اعتادت السير بين الأزقة في مصر القديمة. والبحث عن كل ما هو مختلف ويحمل طابع حضاري وآثري. بعيدا عن خراسانات المدينة. لتسجيل الأماكن التاريخية. مصطحبه هدايا من تلك الأماكن إلى أصدقائها ومجموعاتها الشبابية المعتادين على السفر مثلها.

“تطوير في منطقة مصر القديمة وإنشاء مجموعة من الكباري الجديدة”. صدمت تلك الكلمات الباحثة الأثرية ندى زين الدين. خاصة بعد علمها أن ذلك التطوير سيشمل إزالة مجموعة من المدافن من بينها مقبرة الملكة فريدة زوجة الملك فاروق الأولى. وبعض مقابر الأسرة العلوية التي حكمت مصر حتى منتصف القرن الماضي، وآخرين.

في أعقاب الكشف عن المخطط التطوير. أطلقت ندى. على صفحتها على الفيسبوك. نداء من أجل إنقاذ مناطق الجبانات التاريخية في القاهرة. ونشرت صورا تظهر هذه الجبانات ومعمارها النادر.

وقالت: “سيتم إزالة تراث وتاريخ كبير. سوف يتم إزالة كل منطقة مقابر السيدة نفيسة. عليكم بزيارة المنطقة هذه الفترة والاستمتاع والدعوة بعدم تنفيذ هذا القرار المهين لكل تراثنا”.

مدفن الشيخ محمد رفعت
مدفن الشيخ محمد رفعت

خطة التطوير 

محافظة القاهرة أعلنت، في فبراير الماضي. عزمها نقل مجموعة من المقابر في محيط الإمام الشافعي والإمام الليثي. في إطار خطة تطوير مسار آل البيت. إضافة إلى مجموعة من المقابر التي تقع في مسار كوبري السيدة عائشة الجديد الذي يربط بين ميدان السيدة عائشة ومحور الحضارات.

وأكد السكرتير العام المساعد لمحافظ القاهرة، إبراهيم عوض، أن 2760 مقبرة ستُزال وتُنقل إلى أماكن أخرى في مدينة 15 مايو.

ولفت إلى إزالة 47 عقارا و23 محلا من ميدان السيدة عائشة ونقل 136 أسرة إلى مدينة الأسمرات.

بداية القصة 

“من المسؤول عن هذه الجريمة في حق الملكة فريدة؟” تحت ذلك العنوان، نشرت الكاتبة لوتس عبد الكريم صاحبة ومؤسسة مجلة شموع، ومؤلفة كتاب “الملكة فريدة وأنا.. سيرة ذاتية لم تكتبها ملكة مصر”. تدوينه كشفت فيها عن شكوى عائلة الملكة فريدة من إنذارها بهدم مدفن العائلة وأسرة ذو الفقار في مقابر الإمام الشافعي بحجة إقامة كوبري.

وأضافت: رفات الملكة فريدة وأقاربها سينقل إلى مقابر منطقة 15 مايو، كما سيهدم قبر جد الملكة فريدة لأمها زينب هانم ذو الفقار. وقد كان رئيسا لوزراء مصر. وهو ما اعتبرته “اعتداء على حرمة الموت”، موجهة استغاثة لوقف قرار الهدم.

تداول التغريدة المهتمون بالتاريخ والتراث. تحت وسم “انقذوا جبانات مصر”. الذي حمل الكثير من الاعتراضات على هدم تلك المناطق الأثرية. ووثقوا كل مدفن بالصور مع معلومات بسيطة عن تاريخ صاحبه.

