رغم دعوات تجديد الخطاب الديني التي يتبناها المسؤولون وعلى رأسهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، ما زالت بلاغات الحسبة تسيطر على المشهد في مصر.

آخر ما أسفرت عنه مثل هذه البلاغات. تمثل في إصدار محكمة طوارئ، الأربعاء الماضي، حكما بسجن أحمد عبده ماهر، المحامي والباحث في الفكر الإسلامي. خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان في القضية رقم 1421 لسنة 2021، جدلا واسعا

وكان أحد المحامين المعروفين بكثافة بلاغاته ضد المعارضين والأكاديميين والفنانين. تقدم العام الماضي ببلاغ إلى النائب العام ونيابة أمن الدولة ضد ماهر يتهمه بازدراء الإسلام في أحد كتبه، مطالبا بإحالته النيابة إلى المحاكمة بتهم ازدراء الأديان وإثارة الفتنة الطائفية وتهديد الوحدة الوطنية.

أحمد عبده ماهر
أحمد عبده ماهر

تاريخ قضايا ازدراء الأديان

وتطورت القضايا المعروفة بازدراء الأديان تاريخيًّا في مصر بداية من مسماها القديم.  قضايا الحسبة. إلى النص الحالي المتضمن في المادة 98 من قانون العقوبات المصري، التي استحدثت بعد ما عرف بأحداث الفتنة الطائفية بالزاوية الحمراء. في عام 1981.

وتقدمت حينها الحكومة بمشروع قانون لتعديل عدد من مواد قانون العقوبات، وإضافة مواد أخرى. منها مواد تتعلق بتغليظ العقوبة المنصوص عليها في المادة 160. المتعلقة بالحق في ممارسة الشعائر الدينية بعيدًا عن أعمال العنف. وتعديل المادة 201 الخاصة بتجريم إساءة استخدام خطاب ديني.

وكان الهدف من هذه التعديلات هو معاقبة رجال الدين الذين يسيئون استخدام الخطاب الديني للتحريض على أعمال عنف وتهديد أمن المواطنين، ولكن بعد سنوات تم توسيع نطاق التجريم، ليشمل كل المواطنين بدلًا من رجال الدين فقط.

من جورجي زيدان إلى عبده ماهر

ويعود تاريخ قضايا الحسبة وازدراء الأديان إلى ما قبل القانون. منذ اتهام جورجي زيدان -مؤسس مجلة الهلال- عام 1910 بأنه قبطي يُدرِّس التاريخ الإسلامي. وبعده الأزمة الشهيرة لعميد الأدب العربي طه حسين بسبب كتاب “في الشعر الجاهلي” عام 1926 مرورًا باتهام نجيب محفوظ عام 1959 بالتطاول على الذات الإلهية بسبب رواية “أولاد حارتنا”.

جورجي زيدان
جورجي زيدان

وفي عام 1981، اتهمت الكاتبة نوال السعداوي بازدراء الأديان بسبب آرائها حول تحرير المرأة. ووضع اسمها على قوائم الموت للجماعات الإسلامية. وتلقت العديد من التهديدات بالاغتيال. ما يشبه اتهام المفكر نصر حامد أبوزيد عام 1992، عندما رفع مجموعة من المحاميين دعوى قضائية للتفريق بينه وزوجته لأنه ألحد بسبب حديثه عن التحرر من سلطة النصوص.

في العام نفسه الذي تم تكفير أبوزيد. قتل المفكر فرج فودة، بعد نشر بيان بتكفيره.

ومن أشهر قضايا الازدراء، قضية الداعية إسلام البحيري. الذي وجهت إليه تهمة إهانة الإسلام، وأدين وحكم عليه بالسجن خمس سنوات. قبل أن يحصل لاحقا على عفو رئاسي..

وقبلها في أبريل 2009، ألغت المحكمة رخصة نشر مجلة “إبداع”. بعد أن نشرت في عام 2007، قصيدة “على شرفة ليلى مراد” للشاعر حلمي سالم. وقالت المحكمة إن القصيدة تضمنت “تعبيرات أهانت الله”.

