“أعطني مسرحًا وخبزا أعطيك شعبا عظيما ومثقفًا”.. تعبر تلك المقولة عن ارتباط وثيق بين تذوق الثقافة والمسرح. والأخير هو أداة أساسية في تشكيل وعي الشعوب وتوصيل المعاني السياسية والاقتصادية إليهم بوسيلة مباشرة دون حائل. ويفتح التواصل المباشر بين الممثلين والجمهور.

عادت تلك المقولة للمواجهة، حاليًا، بعد الأزمة التي أثارها إعادة تقديم مسرحية “المومس الفاضلة” للكاتب الفرنسي جان بول سارتر. من بطولة إلهام شاهين، التي صادفت هجوما من نائبين بمجلسي النواب والشيوخ انصب على اسمها فقط. ووصل لحد الممانعة ليتم وصمها بالإباحية وإفساد الذوق العام.

تتعلق المسرحية، المثيرة للجدل، بقصة عن التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وتم تجسيدها في الستينيات مسرحيا من بطولة سميحة أيوب، وتذوقها الجمهور حينها. وليس لها علاقة بالإباحية سوى في مهنة بطلتها “لوزي” كباغية ترفض الشهادة ضد زنجي بالمحكمة لصالح ثري أبيض.

تظهر المسرحية مدى الاختلال القيمي في المجتمع المصري الذي ينصب نفسه حاميا للقيم والأخلاق وفي ذات الوقت ينافيها في تصرفاته. فالهجوم على المسرحية تم بسبب كلمة “مومس” التي وردت في العديد من الأعمال الفنية الروائية المصرية وبينها نجيب محفوظ أديب نوبل.

طالب نائبان في البرلمان أحدهما بمجلس النواب والثاني بالشيوخ بمنع عرض المسرحية حفاظا على القيم في مجتمع يعاني اختلالاً أخلاقيًا. ولديه شغف برؤية جميع الأعمال السينمائية الممنوعة من العرض على موقع يوتيوب. ويلتقمون بفارغ الصبر أي مقطع يحمل عبارة شاهد قبل الحذف.

دعاوى الحسبة

ذكرت مطالب المنع بدعاوى الحسبة التي ظلت خلال السنوات الماضية مشكلة مزمنة تواجه المثقفين والفنانين. ووصلت إلى حد تقديم 51 بلاغًا ضد فنانين وسياسيين خلال عام 2019 والنصف الثاني من عام 2020 نحو 30 عملاً. بعضها تم إحالته للقضاء، بحسب برنامج حرية الرأي والتعبير بمؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان.

دعاوى الحسبة هي أنواع من الدعاوى يقيمها محامون دفاعا عما أسموه بـ”حق الله تعالى” عند العجز عن تغيير المنكر بالمراتب المتقدمة. أو عند انتهاء المنكر المراد تغييره، وهو نمط تخصص فيه محامون مصريون حتى وصف أحدهم بـ”جلاد الفنانين”. بعدما قدم نحو 10 بلاغات في فنانين ومذيعات أحدها بسبب أفيش فيلم، والثاني بسبب طريقة رقص مطربة في مقطع فيديو كليب.

الإشكالية في أن المحامين الذين تباروا في رفع دعاوى الحسبة ذاتهم استخدموا ألفاظ في دعاويهم أكثر خدشا للحياء مما ورد في الأعمال المُحتسب فيها. كاتهام مطربة بأنها تغني بمؤخرتها وليست بحنجرتها، أو وصف راقصات بأنهن يوصلن طلبات الجنس الصريح للمنازل مجانًا. ووصل الأمر للتهديد على اغتصاب الفتيات قسرا والتحرش بهن حال ارتدائهن ملابس خليعة.

تناقض فج

يبدي الجميع رفضه التحرش لكن تحتل مصر المرتبة الأولى عالميًا سواء لفظي وجسدى وجنسي وفق دراسة للأمم المتحدة عام 2013. وكثيرون ينتقدون عدم تنفيذ أحكام قضائية بإغلاق المواقع الإباحية. وفي الوقت ذاته تصل نسبة مشاهدتها بين الفئة العمرية 35 و50 عامًا بمصر إلى 25,5% من إجمالي من يتصفحونها. ونحو 20% للفئة من عمر 25 وحتى 34 عامًا.

تلك الازدواجية التي جعلت الجزء الثاني من مسلسل “رامي” للممثل ذو الأصول المصرية رامي يوسف ومعه عمرو واكد. يتلقى هجوما بسبب وجود ممثلة الأفلام الإباحية اللبنانية المعتزلة مايا خليفة ضمن أحداثه فقط، رغم أن العرب هم الأكثر استهلاكا للأعمال التي صورتها على مدار تاريخها.

تظهر في الجروبات النوعية المغلقة على موقع فيسبوك كمية الازدواجية لدى المصريين. فتتضمن أقصى درجات الألفاظ الشعبية إثارة للخجل واستشارات وتعليقات مثيرة للخجل وتتعلق بأكثر الأمور حساسية في العلاقات بين الأزواج. والتي لا يناقشونها في العلن أو حتى بين الأطباء الذين يزورونهم لحل مشكلاتهم الصحية والنفسية.

ينتقد الناقد الدكتور يسري عبدالغني، خبير التراث الثقافي، الوصاية المسبقة على الفن فالدستور يكفل حربة الإبداع في شتى المجالات. وانتقد أيضًا تقديم استجواب برلماني ضد مسرحية رغم وجود عشرات القضايا الثقافية التي يعاني منها الشارع. في مقدمتها غياب دور قصور الثقافة وخططها لمواجهة التطرف والإرهاب ودورها في تنمية ثقافة الطفل والشباب.

محنة التراث المصري

وفقًا لعبدالغني، فإن الثقافة المصرية تمر بمحنة فالتراث المصري المسرحي مليء بأعمال جيدة لا يتم التعبير عنها مسرحًيا. مضيفًا: “إذا تم اتهام سارتر الكاتب الفرنسي الذي كثيرًا ما أيد العرب في قضايا مصيرية بالإباحية.. فكيف يمكن تقييم عشرات روايات الفراش والغرف المغلقة التي تتضمن كلامًا ماجنًا يدعو إلى الرذيلة؟ والتي تفتقد لأي علاقة بالعمل الأدبي من الأساس.

يؤكد الدكتور أحمد أبوزيد، أستاذ علم الاجتماع في كتاب بعنوان الثابت والمتغير في الشخصية المصرية. أن القول بأن الشعب المصري متدين بطبعه مجرد أسطورة، خاصة وأن هذا التدين انحصر في الشعائر والطقوس ولم يوظف في خدمة السلوكيات.

ربما ترتبط إشكالية التدين الشكلي عند المصريين منذ السبعينيات دون أن ينعكس ذلك على المعاملات مع سطوة التشدد الديني التي صاحبت المهاجرون لدول الخليج النفطية وغير مبني على علم أو ثقافة. وانتشار مظاهره في الشارع المصري متمثلة في المبالغة في المظاهر الدينية فقط دون فهم جوهرها.

في الخمسينيات، كانت كليات الفنون الجميلة في مصر تعتمد على النماذج البشرية العارية لتعليم الطلاب الرسم. وفي الستينيات كانت الموضة السائدة الملابس القصيرة دون تحرش وحاليا لا يستطيع فنان واحد الاقتراب في معرض رسمي من رسم “النود آرت” خوفا من الترويج لم يخدش الحياء المجتمعي.