“عندما بدأنا نستنفد إمكانية التوسع في بناء كباري مكلفة ومشوهة للبيئة وجماليات المكان. شعر المسئولون أن الحل الوحيد هو استنفاد الحد الأقصى من الفراغات العامة لتسهيل مرور السيارات. ولم يبدو ذلك محالاً أمام آلاف الأشجار التي اقتلعت ومئات المباني التراثية التي تُهدم في سبيل تحقيق مشروعات لم تخضع للتساؤل والبحث الدقيق ومراجعة البدائل الأخرى للتطوير

خبير التخطيط والتصميم العمراني، عمرو عصام

 

الجبانات المقرر إزالتها 

كشفت مجموعة “إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية” عن العديد من المقابر الأخرى المهددة بالإزالة من أجل مشروع تطوير المنطقة الذي تنفذه الحكومة. التي تم الإشارة لها بعبارة “نزع” على واجهة تلك المدافن.

ومن ضمن هذه المقابر مدفن عائلة محمد راتب باشا، سردار “الجهادية” -الجيش المصري سابقا- في عهد إسماعيل باشا. ومدفن قاسم باشا رسمي محافظ مصر سابقًا ومقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي. وشاعر النيل حافظ إبراهيم. والشيخ المقرئ محمد رفعت وغيرهم من أعلام مصر.

لم يسلم صاحب أعظم مشروع معماري عمراني في مصر الحديثة، ورائد التعليم في مصر، ومؤسس المنظومة التعليمية الرسمية الأولى، من إزالة مدفنه ضمن التطوير. فقد كشف الكاتب المهتم بالتراث ميشيل حنا. عن مخطط لإزالة مقبرة علي باشا مبارك، وزير اشغال الخديوي إسماعيل. الذي لايزال وسط القاهرة شاهدا على براعته وحسن تخطيطه. وكتب على صفحته على “فيسبوك”: “علي باشا مبارك الذي خطط القاهرة، سيذهب إليه البلدوزر كي تخطط فوق رأسه”.

مدفن على مبارك
مدفن على مبارك

واعتبرت المجموعة أن المخطط غير المخطط كفيل بتشويه تاريخ القاهرة ولا هدف وراءه إلا تفتيت جبانات القاهرة إلى جزر صغيرة من أجل نقلها كلها وبيعها للمستثمرين مقابل تدنيس آلاف المقابر وعدم احترام حرمة الموتى.

تحويلها للمنفعة العامة.. لم يستدل على عناوينهم

“أنا خيرية راتب ومن ناحية والدتي من أحفاد مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء الأسبق 3 مرات.. يريدون إزالة مدفن رياض باشا ومدافن أخرى لإقامة كبرى والتعويض بمدفن ٣٠ مترا في مدينة ١٥ مايو”. استغاثة التي نشرتها مدير الأبحاث في معهد البحث من أجل التنمية غالية القاضي.

فبينما استقبل عدد من الأسر خطابات تعويض لإزالة المدافن. ولكن آخرين لم يتم الاستدلال عليهم.

ففي 24 أكتوبر الماضي، تم عرض مذكرة، بشأن المدافن التي وقعت في نطاق الإزالة في مشروع تطوير محور صلاح سالم من محور جيهان السادات حتى حديقة الفسطاط بامتداد 6 كيلو متر. يتخللها جبانات المجاورين وباب الوزير وسيدى جلال والسيدة نفيسة والطحاوية والإمام الشافعي وسيدى عمر وكذلك التطور بمحور الشهيد وإعمار مدينة نصر وقد تلاحظ أن عناوين المنتفعين لبعض المدافن عناوين قديمة والمنتفعين الحالين لم يستدل على عناوينهم.

مذكرة لإزالة المدافن
مذكرة لإزالة المدافن

وأعلنت المذكرة الإجراءات الواجب اتخاذها في تلك الحالة، وذلك بعد عرضها على وكيل النائب العام المستشار محمد محب. الذي أفاد أن من حق محافظة القاهرة في حالة صدور قرار من رئيس الوزراء. بتحويل المنطقة للمنفعة العامة القيام بعملية نقل الرفات بمعرفة المحافظة والإدارات المختصة لتنفيذ قرار مجلس الوزراء.

استنفاذ الحد الأقصى من الفراغات العامة

خطط مختلفة لإنشاء مجموعة من الكباري وتوسعة الطرق. تأتي على حساب الأحياء والأموات. بهدف سهولة المرور وفقا للتصريحات الرسمية.

