بينما تزداد تهديدات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وجيش تحرير أورومو، بالزحف إلى أديس أبابا وإسقاط الحكومة الفيدرالية. تتعلق الأنظار إلى الشخصيتين الرئيسيتن في هذه المواجهة – رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وزعيم التيجراي ميكائيل جبر دبرصيون.

لكن  أسياس أفورقي أبرهام، الرئيس الإريتري هو أحد أهم أضلاع ومفاتيح الصراع الدائر في إثيوبيا، وهو طرف أصيل في هذه الحرب. ليس فقد لكونه يشارك فيها متحالفا مع حكومة “آبي” ضد “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”. بل أيضًا لأسباب تتعلق بموقع إرتيريا بالنسبة للدولة “الأم”. إلى جانب شخصية الرجل وأحلامه التوسعية.

رجل الانشقاقات التنظيمية

ولد أسياس أفورقي في ضاحية يقطنها أغلبية عمالية بالعاصمة الإريترية أسمرا، في عام 1946. في فترة كانت تعاني فيها البلاد من الاستعمار الإيطالي، ثم الإنجليزي بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. إضافة للسيطرة الإثيوبية حيث كانت إثيوبيا تَعتبر أن إريتريا جزءًا من أراضيها، وحقًا تاريخيًا أصيلًا لها.

تملك الصبي خلال سنوات المدرسة نزعة قومية تحررية وبدا كارهًا للخلافات الإثنية والصراعات العرقية فكان يرتأي أنها تعرقل الكفاح نحو الاستقلال.

في عام 1965، التحق أسياس بكلية الهندسة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، لكنه تركها بعد عام واحد، فلم ير الفتى نفسه سوى محاربًا. شد الشاب رحاله إلى مدينة “كسلا” السودانية لينضم إلى “جبهة تحرير إريتريا” التي قادت الكفاح من أجل الاستقلال. حيث كانت تتخذ من “كسلا” مركزًا ومنطلقًا لها.

أسياس وآبي أحمد
أسياس وآبي أحمد

أرسلته جبهة التحرير الإريترية  بعد أعوام قليلة من انضمامه، إلى الصين ليتدرب كمفوض سياسي. ثم عاد لينشق عن الجبهة ويلتحق بقوات التحرير الشعبية في عام 1972. وهي جناح منفصل عن جبهة تحرير إريتريا. بعدها بخمس سنوات انشق عنها لينضم إلى “الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا” ويصبح بعد أقل من 10 سنوات أمينها العام. استطاعت الجبهة تحت قيادته تحقيق العديد من الانتصارات والسيطرة على مساحة كبيرة من أراضي إريتريا.

لقد أتقن أسياس اللعب على المتناقضات واحترف تغذية الانشقاقات التنظيمية وعرف جيدا كيف يستفيد منها.

التحالف مع التيجراي ورحلة الاستقلال

تحالف أسياس أفورقي مع زعيم “جبهة تحرير تيجراي” ملس زيناوي، ليخوضا معًا نضالًا طويلًا ضد نظام حكم الديكتاتور الإثيوبي منغيستو هايلي مريم. بعدما وعده زيناوي بحصول إريتريا على استقلالها.

في عام 1991 استطاعت “جبهة تحرير تيجراي” هزيمة منغيستو، وتولى زيناوي رئاسة البلاد. لتحصل إريتريا على استقلالها بعد عامين من سقوط منغيستو.

ميلس زيناوي
ميلس زيناوي

في عام 1993 اختير أفورقي رئيسًا للجمعية الوطنية، والتي اختاره أعضاؤها أنفسهم، بعد أيام قليلة، كأول رئيس لإرتيريا. وفي نفس العام حول أسياس الجبهة إلى حزب سياسي تحت اسم “الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة”. وأصبح أيضًا أمينا عامًا للحزب.

اتبع أفورقي سياسة الحزب الواحد ورفض إجراء أي استحقاق انتخابي منذ توليه السلطة وحتى الآن. واضعًا كافة السلطات في يديه.

