بعد سلسلة من الخلافات السياسية، وفشل ثلاثة جداول زمنية، انطلقت الانتخابات الصومالية مطلع الشهر الجاري. في محاولة حذرة لمنع تدهور أمني وسياسي قد يترك تداعيات وخيمة على الصعيد المحلي والإقليمي. ذلك باعتبار أن البلد المحاط بأزمات اقتصادية وأمنية قد يكون شوكة أخرى في خصر القرن الأفريقي.
ووفق الجدول الزمني الجديد، فإن الانتخابات البرلمانية التي بدأت في 16 نوفمبر، ستنتهي في 24 ديسمبر المقبل. لكن الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية قد تهدد هذا المسار، لاسيما أن الانتخابات تجرى وفق نمط معقد وغير مباشر. يتضمن قيام المشرعين وممثلي القبائل باختيار أعضاء البرلمان، البالغ عددهم 275 عضوًا، الذين بدورهم يختارون الرئيس.
ما وراء الأزمة في الصومال
الأزمة الرئيسية التي أوصلت الصومال لهذا الطريق المسدود، ترجع إلى محاولات الرئيس محمد عبدالله محمد الملقب بـ”فرماجو” الاستئثار بالسلطة. فعندما انتهت ولايته في فبراير الماضي، قرر تمديد ولايته لمدة عامين، بحجة عدم الاتفاق مع قادة المناطق على تنظيم الانتخابات.
هذه التطورات أحدثت أزمة دستورية، سرعان ما تحوَّلت إلى مأزق أمني على وقع احتجاجات ضد فرماجو، أسفرت عن وقوع اشتباكات عنيفة، وأعادت إلى أذهان الصوماليين ذكريات الحرب الأهلية.
لكن مع ضغط متواصل من المعارضة، أعلن الرئيس الصومالي عن إجراء انتخابات برلمانية، وفق نظام غير مباشر. وذلك في محاولة رآها معارضون مسعى من الرئيس للسيطرة على اللجان الانتخابية، باعتبار أن رؤساء الولايات يملكون سلطات واسعة في إعداد قوائم المرشحين واستبعاد من يرغبون، بدفع من فرماجو.
اقرأ أيضًا| الرئيس الصومالي يتراجع عن تمديد ولايته.. وشبح الحرب الأهلية يهدد البلاد
وعندما حاول رئيس الحكومة محمد حسين روبلي تدارك الموقف من خلال مفاوضات مع القبائل للاتفاق على جدول زمني للانتخابات، خلق فرماجو صراعًا جديدًا مع روبلي، يضاف إلى خلافات داخل الحكومة.
ونشبت الأزمة بين رأسي السلطة، بسبب إقالة رئيس الوكالة الوطنية للأمن والاستخبارات (نيسا)، التي حققت في اغتيال مديرة الأمن السيبراني في المخابرات “إكرام تهليل”. وبعدما أصدر روبلي قرارًا في 5 سبتمبر بإقالة رئيس الجهاز فهد ياسين المقرب من فرماجو، ألغى الأخير القرار، وعيّن رئيسًا آخر للوكالة من اختياره، وعيّن فهد ياسين مستشاره للأمن القومي.
وتصاعدت بعدها الخلافات بين الاثنين، حتى بلغت ذروتها في 16 سبتمبر، عندما سحب فرماجو السلطات التنفيذية من رئيس الوزراء. وهو القرار الذي أثار موجة انتقادات وغضبًا سياسيًا، أحال البلاد إلى نفق مظلم، باعتبار أن الرئيس ارتبك خرقًا للدستور مرتين، الأولى بتمديد ولايته والثانية بسحب سلطات رئيس وزرائه.
أحدث جدول زمني.. ما فرص نجاحه؟
ومع انفراط عقد الأزمة، حاول الرئيس الصومالي احتواء التوتر من خلال تكليف رئيس الوزراء بتنظيم الانتخابات. وجرى الاتفاق على جدول زمني انتخابي، خضع لعدة تعديلات آخرها، إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات، الخميس الماضي، إجراء انتخابات مقاعد مجلس الشعب في عشر دوائر انتخابية في الأقاليم الفيدرالية الخمسة، من المقرر أن تنتهي في 24 ديسمبر المقبل.