وعن مدى جدوى ذلك يقول خبير التخطيط والتصميم العمراني، عمرو عصام، الذي أوضح أن جذور الأزمة. تمثلت على مدار سنوات طويلة ظل جهاز النقل العام عاجزًا عن نقل سكان المدن من منازلهم إلى أعمالهم. وتمثل الحل الوحيد في زيادة السيارات الخاصة والعامة، بينما كان من الضروري أن نفهم لماذا وقع هذا العجز، وأن ندرك أبعاده النوعية حتى لا نختصره في جانبه الكمي وحده ثم نبحث مختلف البدائل الممكنة لحل المشكلة بحانبيها النوعي والكمي.

ويضيف. عندما استفحلت المشكلة. بدأ إنفاق آلاف الملايين من الجنيهات على تحسين الطرق والاستثمار في تسهيل المرور. عبر بناء مزيد من الطرق وبدى ذلك مستحيلا، كاستجابة طبيعية للمفهوم العالمي الفني والبدائي لأي متخصص :”معدل الزيادة في أعداد السيارات الخاصة أسرع كثيرًا. من معدل زيادة مساحات الطرق”. وشعر المسئولون بأن الحل الوحيد هو بناء مئات الكباري على الرغم مما يضيفه هذا من تشوه معماري وازدحام مكاني.

“عندما بدأنا نستنفذ إمكانية التوسع في بناء كباري مكلفة ومشوهة للبيئة وجماليات المكان. شعر المسئولون أن الحل الوحيد هو استنفاذ الحد الأقصى من الفراغات العامة لتسهيل مرور السيارات. ولم يبدو ذلك محالاً أمام آلاف الأشجار التي اقتلعت ومئات المباني التراثية التي تُهدم في سبيل تحقيق مشروعات لم تخضع للتساؤل والبحث الدقيق ومراجعة البدائل الأخرى للتطوير، بحسب خبير التخطيط والتصميم العمراني.

ويشير عصام إلى أن السياسة العامة الخاصة بالتحدي “النقل والمواصلات في القاهرة” لم تكن قد اخضعت المسألة كلها للبحث والمسألة والفهم، ومن ثم جاءت تلك السياسات العامة لتعالج الاحتقانات التي كان من المحتم أن تظهر بمزيد من الإنفاق المالي دون بحث مختلف البدائل وما يتطلبه كل بديل من إصلاحات وتغييرات جذرية في منظومة القيم واتخاذ القرار، وهو ما ينتهي بدوره إلى حلقة مفرغة تفتقد للمرونة والاستدامة.

شواهد القبور

ومن الناحية التاريخية لتلك المنطقة. يقول زيزو عبده مؤسس مبادرة “سيرة القاهرة”. إن للجبانات أهمية خاصة، فهي جزء لا يتجزأ من القاهرة التاريخية، مشيرا إلى أن التعامل معها لابد أن يكون بنظرة واسعة وتراثية شاملة لاحتوائها على مظاهر معمارية وفنية وخطوط تأسيسية وإعلام ومشاهير.

لم تمثل الجبانات مقرا للمتوفيين فقط. ولكنها تمثل للأثريين مصادر للرصد في الكتابة التاريخية. فيقول عبده:” نرصد من خلالها تاريخ أولاد البلد من خلال كتابتهم على شواهد القبور”.

ويشير عبده إلى إنه بنظرة أفقية على تلك الجبانات والأحواش الموجودة في القرافة. فكل منها يحتوي على مظاهر فنية مهمة. ووحدات زخرفية. فالقرافة منذ العهد الإسلامي وحتى أسرة محمد على وبعدها وحتى الأربعينات والخمسينات. سنجد أن هناك كتل حجرية فنية موجودة على كل المقابر من خلال شواهد القبور التي تميزت بها أسرة محمد علي. ونصوص تأسيسية منذ العهد العثماني غير الآثار المملوكية المتناثرة.