يتصل ما نطلق عليه “التراث العربي” بالقرآن الكريم، سواء أكان ذلك بشكل مباشر عبر التفسير والفقه وعلوم الكلام.. أم كان بشكل غير مباشر عبر الفلسفة والعلوم التجريبية؛ فقد هيمن القرآن والبحث فيه وتمثّل نظرته للكون والعالم على هذه المعارف، وهو في هذه وتلك قد منح العقل مكانة رفيعة، ليس لأنه موضع التمييز وسبب الاصطفاء، وإنما لأنه – بالأساس – مناط التكليف، فمن لا عقل له لا تكليف له، فالعقل – فيما يرى متصوف مثل الغزالي – هو الذروة السّامقة وأداة المعرفة، وهو أفضل ما خلق الله، لأنه حجة الله على الإنسان الذي أورثه الأرض واستخلفه على عمارة الكون.

ومع النشأة الأولى للمعارف العربية تشكّل تيار عقلاني سعى إلى مناقشة قضايا فكرية ودينية طارئة لم ينشغل بها الرّعيل الأول من الصحابة الأكارم.. انشغل رجال هذا التيار – على نحو خاص- بتكوين برهان لاهوتي إقناعي يواجهون به الأفكار اللاهوتية لدى الأمم والثقافات المختلفة التي انضوت تحت لواء الدولة العربية المترامية، ويرتكز هذا التيار، في جوهره، على عمليات تأويلية موسّعة للقرآن الكريم وصحيح السُّنّة.. كان المعتزلة العنوان الأبرز لهذا الجهد العقلاني؛ فقد جعلوا غايتهم: “تأسيس عقيدة إسلامية يقبلها العقل ولا ينقضها المنطق”. (ص35)

قدّم المعتزلة – عبر أصولهم الخمسة الشهيرة – تأويلًا للدين الإسلامي على نحو يجعل منه دينًا عقلانيًا = العقل فيه حجة الله، به ومن خلاله يتحقق الاستخلاف الإنساني على الأرض، بوصفه وظيفة ومهمة لا غاية لها سوى إصلاح الكون والتقدّم به، وتوظيف طاقاته لخير البشرية.

وفي موازاة الاعتزال كان التيار الفلسفي بأعلامه الشهيرة: الكندي (185- 256) والفارابي (260- 339) وابن سينا (370- 427) وابن رشد (520- 595ه) يؤسس بدوره لمركزية إنسانية عقلانية وعلمية تجربيبة شديدة التميز والتأثير.. لقد حورب هذا التيار من قبل الخطاب السلفي المضاد له، وكانت محنة “ابن رشد” مؤشرًا بالغ الدلالة على تراجع التيار العقلاني الذي لم يبتعد عن السلطة فحسب، وإنما فرّ بأفكاره إلى هوامش الدولة الإسلامية وأطرافها.

وفي وقت لاحق انتقلت قواعد العقلانية العربية والإسلامية من ديارها التي ضاقت بها إلى أوربا الناهضة، بعد أن ترجموا جهود الفلاسفة، وأسهمت أعمال ابن رشد أو الرشدية Averroes وابن سينا Avicenna  من حيث هي فكر عقلاني خالص في النهضة الأوربية، وذلك بعد أن باتت “ملكًا لمن وصلت إليهم من مفكري النهضة الأوربية وفلاسفتها”.(ص29)

يُؤسس “عصفور” دفاعه عن العقلانية على هذا الإرث العزيز، وكيف حاول أساتذة جيل النهضة المصرية بداية من الطهطاوي ومحمد عبده وتلاميذهما إعادة الاعتبار لهذا الإرث. وكيف صارت مقولة العقل أساسية في فكر الأستاذ الإمام، ليس لأنه أعظم ما خلق الله في الإنسان فحسب، وليس لأنه حُجّة الله على خلقة فحسب، وإنما كان الأستاذ الإمام أكثر جرأة حين قدّم العقل على النقل إذا تعارضا وعزّ التوفيق بينهما، كان هذا أصلًا من أصول التجديد لدى الإمام، وكان في الوقت نفسه استعادة لإرث فلاسفة المسلمين الذين ترسّخ هذا المبدأ على أيديهم.

جابر عصفور

اقرأ أيضا

العقل والعدل والثورة (1)

مفهوم التّراث

لقد اتسع – لدى عصفور- مفهوم التراث العقلاني، فلم يتوقف به عند زمن محدد؛ فهو ينظر بعين إلى القرون الأولى للهجرة النبويّة، وينظر بالعين الأخرى إلى تراث العقلانية لدى أساتذة النهضة وتلاميذهم، أمثال: طه حسين وعلى عبد الرازق.. فالتّراث هنا مفهوم شديد الرّحابة والاتساع، ويستند على فكرة الوصل المعرفي لجهود تيار تألّق في الزّمان البعيد وعاد مرة أخرى للتّألق في الزمان القريب.

