لم تكن الانتخابات المبكرة الأخيرة التي شهدها العراق في أكتوبر الماضي سوى لعبة سياسية أدارها بذكاء الزعيم القومي -ذو العقلية المستقلة عن طهران- مقتدى الصدر، في مقابل تحالفات الموالاة. وقد حمل عنوانها الأكبر «خسارة مدوية لإيران بالعراق» أمام رجل فهم النظام الانتخابي الجديد، فأجاد تحريك قطعه على رقعة الشطرنج ببلاده.

العلاقة الملتبسة بين مقتدى الصدر وإيران؟

ينحدر مقتدى الصدر من أسرة دينية عريقة، فهو الأبن الأصغر لآية الله محمد صادق الصدر، مرجع شيعي ومؤسس لحزب الدعوة، قتله نظام صدام حسين. وقد كان والده وحموه آية الله العظمى محمد باقر الصدر، شخصيتين دينيتين موقَّرتين، قاما بدعم شبكات رعاية اجتماعية قوية بين فقراء الشيعة. وبعد رحيل نظام صدام استفاد من شبكة معارف عائلته في الانتشار السياسي بين العراقيين، الأمر الذي وصل حد تغيير اسم أكبر حي شيعي في العاصمة بغداد من «مدينة صدام» إلى «مدينة الصدر».

تميزت مواقف الصدر بمعارضة الوجود العسكري الأمريكي. وهو يمزج بين نزعة وطنية عراقية وتوجهات دينية. ما جعله محبوبًا لدى الكثير من فقراء وبسطاء الشيعة في العراق.

الصدر واحد من بين القلائل من القادة الشيعة العراقيين الذين أبقوا مسافة بينهم وبين إيران. فقد انتقدها في كثير من الأحيان، لتدخُّلها في كل من سوريا والعراق. بل وزار المملكة العربية السعودية، المنافس الإقليمي لإيران عام 2017. كما دعا الرئيس السوري، بشار الأسد حليف إيران، إلى «اتخاذ قرار تاريخي بطولي» بالتنحي عن السلطة، ليجنب بلاده المزيد من سفك الدماء.

ومع ذلك، فقد تردد الصدر، خلال الفترة ما بين عامي 2007 و2011، على إيران. حيث درس في حوزة قم، في مسعى لتطوير أوراق اعتماده الدينية. وفي سبتمبر 2018، ظهر جالسًا إلى جانب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي. وعلى يساره، العقل المدبر للمد الإقليمي لإيران، وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني. وهي صورة أثارت جدلاً كبيرًا في معظم أنحاء العراق، وفق تقرير لشبكة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، استند إلى مؤلف سيرة مقتدى الصدر الكاتب باتريك كوكبورن، لشرح هذا الالتباس في علاقة الرجل بإيران. حيث قال إنه لا يرى تناقضًا حقيقيًا في ذلك كلّه؛ لأن الصدر اتبع ووالده نهجًا ثابتًا إلى حد كبير، باعتبارهم قادة دينيين شعبويين في إطار السياسة العراقية المحكومة بمراكز قوى متعددة في الداخل والخارج. وهو ما يعني أنه لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم.

نظام الانتخابات.. كلمة سر فك مقتدى الصدر شفرتها

في 10 أكتوبر الماضي، انطلقت الانتخابات النيابية في العراق. وهي خامس انتخابات منذ الغزو الأمريكي للبلاد. وقد أجريت في وقت مبكر عن موعدها. وذلك استجابة لمظاهرات حاشدة شهدتها البلاد لعدة أشهر، طالبت بإصلاح سياسي. بينما فاز تحالف «سائرون» بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بأكثر الأصوات. وهو الأمر الذي رفضه العديد من القيادات الشيعية. ومنهم هادي العامري قائد تحالف الفتح، المظلة السياسية لقوات الحشد الشعبي، الموالي لإيران.

الحشد الشعبي مجموعات شبه العسكرية، استدعاها التسلسل الهرمي الديني الشيعي للسلاح في عام 2014 لمساعدة الحكومة في محاربة تنظيم الدولة (داعش).

في تقرير جديد حول هذه الانتخابات، قالت الباحثة في «مجموعة الأزمات الدولية» لهيب هيجل إن انتصار حركة الصدر في العملية الانتخابية كان متوقعًا بشكل كبير. نظرًا لقاعدتها الموالية والمنظمة بشكل جيد، والمركزة في الضواحي الشرقية لبغداد والجنوب. إلا أن المفاجأة الكبرى كانت في حجم هذا الانتصار، برفع المكاسب من 54 مقعدًا في 2018 إلى 73 في الهيئة التشريعية الجديدة. وذلك رغم أن التصويت الصدري نفسه لم ينمُ في بعض المحافظات. بل بدا أصغر مما كان عليه في 2018.

