونالد ترامب، بدأت الولايات المتحدة وأتمت انسحاب قواتها من الصومال في أوائل يناير 2021. كانت الولايات المتحدة مسؤولة عن تدريب وحدات العمليات الخاصة وبناء القدرات في الجيش الوطني الصومالي الناشئ. 

ومن المقرر أيضا أن تنسحب بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال بالكامل في ديسمبر 2021، بعد ما يقرب من 15 عاما من تعزيز قدرة الأجهزة الأمنية الصومالية وردع تمرد حركة الشباب.

سيؤدي انسحاب القوات الأمريكية وقوات الاتحاد الأفريقي في الصومال إلى خلق فجوة حرجة في القدرات في الجيش الوطني الصومالي بالإضافة إلى فراغات عسكرية وإقليمية كبيرة قد لا تملأها قوات الأمن الصومالية بشكل فعال وبالتالي تحويل الميزة لصالح حركة الشباب، وفقا لمعهد القرن الأفريقي.

كان من المفترض أن تتولى الحكومة الصومالية زمام المبادرة في العمليات الأمنية بحلول نهاية هذا العام ، لكن يبدو الأمر غير مرجح بسبب شكوك حول قدرات الجيش.

وتقول سميرة قايد، رئيسة مركز أبحاث الأمن الصومالي Hiraal Institute، إن القوات الصومالية أقل استعدادا لوقف هجوم مسلح محتمل «قوات الأمن الصومالية لم تتلق 0.005٪ مما تلقته قوات الأمن الأفغانية».

وأضافت أن «الدعم الملموس لإعادة بناء قوات الأمن الصومالية كان ضئيلا. ولا يزال الصومال خاضعا لحظر توريد الأسلحة، لذلك نحن غير قادرين على شراء نوع الأسلحة التي كانت تمتلكها أفغانستان».

على الرغم من الجهود المبذولة منذ سنوات وإنفاق حوالي 900 مليون دولار سنويا، لا تزال الحكومة في مقديشو ضعيفة ومنقسمة مع ضعف الشرعية الشعبية. وعلى الرغم من طردهم من معظم المناطق الحضرية، إلا أن «التمرد الإسلاموي لا يزال يسيطر على جزء كبير من الريف وقادر على تنفيذ هجمات مدمرة في العاصمة متى شاء».

المفاوضات كحل لأزمة الصومال؟

تذكر مجموعة الأزمات الدولية في تقييمها للوضع الحالي أنه بالنسبة لبعض السلطات الصومالية، فإن ما حدث في أفغانستان يوضح مخاطر إشراك الجماعات الجهادية في أي شكل من أشكال الحوار، بالنظر إلى أن تلك المحادثات مهدت الطريق لسيطرة طالبان. 

ومع ذلك، فإن وجهة نظر بديلة أعرب عنها بعض ممثلي المجتمع المدني، ترى أن المثال الأفغاني يعزز قضية الحل التفاوضي، خاصة إذا استمرت الحكومة الفيدرالية الصومالية في عدم قدرتها على إبراز القوة إذ يبدو من غير المرجح أن تنمو لتصبح مشروعا مستداما. 

وفقا لخط التفكير هذا، بتعبير مجموعة الأزمات، لا بد للشركاء الدوليين من المغادرة في مرحلة ما، لذلك يجب على الأطراف صياغة تسوية سياسية مسبقا من أجل تجنب نتيجة حيث تستولي حركة الشباب على السلطة بشكل افتراضي ولا تحتاج إلى تقديم تنازلات.

رأي حركة الشباب في المفاوضات غير واضح. وعلى الرغم من مراقبتها الدقيقة للوضع في أفغانستان، فقد قللت الرسائل العامة للجماعة من حقيقة أن طالبان انخرطت في حوار مع الولايات المتحدة، وبدلا من ذلك نظرت لما حدث على أنه انتصار لطالبان وسط انسحاب أمريكي.  وكما قال أحد كبار السن المرتبطين بحركة الشباب، لمجموعة الأزمات «أخطأ الطالبان في الموافقة على التفاوض مع ‘المسيحيين’ لكن النتيجة النهائية كانت جيدة». 

ويبقى، بحسب التحليل، أن نرى ما إذا كان نجاح طالبان سيحث حركة الشباب على محاولة الجمع بين الدبلوماسية والقوة العسكرية من أجل تحقيق أهدافها في الصومال أم لا.