رفاق الأمس أعداء اليوم

الكثير من المشتركات بين أفورقي وزيناوي كانت تُنبئ بتحالف طويل بينهما بعدما تولى كلا منهما الحكم في بلاده. فهما ابنا عرقية التيجراي، ورفاق سلاح ارتبطا لسنوات طويلة بمسيرة كفاح ومصير واحد. لكن تغيرًا درامتيكيًا طرأ على علاقتهما. فاندلعت حرب دامية بين البلدين، بين عامي 1998 و2000، سقط فيها بحسب تقديرات دولية نحو 100 ألف قتيل وشُرد ملايين المواطنين.

ظلت أسباب الحرب العبثية مجهولة، حتى كشفتها وثيقة نشرها موقع ويكليكس في عام 2014. لبرقية أرسلها السفير الأمريكي في إريتريا، إلى وزارة الخارجية الأمريكية عام 2010.

تكشف البرقية، أنه بينما كان أسياس أفورقي وأسرته وعدد من معاونيه عائدون من رحلة في كينيا عام 1996. مروا على أديس أبابا حيث استقبلهم الزعيم ملس زيناوي والذي كان قد تولى رئاسة الوزراء. جهز لهم زيناوي إحدى طائراته لتقلهم إلى العاصمة أسمرا. اشتعلت الطائرة في الجو لكن قائدها استطاع العودة بـ أفورقي ومرافقيه سالمين. وبحسب أحد من حضروا الواقعة فإن أسياس اتهم زيناوي وجهًا لوجه بمحاولة اغتياله، لتندلع بعد أقل من عامين الحرب بينهما.

رجل  أدمن الحروب

استمر أسياس في إشعال المعارك من حوله،  طيلة  فترة حكمه. في العام الأول لتوليه الرئاسة، دعم أفورقي المعارضة المسلحة في جنوب وشمال السودان. بعدما اتهم الخرطوم بدعم تنظيمات متشددة في إريتريا بهدف الإطاحة به، وهي التهم التي أنكرتها حكومة السودان.

وفي عام ١٩٩٧ عرض التلفزيون الإريتري اعترافات لرجل يدعى محمد أبو الخيرات. زعم أنه كُلف من قبل المخابرات السودانية باغتيال الرئيس أسياس أفورقي. وهو ما وصفته السودان بأنه مجرد مسرحية. بعدها بأيام شن أفورقي هجومًا على جارته الغربية.

في عام 2008 أقبل أسياس على غزو جيبوتي في خطوة شبيهة بغزو صدام حسين للكويت لكن التدخل الأممي خاصة دعم فرنسا اللوجستي لجيبوتي حال دون ذلك.

أسياس أفورقي أبرهام
أسياس أفورقي أبرهام

كانت هناك عدة أهداف وراء غزو جيبوتي لكن الهدف الأكثر أهمية لدى أفورقي هو حرمان إثيوبيا من موانئ جيبوتي. التي اعتمدت عليها بعد استقلال إريتريا عام 1993، حيث كانت إريتريا منفذًا بحريًا لإثيوبيا بمرفأيها عصب ومصوع. اللذين فقدتهما بشكل نهائي بعد الحرب التي اشتعلت بين أفورقي وزيناوي.

ربط محللون بين موعد اندلاع الحروب التي خاضها أسياس أفورقي، وموعد الانتخابات الإريترية. فكلما كان يحل استحقاقًا انتخابيًا كان الرجل يشعل حربًا.

من أجل استقلال إريتريا.. أحلام التوسع والنفوذ

المحارب العتيد كان عنده أسباب أكثر من مجرد إلهاء شعبه بإشعال المعارك من حوله. فالرجل الذي خاض كفاحًا امتد لثلاثين عامًا من أجل استقلال إريتريا، كان طموحه أكبر من حكم دولة صغيرة.