وتضيف هيجل أن مقتدى الصدر استفاد من مزيج من الإقبال المنخفض على الانتخابات. بالإضافة إلى الدراسة الدقيقة للدوائر الانتخابية الجديدة. وهو ما سمح لكتلته بضمان عدم تنافس مرشحيها على نفس الناخبين. الأمر الذي لم يدركه المنافسون الآخرون إلا متأخرًا.

في 2019، اندلعت احتجاجات شعبية عارمة عُرفت بـ«حركة تشرين» في جميع أنحاء البلاد. حيث دعا المتظاهرون إلى إصلاح جذري للنظام السياسي بعد عام 2003. وهو ما استجابت إليه الحكومة بإعلان إجراء انتخابات نيابية مبكرة في أكتوبر، وقبل موعدها بستة أشهر. إلا أن هذه الانتخابات شهدت عزوفًا كبيرًا من العراقيين. حيث شارك 44% من الناخبين المسجلين. وكان معدل القياس هذا متوقعًا على نطاق واسع، مدفوعًا بعدم ثقة في أن تحدث الانتخابات تغييرًا ذا مغزى للنظام.

وقد أدت نسب التصويت المنخفض تلك إلى زعزعة التوازن داخل النخبة العراقية. خاصة في المعسكر الشيعي، حيث اكتسبت كتلة الصدر قوة كبيرة على حساب تحالف فتح، الذي يمثل مصالح مجموعات الحشد الشعبي شبه العسكرية، المحسوبة على إيران. والتي لم تتعامل بشكل جيد مع النظام الانتخابي الجديد، فقدمت العديد من المرشحين الذين تنافسوا ضد بعضهم البعض في نفس الدوائر الانتخابية، ومن ثم فشلوا.

الخطأ الذي وقع فيه الموالون لإيران

نشر معهد المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس»، في أكتوبر الماضي، تقريرًا حول الاستراتيجية التي اتبعها التيار الصدري، وحققت له الفوز على أبرز منافسيه، تحالف الفتح المدعوم من طهران. وقد اعتمد التقرير على أرقام من النتائج الأولية لمفوضية الانتخابات في العراق عبر موقعها الرسمي. قال إنها أظهرت أن الصدريين حصلوا على عدد أصوات أقل مما حصلت عليه كتلة الفتح. وأنهم مع ذلك حققوا (الصدريين) الفوز في النهاية بحصولهم على 73 مقعدًا، بفارق يقترب من 60 مقعدًا عن تحالف الفتح الذي لم يتمكن إلا من حصد 17 مقعدًا في البرلمان المكون من 329 مقعدًا. وكان قد حقق المركز الثاني في انتخابات 2018 بـ48 مقعدًا.

يقوم النظام الجديد للانتخابات على مبدأ التصويت الفردي، أو نظام الفائز الواحد، داخل دوائر انتخابية متعددة المقاعد. بما لا يسمح بتحويل الأصوات. إذ يهدف لخلق عملية انتخابية أكثر شفافية لا تحتاج إلى حسابات معقدة للفوز بالمقاعد. لذلك، فإن هذا النظام يتطلب من الأحزاب والقوى المتنافسة اعتماد معايير دقيقة لاستراتيجياتها، إذا أرادت الفوز بصناديق الاقتراع.

ففي ظل الأنظمة الانتخابية القديمة (القائمة المفتوحة أو المغلقة)، كان يمكن إعادة توزيع الأصوات التي حصل عليها مرشح ما على مرشحين آخرين من نفس الحزب. وبالتالي، في حال كان الفوز بمقعد في البرلمان يحتاج لخمسة آلاف صوت مثلاً، وحصل أحد المرشحين على 10 آلاف، فإن الفائض يذهب لمرشح آخر من الحزب ذاته. في المقابل، ينص القانون الجديد على عدم جواز تحويل الأصوات التي يحصل عليها المرشح لمرشح آخر. ما يؤدي إلى إهدار عدد كبير من الأصوات. وهذا ما حصل مع تحالف الفتح.

