بانسحاب مفاجئ ومربك ومغيّر لقواعد اللعبة غادرت القوات المشتركة التي يقودها طارق محمد عبدالله صالح، نقاطًا استراتيجية في جنوب الحديدة. وهو الانسحاب الذي اعتبر إخلاءً للمنطقة التي دخلتها قوات الحوثي وهي فارغة من أي تواجد عسكري للمنافس. غير أنّ المثير للدهشة هو أن القوات المحسوبة على الحكومة اليمنية غادرت المنطقة دون التنسيق مع القيادة المركزية أو الأمم المتحدة الراعية لاتفاق ستوكهولم في تلك النقاط.
أخلت القوات المشتركة، التي يقودها نجل شقيق الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، المنطقة تحت مبرر إعادة تموضع، وهو الوصف الذي اعتبر ساذجًا من الناحية العسكرية والسياسية، باعتبار أن ما حدث ليس إلا “تسليم وتسلم” بين القوات المشتركة والحوثيين، وهنا قفز إلى الواجهة ما راج عن صفقة إماراتية- إيرانية لإعادة توزيع النفوذ جغرافيًا في اليمن، بينما ترقب السعودية التطورات في صمت، لا يخلو من قلة حيلة.
ماذا حدث في الحديدة؟
الوضع في اليمن، خاصة في الحديدة كان مثار جدل خلال السنوات الماضية، مع تعطل اتفاق استكولهوم، وتضارب مصالح الإمارات والسعودية في البلاد بشكل عام، قبل أن تفاجأ القوات المدعومة إماراتيًا بتخليها عن أكثر المناطق الاستراتيجية التي كانت تحت يد القوات الحكومية منذ بدء الحرب.
ما هي القوات المشتركة؟
تضم القوات المشتركة، المدعومة من الإمارات، في الساحل الغربي اليمني “باب المندب – الحديدة” ثلاث قوى رئيسة هي قوات العمالقة، والقوات التهامية، والمقاومة الوطنية (حراس الجمهورية)، وهي تعمل جميعًا تحت مظلة قوات التحالف العربي، والقيادة المركزية للقوات الحكومية.
الأهمية الاستراتيجية للحديدة
تعتبر الحديدة شريان الحياة بالنسبة للحوثيين، فهي تمثل أهمية جغرافية وعسكرية واقتصادية، حيث تقع في الوسط بين المحافظات الشمالية، وغرب العاصمة صنعاء. كما تضم المدينة ثاني أكبر ميناء في اليمن، ويعتبر البوابة الرئيسية على البحر الأحمر، ومن خلاله تتواصل الجماعة مع إيران عبر البحر، وتتلقى إمدادات السلاح، أو حتى الاحتياجات الغذائية.
اقرأ أيضًا| أرقام وحقائق.. لماذا حرب اليمن عبثية كما وصفها قرداحي؟
كما أن أهمية ميناء الحديدة ليس فقط بالنسبة للحوثيين، إذ إن السيطرة عليه يعني التحكم في مصادر الإمدادات بعموم البلاد، حيث يستقبل الميناء حوالي 70% من الواردات التجارية، وشحنات الإغاثة القادمة إلى اليمن.
الوضع الميداني قبل الانسحاب
قبل الانسحاب كانت القوات المشتركة (الحكومية) تُطبق الحصار على مدينة الحديدة وتمنع وصول أي إمدادات قادمة من البحر إلى العاصمة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. فهي مسيطرة على جنوب المدينة وشرقها، ولا يتبق سوى كيلو متر واحد شمال الحديدة، ما يعني أن ميناء المدينة كان على مرمى العين، وأي سلاح يصل بغرض نقله إلى الحوثيين في صنعاء يكون في مرمى نيران القوات الحكومية، ذلك أن المنطقة الواقعة بين مضيق باب المندب ومدينة الحديدة تحت سيطرة القوات المشتركة.
وبالتالي كانت القوات المشتركة ترسم قوسًا حول الحديدة يدير ظهره إلى صنعاء وأمامه الشريط الساحلي وميناء المدينة، بالإضافة إلى المطار الواقع في قلب القوس. وهنا كانت نقاط التماس التي رسمها اتفاق استولكهام. وطالب الحوثيين وإيران الداعم الرئيس لهم بإخلاء تلك المنطقة لإيصال المساعدات إلى صنعاء، حيث الأزمة الإنسانية المتفاقمة، لكن الطرف الحكومي كان يتخوف من إمداد طهران للمتمردين بالسلاح والدعم العسكري.