تبدو العقلانية هنا انحيازًا للإنسان وإيمانًا بقدرته على تمييز الخير من الشر، والصالح من الضار بقدر ما هي تجسيد عملي لدعوة الإسلام إلى التفكير والتدبر وإعمال العقل الإنساني في كل ما يحيط به من ظواهر الكون.. إنها تؤسس لمعرفة منفتحة، تستوعب الاختلافات الإنسانية والاجتماعية، وتنفتح على كل الثقافات. وهو ما يعني ارتباط العقلانية بالتقدم والنهوض.. لقد اختبر المفهوم تاريخيًّا وتجريبيًّا في الحقب المختلفة عندنا وعند غيرنا، بحيث يصح القول: إن كل تقدم مرتهن بسيادة العقلانية وتقدّمها على غيرها من أنماط التفكير، ولأن هذا المفهوم غير واضح في أذهاننا بما يكفي، فقد اضطر عصفور إلى الدفاع عنه.

نماذج من عقلانية جيل الأساتذة

يتوقف عصفور في أكثر من موضع إزاء المعنى الدّلاليّ والرّمزيّ الذي أحدثه السِّجال السِّياسيّ والدّينيّ حول كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، ذلك الكتاب الذي يعد علامة واضحة على الصراع بين الخطاب العقلانيّ بتصوراته النسبية والخطاب النقيض الذي يمثله الأزهر و”هيئة كبار العلماء” الذين تحالفوا مع الملك فؤاد الذي أضير بشكل مباشر من مقولات الكتاب وخلاصاته التي اعتبرت الخلافة اجتهادًا إنسانيًّا دنيويًّا ولا علاقة لها بالدين.. لقد ترتَّب على ذلك أن عُزل الشيخ عبد الرازق من عمله، وبالغت “هيئة كبار العلماء” فجردته من شهادة العالمية الأزهرية.

كانت خطوة “على عبد الرازق” أكبر من مجرد وجهة نظر، كانت دعوة منهجية لإعمال العقل والتفكير المعرفي الممنهج في كثير من المفهومات المتداولة والأحداث التاريخية.. وهذا ما مثّله على نحو ناصع “طه حسين” في كتابه “في الشعر الجاهلي”1926م الذي أثار ردود فعل مختلفة، تجاوزت الدوائر السياسية إلى غيرها من الدوائر الفكرية والاجتماعية.

ولكن المجتمع هذه المرّة يُحْرز تقدمًا ملموسًا بتقييد دور “هيئة كبار العلماء” وتكليف النيابة العامة بالتحقيق.. كان اللجوء إلى النيابة العامة خطوة مقبولة نحو تفكيك مبدأ الوصاية الدينية وتحجيم دور الأزهر وهيئة كبار العلماء بعد دستور1923م، ولكن هذا التقدم الملموس لم يرضِ عقلًا فذًّا مثل عقل السيد العميد الذي آمن إلى أقصى حد بحرية البحث، وأن كل اجتهاد مظنة الخطأ، وأن الدعوة إلى الاجتهاد سيرورة مستمرة، يأمر بها الدين ويدعو إليه بقدر ما يُقرّ بها العقل وتقتضيها الحياة،  ولعل هذا ما جعله يكتب في مرحلة لاحقة مقالة دالة تحت عنوان “حق الخطأ”.

لقد كان لهذين الكتابين – من زاوية منهجية – أعمق الأثر، ليس من حيث موضوعهما المهم فحسب، وإنما من حيث تأكيدهما على المنهجية العقلانية سبيلًا وحيدًا للبحث والمعرفة، وما يتصل بها من قيم لازمة عنها: مثل الحق في الاختلاف، وحرية البحث في سياق واعد بالتغييرات الكبيرة عقب ثورة 1919م.. وهذا ما جعل عصفور يرى كتاب “في الشعر الجاهلي” ثمرة من ثمار ثورة 19 بالمعنى الفكري، خصوصًا حين نضع في اعتبارنا أن الثورة قد أقرّت الأسس المدنية للدولة، ونجحت في انتزاع دستورها الذي أكد على حرية التفكير والبحث العلمي وحرية المواطنين رجالًا ونساء.