إذ يتكون تحالف الفتح من عدة أحزاب متنافسة، كمنظمة بدر وصادقون وسند. وقد أراد كل حزب منها ترشيح مرشح خاص به ضمن قائمة الفتح، ما أدى إلى إهدار الأصوات. بينما على العكس تقدمت كتلة الصدر في الدائرة الأولى مثلاً بمحافظة القادسية، بمرشح واحد فقط، وفاز بأكبر عدد من الأصوات. كما رشحت امرأة واحدة في الدائرة ذاتها تمكنت من الفوز بمقعد عبر الكوتا المخصصة للنساء.

الطعن والمواجهات العنيفة

في ظل هذه الهزيمة الفادحة لتحالف فتح ونتائج الانتخابات التي أشاد بها أعضاء مجلس الأمن الدولي، شكلت الأحزاب الشيعية الخاسرة جبهة موحدة تحت مسمى «الإطار التنسيقي الشيعي». وقد شككت هذه الجبهة في نتائج الانتخابات ودفعت بأنها شهدت عمليات تزوير. وقد تزامن ذلك مع مواجهات عنيفة بين محتجين منتمين لفصائل الحشد الشعبي ورجال الأمن في المنطقة الخضراء ببغداد. الأمر الذي أسفر عن سقوط قتيلين وقرابة 150 مصابًا بين الطرفين. حيث زار قيس الخزعلي الأمين العام لـ«حركة عصائب أهل الحق»، موقع التظاهر الذي نظمته حركته. وسجل مقطع فيديو يلقي فيه باللوم على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في إطلاق النار، ويتعهد بمحاكمته. وهو ما أعقبته محاولة اغتيال الكاظمي، وفق تقرير «مجموعة الأزمات الدولية».

لهيب هيجل
لهيب هيجل

عملت لهب في العراق وإقليم كردستان في مناصب مختلفة منذ عام 2013. ومؤخراً عملت في جهود الوساطة في العراق وليبيا وسوريا لمجموعة الحوار الاستشارية (DAG).

 

هنا، يقول تقرير مجموعة الأزمات إنه إذا كان المقصود من هذه الهجمات أن تكون بمثابة تحذير للكاظمي، فقد يكون لها تأثير معاكس. هذا لأن هذه الضربة التي استهدفت منزل الكاظمي بطائرة بدون طيار، جلبت إدانة وطنية ودولية. ذلك إلى جانب تصريحات الدعم لرئيس الوزراء وحكومته، بما في ذلك من إيران، التي تدعم الجماعات شبه العسكرية والحكومة أيضًا. إذ تظل الأولوية الإيرانية الأولى الآن هي الوحدة في المعسكر الشيعي حول مخاوف رئيسية، مثل تشكيل حكومة بقيادة الأحزاب الشيعية.

تشكيل الحكومة

تعود لهيب هيجل -في تقريرها بمجموعة الأزمات حول نتائج الانتخابات العراقية- فتقول إنه من المؤكد أن تشكيل حكومة جديدة في العراق سيكون مسألة طويلة الأمد. وعلى عكس ما هو متوقع إلى حد ما، فإن الهامش الكبير لانتصار الصدر يجعل من غير المرجح أن يسعى إلى تشكيل حكومة أغلبية تستبعد المالكي أو تحالف فتح.

على سبيل المثال، فإن فتح غاضبة من هزيمتها اللاذعة، واستبعاد الأحزاب الخاسرة من السلطة لن يؤدي إلا إلى زيادة تصميمها على المقاومة -رغم أن بعض قادتها يزعمون أنهم لن ينضموا إلى الحكومة. علاوة على ذلك، حتى لو ظهر الصدر منتصرًا، فلن يرغب في تحمل مسؤوليات الحكومة بمفرده. أو المجازفة بتحمل كل اللوم عن أي إخفاقات. لذلك فمن الأرجح أن يُدفع إلى المشهد برئيس وزراء توافقي.

ويؤكد تقرير هيجل أن عملية تشكيل الحكومة أكثر تعقيدًا من مجرد توزيع المناصب الوزارية. لأنها تشمل حصصًا من المناصب الرئيسية (ما يسمى بالدرجات الخاصة) في بيروقراطية الدولة، والتأثير على المؤسسات المالية مثل البنك المركزي. فضلاً عن الأدوار الإدارية في الفرع التنفيذي الذي له نفوذ على صنع السياسات. وتقول: إذا اقتربت الأحزاب الشيعية من اتفاق مُرضٍ عبر هذه المستويات حول مكان وضع الموالين لها، فإن المنافسة، على الأرجح بين الصدر ومنافسيه، على من يمكنه تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان -وبالتالي تسمية رئيس الوزراء- ستكون أقل أهمية في تشكيل حكومة جديدة.