وفقًا للقانون المصري، تتحقق جريمة ازدراء الأديان بوقوع الفعل المُجرم، وتوافر النية بغض النظر عن تحقق الهدف المرجو من هذا الفعل من عدمه.

وتتحقق جريمة ازدراء الأديان بناءً على ركنين؛ الأول ركن مادي، يتمثل في استغلال الأديان السماوية في الترويج باستخدام أي وسيلة من وسائل النشر لأفكار متطرفة تحت ستار مموه أو مضلل من الدين.

رواية أولاد حارتنا
رواية أولاد حارتنا

أما الركن الثاني، المعنوي: يقصد به توافر القصد الجنائي واتجاه الإرادة إلى ازدراء الأديان السماوية أو تحقيرها أو إثارة الفتن أو الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، لكي يخرج المنتمون إلى دين معين لكي دخلوا في دين آخر ويعتنقوه، أي أن مناط الحماية القانونية بنص تلك المادة هو الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وليس الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها.

المحتسبون الجدد

وظهر في مصر بعد 2013، ما عرفوا بالمحتسبين الجدد، لما لهم من سمات جديدة إضافية. فهم يزايدون بالوطنية، والأخلاق، والدين أيضا، يلاحقون من يتحدث بشكل يخالف آراءهم، حتى لو كانت مطربة تمزح على أحد المسارح أثناء حفلتها. يفسرون الوطنية كما يرغبون، ويلاحقون الناس، حتى من مؤيدي النظام، وفقا لتفسيراتهم.

وبحسب الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. ينتمي أغلب المحامين الذين يلاحقون الناس ويحاصرون حرية التعبير عبر تقديم البلاغات، إلى 3 أنواع.

الأنواع الثلاثة تمثلت حسب دراسة المنظمة الحقوقية. في راغب شهرة، وأخر يرغب في التقرب للسلطة. أو أنه بالفعل مقرب للسلطات التي توعز إليه بتقديم بلاغات لمحاصرة معارضيها. والثالث أشخاص مؤمنون حقا بما يقومون به، يدافعون عن وجهة نظرهم بالطريقة الخاطئة. عبر مصادرة رأي الآخر. والتعامل مع الآخر بوصفه يجر الشرور على المجتمع. ويعتبر نفسه أنه هو وحده الذي يحمل الخير للوطن.

محامون تخصصوا في بلاغات ازرداء الأديان
محامون تخصصوا في بلاغات ازرداء الأديان

51 بلاغا في أقل من عامين

رصد تقرير حقوقي عن برنامج حرية الرأي والتعبير بمؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان تقديم نحو ٢١ بلاغا في قضايا الحسبة خلال عام ٢٠١٩، ضد بعض الشخصيات العامة في مصر من أدباء وسياسيين وفنانين، كما رصد التقرير نحو ٣٠ بلاغًا لمحتسبين خلال النصف الأول من العام الحالي.

إضلال الأمة بفقه الآئمة

نعود إلى قضية أحمد عبده ماهر. حيث قال في تصريحات سابقة، إن تحقيقات النيابة في القضية دارت حول مضمون كتابه “إضلال الأمة بفقه الأئمة”. واتهامه بأن العبارات والنصوص الواردة فيه تسيء للدين الإسلامي.

وأبدى ماهر اندهاشه من أن النيابة واجهته بنصوص من الكتاب منقولة من كتب الحديث والتراث الإسلامي واعتبرت أن نقله لها يمثل إساءة للإسلام. وعقّب ماهر بأن هذه النصوص أوردها على سبيل النقد لا التأييد.

وينقسم كتاب “إضلال الأمة بفقه الأئمة” إلى ثلاثة فصول: “ضلالات فقهية بين فقه القرآن وفقه الضلال” و“ضلالات عن مفاهيم بالسنة النبوية” و“سوء فهم وتفسير القرآن”،

وتتضمن الفصول انتقادات حادة لآراء ونصوص تراثية إشكالية متنوعة وردت في كتب الحديث والفقه منها: عدم مسؤولية الزوج عن زوجته المريضة وحكم مضاجعة الموتى وزواج الرجل بابنته وطلاق الزوجة الأكولة وجواز نكاح الصغيرة في المهد وغيرهم.