سعى أفورقي إلى توسيع نفوذه جغرافيًا وعسكريًا وسياسيًا، فمن العبث بحدود السودان ودعم المعارضة المسلحة في الجنوب والشمال. إلى مساندة “حركة الشباب الصومالية” وهو الاتهام الذي يفرض بسببه مجلس الأمن عقوبات على إريتريا منذ 2009 وحتى الآن. ومن الحرب ضد إثيوبيا نهاية التسعينيات، إلى غزو جيبوتي عام 2008. ثم إرسال قواته في العام 2018 للمشاركة في الحرب التي يشنها التحالف الخليجي على اليمن.

وإن كانت التقارير تشير إلى أن إريتريا بعثت بـ 6 كتائب للمشاركة في العمليات العسكرية لـ”عاصفة الحزم” ضد الحوثيين. مقابل حوافز عسكرية تكتم عليها أفورقي، فإن المال لم يكن هدف الرجل الوحيد. لقد كان هدفه الأكبر والأهم هو أن تمتد يده داخل اليمن، فالرجل يرى نفسه أكبر من مجرد قائد لجيوش من المرتزقة.

وحتى تحالفه الأخير مع آبي أحمد بعد مصالحة تاريخية بين البلدين، ومشاركة قواته منذ ما يقرب من عام وحتى الآن في محاربة تيجراي، إلى جانب الإثيوبيين. حيث اتُهم رجاله بارتكاب أعمال قتل واغتصاب، ترقى إلى مرتبة جرائم الحرب، بحسب تقارير دولية. كل ذلك لم يكن سوى إنعاش لأحلام أفورقي وأطماعه في التوسع والنفوذ.

استبداد وفقر

لما يقرب من ثلاثين  عامًا، حكم  أسياس أفورقي إريتريا حكمًا ديكتاتوريًا، يقول مايك سميث، رئيس لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في إريتريا: “إريتريا دولة مستبدة فليس بها سلطة قضائية مستقلة ولا برلمان منتخب ولا مؤسسات ديمقراطية، كما أن هناك إفلات من العقاب لجرائم ضد الإنسانية  يرتكبها النظام منذ أكثر من ربع قرن”.

لم يقدم أفورقي أي شيء لشعبه في مقابل استمراره في الحكم لمدة ثلاثين عامًا. فلا هو استطاع القضاء على الجوع وتحسين مستويات المعيشة كما فعل رفيقه السابق ملس زيناوي في إثيوبيا بداية حكمه. حيث قدم للإثيوبيين ما يمكن وصفه بـ”رشاو اجتماعية” في مقابل التضيق على الحريات وتقليص مساحة الديمقراطية. ولا هو اهتم بالبنية التحتية وبناء قوة اقتصادية لبلاده. يقول أسياس نفسه في آخر خطاب له بثه التلفزيون الإريتري في فبراير من العام الحالي: “إن الاقتصاد الإريتري لم يتأثر بجائحة كورونا، لأنه لم يكن هناك اقتصاد أصلًا”. لا يمكننا أن نتخيل هذا المزيج من الفشل والعنجهية.

معارضة رغم القمع

إريتريا بمثابة صندوق مغلق، لا أحد يعرف ما يدور بداخلها لكن تقارير دولية اعتمدت على شهادات موظفين أمميين. ومواطنين فارين من جحيم أفورقي، ربما ترسم صورة عما يحدث. يشير تقرير صادر في عام 2016، عن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في إريتريا. إلى أن نظام أفورقي ارتكب منذ الاستقلال جرائم ترتقي إلى مرتبة جرائم الحرب، ومنها ما يمكن وصفه بجرائم الاسترقاق. حيث ذكرت تقارير عدة أن جنودا من قوات أفورقي قتلت واختطفت الآلاف من معسكرات اللاجئين وأعادتهم قسرًا إلى إريتريا. كما اعتقلت قوات أسياس بحسب التقارير ذاتها، الآلاف من المشتبه في معارضتهم وأخفتهم قسريًا، ومارست أعمال تعذيب واضطهاد وقتل واغتصاب من أجل ردع المعارضة.