يعود عصفور إلى هذا الإرث ليصل حاضره بماضيه، وليحتج على دعواه الحديثة بالتراث التليد، وليستعيد في الوقت نفسه هذه الصفحات المشرقة من هذا البناء الشامخ، وليقول بوضوح: إنه امتداد لهذا الجيل، وأن ما بدأه هؤلاء الأساتذة لا يجب أن يتوقف، بل يجب أن يستمر، ويعاد تأويله وسد ثغراته المعرفية..

يلتقي عصفور إذن مع هذا التيار، ويصل ما انقطع منه، وهو إذ يفعل ذلك لا يقدم لنا رؤيته على نحو تنظيري مثالي، ولكنه يفعل ذلك عبر الاشتباك بقضايا الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، مستفيدًا من خلاصات ما كان، وواضعًا البرنامج أو خلاصات ما يجب أن يكون؛ حيث يقرر على نحو حاسم: “لا وجود لعقلانية حقيقية دون حرية فكرية وسياسية، وفي الوقت نفسه، لا حرية ولا عقلانية ولا حتى دولة مدنية في غيبة القانون والدستور الذي يحقق للشعب حقوقه العادلة في كل شيء، ويفرض على الحاكم في الوقت نفسه أن يكون عادلًا مع شعبه في كل أوجه الحياة العلمية وغير العلمية” (ص53)

تحولات السبعينيات

يتلمس عصفور مسار العقلانية المصرية منذ بدايتها مع أعلامها البارزين، مرورًا بإنشاء الجامعة التي رأى سعد زغلول أنها جامعة دينها العلم، ودورها البارز في تأكيد مفهوم العقلانية على مستوى البحث العلمي من ناحية، وعلى مستوى التفاعل بينها وبين المجتمع من ناحية أخرى. فالجامعة ليست مؤسسة تعليمية تمد المجتمع بالتكنوقراط فحسب، وإنما هي إلى جوار ذلك فضاء لإشاعة أفكار التقدم والوعي بالحرية والكرامة الإنسانية في ربوع المجتمع كله. لقد كان تاريخ الجامعة قبيل ثورة الضباط في 1952 تجسيدًا لهذه الأفكار إلى حد كبير.

تبدو حقبة السبعينيات – في نظر عصفور – مرحلة فاصلة في التحول الاقتصادي والفكري والاجتماعي، وعنوانه البارز هو التحالف السياسي الذي صنعه السادات مع الجماعات الدينية، وما تبع ذلك من بروز جيل الصحوة الذي صبغ المجتمع أو شرائح كبيرة منه بصبغة التشدد وهيمنة الخطاب السلفي الإطلاقي على المجتمع، وانعكاس ذلك على الجامعة التي انتقلت من الاستقلال إلى التبعية، ومن إعداد المثقف الحضاري إلى كونها ساحة للصراع الديني والإيديولوجي والتبعية السياسية والأمنية.

حقبة السبعينات شهدت تحولات جذرية في الحالة المصرية

وهنا يرصد عصفور جدلية العلاقة بين الاستبداد العسكري والتعصب الديني، على نحو يجعل هذا جزءًا من ذاك، يقول: “إن آليات الاستبداد العسكري هي نفسها آليات التعصب الديني، وأن الجوامع المشتركة بينهما كثيرة: رفض الاختلاف، فرض الرأي بالقوة، تحقيق الإجماع، العمل على تثبيت بطريركية الفكر أو تراتب المعرفة الهابطة دائمًا من الأعلى إلى الأدنى” (ص253)

كان بدهيا – والحال كذلك – أن يستيقظ المجتمع على فواجع كبيرة، هي بذاتها علامات على تراجع خطاب العقلانية، منها على سبيل المثال حادثة طعن نجيب محفوظ من قبل شاب لم يسبق له أن قرأ له، أو كوّن رأيًا عن إبداعه الروائي، وإنما اتبع فتوى أحد شيوخه، ومنها حادثة نصر أبو زيد والصراع الأيديولوجي حول كتابه المشهور “مفهوم النص” هذا الكتاب الذي رآه عصفور محاولة اعتزالية جديدة، تصل ما بين العقلانية وحرية البحث، بقدر ما تصل بين الفهم العلمي للتراث الذي نشأ حول القرآن الكريم استنادًا إلى المبدأ الاعتزالي المعروف: التحسين والتقبيح العقليين.