وطالب المؤلف بنبذ هذه الأفكار والأحكام، ويوجه انتقادات حادة للأزهر والإفتاء ويتهمهم بالتساهل مع هذه المرويات والآراء.

وأشار ماهر إلى أن النيابة في تحقيقاتها طلبت رأي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في الكتاب المذكور.

وأضاف أن المجمع قدم رأيه للنيابة مؤيدًا اتهاماتها بكون الكتاب يتضمن ازدراءً للدين الإسلامي، وهو ما يعترض عليه ماهر ويقول إنه في خصومة مع مؤسسة الأزهر وأنه تقدم بنفسه بدعاوى ضد الأزهر يتهمه بعدم القيام بمسؤولياته في تجديد الخطاب الديني، وأن كتاب “إضلال الأمة بفقه الأئمة” هو أحد الدفوع التي يقدمها ماهر في مقاضاته للأزهر، فلا يجوز في رأيه استعانة النيابة برأي الأزهر في كتاب ناقد للأزهر لأنه لا يجوز سؤال الخصم عن خصمه.

استغاثة

وكان أحمد عبده ماهر نشر على صفحته الرسمية على الفيسبوك، نداء واستغاثة إلى رئيس الجمهورية. قال فيه إنه كان عسكريا خدم وطنه وخرج من الخدمة العسكرية لعدم اللياقة الطبية وهو في رتبة عميد وأنه حاليا عضو “جمعية المحاربين القدماء وضحايا الحرب”، ويبلغ من العمر 77 عاما.

واستنكر أنه الآن يحاكم وفق قانون الطوارئ بتهمة ازدراء الإسلام بسبب تأليف كتاب تناول فيه بعض الآراء في الفقه الإسلامي الذي ينادي رئيس الجمهورية بتطويره وتجديده، وأضاف “ونحن نتعاون مع سيادتكم في ذلك الإصلاح”، بحسب نص البيان.

وقد عُرف عن أحمد ماهر انتقاده الشديد للأزهر بل إنه اتهم المناهج التي تدرس في المعاهد الأزهرية بأنها “تحض على التطرف”.

وطرح ماهر رؤية خاصة به لـ“إصلاح الأزهر” تتلخص أولاً في “إغلاق الأزهر لعشر سنوات، على الأقل، حتى نصنع فاصل بين هذا الجيل المهلهل فقهياً وفكرياً، وبين الجيل الجديد الذي سيقدم الإسلام للعالم”.

مطالب بوقف المحاكمات 

المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. أدانت الحكم على ماهر بأقصى العقوبة. محذرة من أن الحكم عليه استمرار لنهج متكرر من الملاحقات الأمنية والمحاكمات القضائية للمدونين والباحثين. الذين يُعبرون عن آرائهم الدينية المخالفة للتوجهات الدينية السائدة. ومن بينهم مجموعة من الباحثين وأصحاب الآراء الدينية الناقدة للتراث الإسلامي. والمطالبة بتجديد الفكر الديني.

وتابع البيان: تولت محكمة أمن الدولة طوارئ منذ أكتوبر 2020. محاكمة المحامي نبيل النقيب بتهمة ازدراء الدين الإسلامي. بسبب آرائه الناقدة للتراث الإسلامي وأنماط التدين الشائعة. أثناء ظهوره في بعض البرامج التليفزيونية وفي كتاباته على حساباته الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي.

وزاد البيان: استندت نيابة أمن الدولة في اتهام النقيب أيضًا. إلى خطاب من مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر. يؤيد ارتكاب المتهم لجريمة ازدراء الأديان. وفي الوقت نفسه يظل الباحث والمدون القرآني رضا عبد الرحمن قيد الحبس الاحتياطي منذ أغسطس 2020 في اتهامه بالانتماء لتنظيم داعش دون أدلة أو قرائن.