وبينما لم تتحدث اللجنة الوطنية للانتخابات عن الظروف التي أدت إلى تأجيل المواعيد السابقة، جزمت بأن 24 ديسمبر القادم هو الموعد النهائي لاستكمال الانتخابات النيابية في البلاد. ومن ثم أداء أعضاء البرلمان الجدد بمجلسيه الشعب والشيوخ اليمين الدستورية.
إزاء ذلك، يبقى مستقبل نجاح إجراء الانتخابات مرهون بثلاث محددات رئيسية تأتي من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل تشهد السلطة خلافات جديدة، لاسيما خلال مراحل العملية الانتخابية التي يتوقع مراقبون أن يتخللها تدخلات من فرماجو؟، ثم هل النمط الانتخابي الحالي المعقد قادر على تأمين انتخابات نزيهة غير قابلة للتزوير أو الطعن؟، وأخيرًا على التحديات الأمنية مع تربص حركة الشباب بالمشهد سوف تسمح بإنجاز هذا الاستحقاق بمرونة وسلاسة؟.
تحديات سياسية
التحديات السياسية التي تواجه الاستحقاق الانتخابي الحالي في الصومال، ذات أبعاد مختلفة ومتشعبة، فبينما ترى المعارضة أن الرئيس فرماجو يحاول بكل الطرق للحفاظ على السلطة، حتى أجرى انتخابات معقدة، يمكن بسهولة توجيهها من رأس السلطة، فإن رئيس الحكومة الحالي روبلي يبدو مصطفًا إلى جانب المعارضة، منذ أعلن في بيان أن فرماجو يتخذ قرارات غير دستورية ومعرقلة لإجراء الانتخابات وفق مخططات للاستيلاء على السلطة.
هذا الخلاف الداخلي الخارجي، يمكن إحياؤه في أي محطة زمنية خلال فترة الانتخابات التي ستنتهي العام المقبل، وهي فترة كافية لضمان الرئيس تأمين الأصوات اللازمة لإعادة انتخابه، لاسيما أن فرماجو منح رؤساء الولايات الإقليمية صلاحيات واسعة في اختيار المندوبين وإعداد قوائم المرشحين، وهو ما يتيح استبعاد أو الموافقة على المرشحين الموالين للرئيس.
تحديات أمنية
في ظروف مع قبل الأزمة السياسية الحالية، كان المشهد الأمني في الصومال متوترًا، لكن التطورات الأخيرة زادت من الارتباك، بفعل اهتمام الرئيس فرماجو بالحفاظ على السلطة بدلاً من مكافحة حركة الشباب المجاهدين. إذ بات مواجهة الحركة المتشددة ليس ضمن أولويات الرئيس، ومن ثم الأجهزة الأمنية التي تحولت إلى المعركة السياسية.
اقرأ أيضًا| تشابه داخلي وإحباط غربي.. هل تصبح الصومال أفغانستان أخرى؟
لذلك، يبقى الانتقال السياسي في مرمى نيران حركة الشباب التي بدأت خطورتها عام 2006. ومن ثم استطاعت أن تتحول من حركة محلية إلى تنظيم عابر للقارات بعد إعلانها الولاء لتنظيم القاعدة في عام 2012. ونشطت عبر الحدود مما هدد منطقة شرق أفريقيا بأكملها، واستطاعت السيطرة على مساحات واسعة في جميع أنحاء الصومال. كما استغلت الجماعة انسحاب القوات الأمريكية من الصومال في ديسمبر الماضي، مما أتاح مساحة للتحرك الميداني.
وعلى الفور، صعدت مستوى العمليات من خلال شن هجمات دامية على المواقع العسكرية، وبلغ عدد الضحايا منذ بداية العام حتى نهاية سبتمبر حوالي 708 ضحايا من المدنيين، بما في ذلك 321 قتيلاً، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، كما نفذت الجماعة مؤخرا هجمات على مطار مدينة بولوبردي، وعطلت هذه التهديدات عقد الانتخابات.