حدود الانسحاب
القوات المشتركة انسحبت بالكامل من محيط الحديدة، بدءًا من منطقة الصالح في الشمال الشرقي للمدينة، والدريهمي والتحيتا، وصولاً إلى مديرية الخوخة جنوبًا، وهو ما يعني فك الحصار الذي كان مفروضًا على الحديدة.
بعد الانسحاب، سيطرت القوات الحوثية على تلك المناطق، وواصلت التقدم خلف القوات المنسحبة حتى أصبح خط التماس الجديد في منطقي “حيس والخوخة”، ومن ثمّ أعاد الحوثيون فتح طريق رئيسي يربط الحديدة والعاصمة صنعاء.
انسحاب أم إعادة انتشار؟
في تبرير الخطوة، قالت ألوية العمالقة، أحد مكونات القوات المشتركة، والمدعومة إماراتيًا، إنها أعادت انتشارها حول مدينة الحديدة، والتي تعد نقطة الدخول الرئيسية للواردات التجارية وتدفقات المساعدات الإنسانية. كما قال متحدث باسم قوات أخرى مدعومة من الإمارات إن إعادة الانتشار تمت بسبب عدم التحرك لتنفيذ للاتفاق الذي جرى برعاية الأمم المتحدة في أواخر عام 2018 بشأن انسحاب مرحلي لقوات الجانبين من الحديدة.
وقال سمير اليوسفي إن هذا انسحاب من مناطق نص عليها اتفاق ستوكهولم في خطوة “تزيل القيود عن مهام القوات المشتركة، وتحريرها من سيطرة اتفاق السويد الذي عطل كل إمكانياتها وهدد قيمتها العسكرية”.
ثمة فارقًا بين “إعادة الانتشار” و”الانسحاب”، فالأخير يعني التخلي عن مناطق لصالح القوات المنافسة ومن موقع ضعف، أما إعادة الانتشار، فهو يعني تطبيق خطة عسكرية مدروسة، تقوم إزاءها القوات بالتحرك من موقع الانتصار وليس الهزيمة
لكن، بالمفهوم العسكري ما حدث ليس إعادة تموقع أو تموضع عسكري أو إعادة انتشار، بل هو انسحاب دون مبرر ودون تنسيق مع الحكومة اليمنية أو الأمم المتحدة. ذلك أنّ ثمة فارقًا بين “إعادة الانتشار” و”الانسحاب”، فالأخير يعني التخلي عن مناطق لصالح القوات المنافسة ومن موقع ضعف، أما إعادة الانتشار، فهو يعني تطبيق خطة عسكرية مدروسة، تقوم إزاءها القوات بالتحرك من موقع الانتصار وليس الهزيمة. كما أن إعادة التموقع تكون خلال معارك جارية ويضطر طرف لإعادة الانتشار بسبب التكاليف المادية والبشرية الباهظة، فهو يضحي بالتخلي عن مساحة من الأرض لا تفقده توازنه الاستراتيجي والعسكري ويختار أرضًا بديلة توفر له الحماية من القوات المهاجمة.
اقرأ أيضًا| بعد سيطرة الحوثيين على البيضاء.. سيناريوهات مدمرة تنتظر اليمنيين
ما حدث، وفق ما سبق، هو تخلي عن حوالي 70 كيلو، وهي مناطق استراتيجية للغاية لصالح القوات المنافسة، وتركها لقوات الحوثي، مع دفعة معنوية كبيرة، وبالتالي ما حدث ليس إعادة انتشار بل انسحاب بالمفهوم العسكري.
ما موقف القوات الحكومية المدعومة سعوديًا؟
في أعقاب هذا الانسحاب، نفت الحكومة صلتها بالأمر، وقالت إنها لم تعط القوات الموالية لها أي تعليمات بالانسحاب من جبهات بمحافظة الحديدة. وذكر بيان للفريق الحكومي بلجنة التنسيق الخاصة بإعادة الانتشار بموجب اتفاق ستوكهولم في الحديدة، أن “ما يجري في الساحل الغربي من إعادة انتشار للقوات يتم دون معرفتنا ودون أي تنسيق مسبق معنا”.