على الرغم من ذلك فقد شهد نظام أفورقي العديد من التمردات أولها بعد عام واحد من توليه رئاسة إريتريا. ففي 1994 قام عدد من العسكريين سرحهم أفورقي، باقتحام قصر الرئاسة، وتلو عليه مطالبهم والتي تضمنت تسوية أوضاعهم. انتهى التمرد بعد تدخل عدد من قيادات الجيش، حيث وعدهم “أفورقي” بتحقيق مطالبهم. بالطبع لم ينفذ وعده  فاعتقل في اليوم التالي قيادات التمرد والذين لم يُعرف مصيرهم حتى الآن.

وفي عام 2001، طالب عدد من كبار المسؤولين بينهم نائب الرئيس أفورقي بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. وتطبيق الدستور ومعاقبة المتسببين في اندلاع الحرب مع إثيوبيا والتي كلفت البلاد أثمان غالية وراح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى وملايين المشردين. استطاع أفورقي السيطرة على الحراك واعتقل قياداته بتهمة التآمر مع قوى أجنبية لقلب نظام الحكم.

بعد اثنى عشر عامًا سيطر عدد من العسكريين على مبنى التلفزيون وحاصروه بالدبات فيما عرف بـ”انقلاب التلفزيون”. حيث  أجبروا مدير التلفزيون على تلاوة بيان يطالب بالإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين وتطبيق مواد الدستور. وهو التمرد الذي استطاع أفورقي أيضًا السيطرة عليه.

الرجل ذو الوجوه المتعددة

ليس لدى أفورقي الذي يصف نفسه بالزعيم الثوري، أي مبدأ سياسي أو إنساني يحكم علاقاته وتكيتيكاته. فكل شيء مباح في طريق تحقيق أهدافه، تلك الأهداف التي لا يعلمها غيره. فرفاق الأمس هم أعداء اليوم وهم مؤهلين ليعودوا أصدقاء غدًا، علاقته مع إثيوبيا “التيجراي” ثم إثيوبيا “آبي أحمد” أكبر دليل على ذلك.

علاقته أيضًا بالسودان شهدت تحولات كثيرة فرغم اعترافه بدعم السودان لإريتريا في حربها من أجل التحرير. عمل أفورقي على تأجيج الصراعات داخل السودان عادى البشير واتهمه بمحاولة اغتياله ثم تحالف معه. ثم توترت علاقتهما مرة أخرى قبيل الثورة السودانية.

دعم حركات إسلامية أصولية في الصومال و”خلوات” لتحفيظ القرآن في السودان، بينما كان يغلق المدارس الإسلامية في أسمرا. وقف ضد ثورة السودان ووصفها منذ البداية بأعمال الشغب. اتهم بتأجيج الصراع  بين قبيلتي البني عامر والنوبة في أعقاب اندلاع الثورة السودانية.

حاول كسب ود نظام مبارك ونقل معلومات عن مطامع إثيوبية في مياه النيل. محاولًا تكوين صداقة مع مبارك على حساب إثيوبيا والتي كان مبارك قد اتخذ منها موقفًا حادًا منذ محاولة اغتياله في أديس أبابا. تاركًا الملف الإفريقي برمته، لتخسر مصر دورها في العمق الاستراتيجي للقارة السمراء.

حاول نسج علاقات قوية مع نظام السيسي، مؤكدًا على حماية حقوق مصر في مياه النيل. ثم زار سد النهضة مبديًا إعجابه به بعد المصالحة مع إثيوبيا.

هكذا تعامل الرجل ذو الوجوه المتعددة مع كافة الأطراف وكل القضايا التي اشتبك معها منذ توليه رئاسة إريتريا. مخلفًا مزيدًا من الدمار في كل موقع كانت تطؤه قدماه. لا زال أسياس أفورقي يمثل خطرًا كبيرًا على كل الدول المجاورة. خاصة على مستقبل إثيوبيا التي يتحالف مع حكومتها الفيدرالية ضد المعارضة بقيادة الأورومو والتيجراي، والذي ربما يتحالف معهما غدًا لخدمة مصالحه وأطماعه.