خروج “أميصوم”.. سيناريو أفغاني
سيطرة تخوفات، مؤخرًا، جراء إمكانية تكرار النموذج الأفغاني في الصومال، لاسيما أن الأخيرة باتت على مشارف سيناريو مشابه، رغم اختلاف التركيبات المجتمعية والجغرافية. فما لبثت أن خرجت القوات العسكرية لحلف الناتو حتى سقطت السلطة في أيدي حركة طالبان الأفغانية، رغم سنوات من الجهود الأمريكية والمتعددة الأطراف لتقويض القدرات العسكرية للجماعة.
أضف إلى ذلك، أن التركيبة العشائرية والطبيعية التنظيمية بالجيش الصومالي، ترشح لمزيد من المخاوف حيال سيناريو انقسامي. إذ كشفت الأزمة السياسية مؤخرًا عن خلافات بين قيادة الجيش والجنود على أسس عشائرية، وهو ما يبرر انضمام قطاعات عسكرية لصفوف المعارضة، في أعقاب تمديد الرئيس فرماجو ولايته.
ومن المخطط انسحاب قوات بعثة الاتحاد الإفريقي إلى الصومال “أميصوم”، في ديسمبر المقبل، ليتولى الجيش الصومالي مهام حفظ الأمن بالبلاد. لكن الظروف الحالية والتحديات الهيكلية التي تواجه كافة المؤسسات وعلى رأسها الجيش، يمكن أن تخلف انقسامًا في قوات الجيش وفقا للانتماء العشائري.
الأمن الإقليمي
أي انهيار أمني مضاعف في الصومال يعني أن المنطقة تسقط في متاهة معقدة من الاضطرابات. خاصة أن شرق أفريقيا تواجه تحديات معقدة ترتبط بفشل مواجهة حركة الشباب، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية والإثنية. وتزايد وتيرة الاعتقالات السياسية، في ظل التوترات السياسية في السودان، والصراع السياسي بين حكومة آبي أحمد والمعارضة في إثيوبيا.
اقرأ أيضًا| كيف ستؤثر إزاحة “فرماجو” على مصالح الخليج في الصومال؟
ويتجاوز خطر حركة الشباب حدود الصومال ليشمل منطقة شرق أفريقيا بأكملها خاصة كينيا وأوغندا. حيث وسعت الحركة نشاطها العملياتي، وكانت كينيا من أهم الوجهات المستهدفة بالنسبة للجماعة. كما أن الهجوم الإرهابي في كمبالا بأوغندا هو أول عملية إرهابية خارج الصومال، وأسفر عن مقتل 74 شخصًا، ومن أبرز العمليات. ونفذت هجومًا على جامعة غاريسا في كينيا عام 2015 أسفر عن مقتل 147 طالبًا، وكذلك الهجوم على مركز ويست جيت مول في نيروبي عام 2013، والذي خلف 67 صحية. وفي يناير 2020 هاجم مسلحو الحركة معسكر سيمبا التابع للقوات الأمريكية بالقرب من خليج ماندا بكينيا، وأدى إلى مقتل حوالي 76 فردًا.
تأثير الأزمة اقتصادية على المشهد السياسي
المشهد الاقتصادي المتداعي يرشح لانهيار أي نظام سياسي، كما يكون عنصرًا من عناصر التلاعب في الاستحقاقات الوطنية. وذلك لاعتبارات الفقر وشراء الذمم والمساومات الغذائية والخدمية، وهو أوضح مثال على الوضع في الصومال. إذ نتيجة غرق البلاد في صراعات سياسية وعشائرية وأمنية، كان من الطبيعي أن تتعطل خطط التنمية، وتتراكم التحديات الاقتصادية. كما حدث في عام 2020، حيث واجهت البلاد أخطار جائحة كورونا، وغزو الجراد، وأهوال الفيضانات. مما هبط بمستوى النمو الاقتصادي بنسبة 1.5%، كما بلغ معدل الفقر عند 71%، ووصل حجم الديون إلى 78% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي بعض الأحيان، تعجز السلطة عن دفع رواتب الجنود، مما يضاعف الفوضى الأمنية.