وطالبت المبادرة بالتدخل العاجل لوقف ملاحقة أصحاب الآراء الدينية المختلفة عن السائد. ووقف محاكمات “ازدراء الأديان” وفق المادة 98 (و) من قانون العقوبات التي يتم وفقها اتهام وإدانة أصحاب طيف واسع من الأفكار والمعتقدات. بدءًا من المذاهب الإسلامية المختلفة عن المذهب السني – مثل المنتمين إلى المذهب الشيعي. أو مدرسة الفكر القرآني أو المذهب الأحمدي –. أو حتى أصحاب الآراء النقدية للتراث الديني من داخل المذهب السني، وصولًا إلى ملاحقة أصحاب الأفكار الإلحادية أو اللادينية.

سيطرة السلفية

الإعلامي إبراهيم عيسى انتقد، محاكمة أحمد عبده ماهر أمام محكمة طوارئ.

وأضاف خلال برنامجه “حديث القاهرة” على قناة “القاهرة والناس”: المفكر أحمد عبده ماهر رجل مسلم موحد بالله ولم يُضبط يومًا داعيا لكراهية أو عنف كما تفعل التيارات المتطرفة.

وزاد: كيف يحاكم باحث على آرائه. في وقت تتحدث الدولة عن تجديد الخطاب الديني، معتبرا أن السلفية تسيطر على الدولة المصرية.

ولفت إلى أنّ ماهر مع تنقية المناهج وتجديد الخطاب الديني. وأنه غيور على دينه وليس له قوى جماهيرية مثل السلفيين، وفق تعبيره. متابعًا: لابد من الرد على أفكاره بأفكار وليس السجن 5 سنوات.

ووصف الباحث والأديب المصري يوسف زيدان – والذي تعرض لاتهامات في السابق بـ”ازدراء الأديان” الحكم “بالصادم”. رغم أنه يختلف مع بعض أفكار ماهر، كما يقول.

حرية الاعتقاد 

وكتبت إلهام شاهين عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك: أتضامن مع المستشار أحمد عبده ماهر. وأرفض قانون ازدراء الأديان. كل واحد حر في علاقته بربنا وهو اللي يحاسبه.

وأضافت إلهام شاهين: «الاجتهاد في تفسير الدين بما يتلاءم مع روح العصر مطلوب جدًّا لتنوير العقول المتحجرة، هذا الرجل أفكاره كلها محترمة وإنسانية جدا.. وكل ما ينتقده من أفكار غريبة وشاذة.. نرفضها جميعا.. لأنها لا يمكن تكون من صحيح الدين بأي منطق».

وتابعت شاهين: نرفض فكرة جهاد الطلب الذي يبيح الهجوم على الأمم وقتل رجالهم وسبي نسائهم وبيع أطفالهم. والاستحواذ على ممتلكاتهم واستعمار أراضيهم. ونطالب باحترام  كل الأديان. مسلم أو مسيحي أو يهودي أو حتى بوذي.. نحترم حقوق كل إنسان وعلاقته بربه.. وربنا وحده يحاسب الجميع».

يذكر أن الفنانة إلهام شاهين كانت أثارت الجدل  خلال الأيام الماضية. بعد أن أعلنت عن قيامها بإعادة تمثيل مسرحية «المومس الفاضلة». التى كانت قدمتها الفنانة سميحة أيوب في ستينات القرن الماضي. واختارت شاهين، سميحة لكي تكون مخرجة العمل المسرحي. على أن يكون معروضا على المسرح القومي في القاهرة.

في المقابل، خرج الداعية الإسلامي المثير للجدل عبد الله رشدي خرج ليدافع عن الحكم، وأعرب عن أمله في أن يكون الحكم “عِظَةً لبعضِهم”.

وكتب: أنا لستُ قدِّيسا.. لكنَّ فرقاً بين العاصي الذي يرجو التوبةَ مثلي أنا وغيري من المسلمين وبين من يريد اقتلاعَ قواعدِ الدين من جذورها.