ومع تقدم قوات الحوثي، قصفت قوات التحالف بقيادة السعودية مناطق بجنوب الحديدة، التي سيطر عليها الحوثيون وراء القوات المشتركة. وهذه الضربات الجوية هي الأولى منذ أواخر 2018، حين جرى توقيع هدنة في الحديدة.
وفي محاولة من قوات التحالف لاستعادة السيطرة على تلك المناطق، نفذت 11 عملية عسكرية خلال يوم أمس فقط، لكن تلك التطورات كانت كارثية على المستوى الإنساني، وأدت إلى نزوح 700 أسرة إلى الخوخة (جنوب الحديدة) و184 عائلة أخرى إلى مدينة المخا الساحلية، وهما منطقتان تحت سيطرة قوات التحالف، وفقًا للأمم المتحدة.
أين الأمم المتحدة من التطورات؟
بعثة الأمم المتحدة قالت إن الانسحاب من مدينة الحديدة والدريهيمي وبيت الفقيه وأجزاء من التحيتا وسيطرة الحوثيون على تلك المناطق يعتبر “تغيرًا كبيرًا” في خطوط القتال، يتطلب إجراء مناقشات بين طرفي الاتفاق. وقالت البعثة الأممية التي تشرف على تنفيذ اتفاق الحديدة إنها لم تكن على علم مسبق بالانسحاب.
في مؤتمر صحفي بنيويورك، نائب @UN_Spokesperson يؤكد أن الأمم المتحدة لم تكن على علم مسبق بالتحركات التي جرت في المناطق المحيطة بجنوب #الحديدة وحتى مديرية #التحيتا
وذكر أن بعثة #UNMHA تراقب الوضع عن كثب وتنسق مع الأطراف لمعرفة الحقائق
ودعا الجميع إلى كفالة سلامة المدنيين وأمنهم pic.twitter.com/XyV9VZPS8r— أخبار الأمم المتحدة (@UNNewsArabic) November 13, 2021
وخلال محادثات السلام الأخيرة حول اليمن عام 2018 في السويد، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في مدينة الحديدة الواقعة غرب البلاد، والتي تمثل المعبر الرئيسي للمساعدات الإنسانية.
أين تذهب القوات المنسحبة؟
هذه التطورات الميدانية، تقلب موازين القوى رأسًا على عقب، وتمنح القوات الحوثية فرصة ذهبية في مستقبل الحرب والتفاوض، لكن السؤال الآن: أين ستذهب القوات المنسحبة المدعومة إماراتيًا، ذلك أن إجابة هذا السؤال ستكشف إلى حد كبير مستقبل الأزمة اليمنية بعمق.
إلى محور تعز
الطبيعي أن تنتقل القوات المنسحبة إلى قيادة العمليات المشتركة في ميناء المخا والوازِعِيَّة، والمنطقة الأخيرة تعتبر مفتاح مدينة تعز الخاضعة لسيطرة حزب الإصلاح، (الحزب السياسي الإسلامي المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين)، وفي هذه الحالة سيكون السؤال هل في تفكير القوات المدعومة إماراتيًا في السيطرة على تعز، أم أنها غير منشغلة بالمدينة بالأساس.
إلى أقصى الجنوب
السيناريو الثاني هو أن تنتقل القوات المشتركة إلى مناطق الجنوب، حيث جبهات أبين وشبوة ووادي حضرموت، وفي هذه الحالة سيكون تركيز القوات المدعومة من الإمارات دعم القوات الجنوبية لمخطط السيطرة على كامل الجنوب اليمني، في مقابل سيطرة الحوثيين على الشمال اليمني بالكامل، الذي لم يتبق منه سوى تعز ومأرب.
دلالات الانسحاب من الحديدة
الانسحاب من الحديدة يحمل عدة دلالات، ليس من بينها إنهاء نفوذ الحوثيين بشمال البلاد، وهو ما يتعارض مع أهداف القوات الحكومية التي تعتبر القوات المشتركة ضمن صفوفها، على النحو التالي:
– ما حدث يخلق صورة بأن القيادة المركزية للقوات الحكومية غير مسيطرة على قطاعاتها في محاور القتال، لاسيما أن الأمر كان علنيًا سواء بإعلان الأطراف- دون القوات المشتركة والحوثيين- بأنهم لم يكونوا على علم بما جرى أو الترتيبات التي سبقت ذلك، أو حتى المرحلة اللاحقة التي تحاول خلالها القوات المدعومة سعوديًا استعادة ما تستطيع من القوات الحوثية دون جدوى.