وفي ظل مشهد عام مضطرب، تواجه الصومال أقسى الأزمات الإنسانية, إذ إن واحدًا من كل 4 مواطنين يعاني أزمة انعدام الأمن الغذائي، كما أنها تقع في المركز الثاني من حيث مؤشر أكثر الأنظمة الصحية هشاشة في العالم، إلى جانب ارتفاع موجات النزوح القسري. ووفقا للإحصائيات الصادرة من مجلس الأمن فإنّ هناك حوالي 6 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة. كما تعاني مقديشيو ارتفاع نسبة النزوح الداخلي بإجمالي 800 ألف نازح، مع عدم توافر الرعاية الصحية أو المستوطنات المجهزة. كما أغلقت كينيا مخيمي داداب وكاكوما للاجئين على حدودها مع الصومال مما هجر حوالي 400 ألف نازح. وهذا الوضع الإنساني المتأزم.
هل ينقذ المجتمع الدولي الموقف؟
هنا يبقى أمام المجتمع الدولي دور لإنقاذ الموقف، باعتبار أن أمن الصومال فارق بالنسبة لمنطقة القرن الأفريقي، وتداعيات على الجميع. وتتعرض الصومال لضغوط دولية عديدة من أجل تسريع وتيرة الانتخابات لأسباب تتعلق بحدود الدور الدولي في الصومال. وذلك من خلال المساعدات المالية وجهود الوساطة. ومؤخرا صدر بيان مشترك من 15 دولة وعدد من الكيانات الدولية، منها الاتحادين الأفريقي والأوروبي، ومنظمة “إيجاد”، وجامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، يحث على ضرورة التعجيل بإجراء الانتخابات في موعدها.
اقرأ أيصًا| طالبان كرافعة لـ«الجهاد المحلي»: الصومال والمستنقع المشابه
كما تدخل المجتمع الدولي في عديد المناسبات لإنقاذ البلاد من الصراعات الداخلية والدفع بعملية الانتخاب. كذلك هدد بفرض عقوبات دولية على مسئولي السلطة الذين يعرقلون إجراءها، إلى جانب جهود الوساطة لحل الأزمة بين رئيسي الحكومة والدولة. وبالتالي ثمة سوابق تجعل من الدور الدولي فارقًا في إنقاذ الموقف بالصومال.
مسارات محتملة:
إزاء ما سبق، فإن الموقف في الصومال أمام عدة مسارات محتملة، في ظل الأزمة السياسية والأمنية التي تتجه نحو حلول مربكة ومعقدة:
المسار الأول: تفشل محاولات الرئيس فرماجو في الاستئثار بالسلطة، من خلال تقوية بنيان المعارضة ومنع استغلال الولايات الإقليمية في تحديد إطار الانتخابات لصالح الرئيس الحالي.
وفي هذه الحالة، إمّا أن يخرج فرماجو إلى المحاسبة، وهو سيناريو ضعيف بالنظر إلى الأطراف المساندة له، والتي يحمي مصالحها كتركيا. أو أن يجرى الترتيب لخروج آمن من السلطة بدون محاسبة على أن يتم تسليم السلطة بدون أزمات وتعقيدات أمنية، وهو الطرح الذي ربما يجد دعمًا دوليًا وإقليميًا.
المسار الثاني: فشل إجراء الانتخابات وفق الجدول الزمني الحالي، وعودة الخلاف مع رئيس الحكومة، ومن ثم النزاعات السياسية. والتي بدورها تقود إلى اضطراب أمني يمتد تأثيره إلى دول المنطقة، مع تهديدات حركة الشباب التي ترقب الموقف. وفي هذه الحالة يمكن أن يجعل فرماجو من مهمة مواجهة الإرهاب سببًا في تمديد ولايته وتأجيل الاستحقاقات الانتخابية لعدة مرات.
المسار الثالث: يكون نتيجة للفشل السياسي، ولكن في هذه الحالة يتحول المشهد إلى صراع مسلح. وفي هذه الحالة يمكن أن يفكر فرماجو في حسم المسألة عسكريًا، اعتمادًا القوات الموالية له في مقابل قوات المعارضة، والتي ستضم في تلك الحالة القطاعات العسكرية الموالية لرئيس الوزراء الذي يحظى بدعم عشائري، نظرًا ينتمي إلى أقوى عشيرة “هوية” الأكبر في الصومال.