لقد بدا التيار العقلاني – في هذه الفترة – منهكًا، ولكن ذلك لا يمنع عصفور من الاحتفاء بالكتابات العقلانية التي تصدر بين فترة وأخرى، وخاصة الكتابات التي ينتمي أصحابها إلى الأزهر، وعلى رأس هذه الكتابات ما تركه الدكتور “محمود حمدي زقزوق” عضو هيئة كبار العلماء ووزير الأوقاف الأسبق، فهو – في نظر عصفور- أهم شخصية إسلامية تُمثّل الامتداد الأصيل للتيار الرُّشديّ العقلاني، ولا يرجع ذلك إلى تخصصه في الفلسفة المقارنة وبحثه عن العلاقة بين كتابات الغزالي وكتابات ديكارت الفلسفية فحسب، وإنما لأنه يجعل العقل المبدأ الأول في معرفة الشرع، وما يؤدي إليه ذلك من الإيمان بالعلم، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه.. فالإسلام لديه كلٌّ متكامل، ولا يكتمل إسلام المرء إلا باكتمال عناصر أربعة تتمثل في: العقيدة والشريعة والأخلاق والحضارة” ولا يمكن اختزاله في لحى تطول أو تقصر، “وإنما هو عقول لا تتوقف عن التفكير في إصلاح البشرية، ومصانع لا تتوقف عن العمل لخير الإنسانية، ومعامل لا تتوقف عن التجريب لإنتاج ما يصون الجسد الإنساني ويحميه”.

ومن هنا كانت دعوة الدكتور زقزوق البارزة هي تجديد الخطاب الديني (وإليه يعزى رواج هذا المفهوم) شديدة الجسارة وعظيمة الاتزان، ولعل كتابه “تأملات في أزمة الفكر الإسلامي” أن يكون أهم وثيقة فلسفية صدرت في العقود الأخيرة، ويقرر عصفور أن” الثقافة المصرية كلها مدينة لهذا المفكر الكبير بأنه أنار لها الطريق إلى كيفية تكوين خطاب ديني جديد، وكيفية نقد الخطاب الديني بعامة”. (ص359)

الرؤية السلفية للزمن

ينتقد عصفور الزمن الهابط أو الزمن الارتجاعي الذي جعل العرب والمسلمين يعيشون الحاضر وعيونهم إلى الماضي، باعتباره النقطة المضيئة أو الزمان المكتمل، أو الزمان الخيّر، فالخيرية – وفق هذه الرؤية – يحتكرها القدماء، استنادًا إلى الأثر المتداول: خير القرون قبلي ثم الذين يلونهم ..

وهنا يعود عصفور إلى التراث أيضًا، فهو إذ ينتقد الحنابلة خصوصًا المتأخرين منهم (في القرنين السابع والثامن تحديدًا) من زاوية إلحاحهم على الأفضلية المطلقة للسلف على الخلف، كما في كتابات ابن رجب الحنبلي في رسالته: “فضل السلف على الخلف” وفي كتابات الشاطبي فإنه يستأنس – كما يفعل باستمرار – بوجهة نظر تراثية أيضا تعارض هذه الأفضلية المطلقة للسلف، ونجدها عند فقيه مثل الشَّوْكانيّ، ومؤرخ مثل المسعوديّ وأبي حيّان..

وهذه الرؤية السلفية للزمن لا ترهن الحاضر بالماضي فحسب، ولكنها تناقض العقلانية أيضًا، فالمؤكد أن المعارف المتاحة لنا الآن أوسع مما كان متاحًا للجيل السابق، وهذا يعني أن المنظور السلفي للزمن معاد للتقدم والتنمية على حد سواء.

ويرى عصفور أن قياس الحاضر على الماضي هو جوهر الإشكال، فالحاضر لا يجب أن يحاكي الماضي أو يحتكم إليه، الحاضر يجب أن يعيد تملُّك الماضي عبر عمليات التأويل، فالزمن الصاعد لا ينفي الماضي ولا يستبعده، وإنما يعيد تملّكه ومساءلته ليغدو جزءًا من هموم الحاضر وانشغالاته، وهنا يتحرر العقل من الاستلاب المعرفي للماضي، ويتمكن من مواجهة أسئلته ولديه من الوعي بماضيه وحاضره ما يكفيه كي ينتج معرفة آنية لصالح الجماعة الإسلامية بما هي جزء من العالم المعيش؛ فـ”الفقه الأصلح للأمة هو ما يقيس المستحدث في الحاضر على مصلحة الجماعة المعاصرة من ناحية، وعلى طموحها المستقبلي من ناحية ثانية”. (ص331)

**

لعلنا في هذه الفقرات نكون قد وضعنا أيدينا على المحاور الأساسية في كتاب “دفاعًا عن العقلانية” خاصة، وفي قيمة العقلانية في مشروع “جابر عصفور” بشكل عام.