– تفاصيل ما جرى يشير إلى أن الانسحاب ليست له علاقة بالأهداف العسكرية أو السياسية في اليمن، فلا يمكن تصور أن من مصلحة القوات الحكومية سياسيًا تقديم الحديدة على طبق من ذهب للمنافس الحوثي، ولا يمكن تصور أيضًا أن ما جرى يصب عسكريًا في صالح القوات الحكومية بمناطق القتال الأخرى، خاصة في مأرب، باعتبار أن الحوثيين فتحوا خط الدعم المباشر مع إيران، وهو ما يعني إمدادات غير محدودة خلال الفترة المقبلة.
– يتضح مما سبق أن ثمة صفقة تفسر عملية التسليم والاستلام التي جرت، لاسيما أن أبو ظبي أظهرت مؤخرًا انفتاحًا على إيران والأطراف الموالية لها في المنطقة، والتي كانت آخرها زيارة دمشق، وهو ما يشير إلى أننا أمام صفقة إماراتية- إيرانية قد تغيِّر لعبة الحرب في اليمن.
– هذه التطورات رفعت معنويات الحوثيين، الذين يتكبدون منذ شهور خسائر مادية وبشرية باهظة في جبهة مأرب، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على جبهتي تعز ومأرب لصالح الحوثيين.
– القوات المشتركة التي لم تتحرك طوال السنوات الماضية بزعم ارتباطها بالقيادة المركزية، كان باستطاعتها التقدم للسيطرة الكاملة على الحديدة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من إحكام قبضتها عليها، وليس تسليم تلك المناطق إلى الحوثيين دون قتال، وهي التي دارت فيها أعنف معارك بين الطرفين قبل ثلاث سنوات.
السيناريوهات المتوقعة
التطورات المتوقعة في الحالة اليمنية تذهب في اتجاهين، إما خريطة نفوذ جديدة يجرى توزيعها، والإعداد لها عبر صفقات ما وراء الأبواب المغلقة، أو الاندفاع نحو موجة مواجهات عسكرية دامية في قادم الأيام على النحو التالي:
– استعادة جماعة الحوثي حلقة الوصل بين صنعاء والحديدة، يفتح لها خط إمدادات يمكن أن يقلب معادلة المواجهة العسكرية في مأرب، والتي إن سيطرت عليها تكون آخر معاقل الحكومة قد وقعت في يد خصومهم، وبالتالي تداعيات اقتصادية وسياسية تجعل المتمردون رقمًا لا يمكن إخراجه من أي مقاربات لحل الأزمة.
– بخلاف السيطرة على مأرب، تبقى تعز هدفاً أيضًا للحوثيين، والسيطرة على تلك المدينة يحصّن الحدود الشمالية للجماعة، ويطرد القوات الحكومية إلى أقصى الجنوب.
– قد تظهر ملامح صفقة إماراتية- إيرانية، في اليمن تقضي بمنح الحوثيين الشمال والقوات الانتقالية المدعومة إماراتيا الجنوب، وهنا سيبقى الطرف الحكومي المدعوم سعوديًا أضعف الحلقات.
– ما سبق، قد يعزز مواجهة مرتقبة بين أبو ظبي والرياض عن طريق وكلائهم، كما حدث في السابق في الجبهات الجنوبية، وهو ما يصب في مصلحة الحوثيين المستقرين بالشمال.
– قد تضغط الأمم المتحدة على الحوثيين لإخلاء المناطق التي سيطرت عليها خلف القوات المشتركة، وفق اتفاق استكولهوم، لتخفيف الأزمة الإنسانية، وفي تلك الحالة ستكون هناك رغبة دولية لإنهاء الأزمة اليمنية، وفق التغيرات التي تشهدها المنطقة حاليًا والتي تعتمد على تصفير الأزمات.
– سيطرة الحوثيين على شمال اليمن لا يعني نهاية للحرب، إذ قد يكون اليمن على شفا مرحلة جديدة أكثر دموية في الصراع، خاصة مع تشرذم الطرف المقابل المتمثل في القوات الحكومية والجنوبيين.