شهدت مدينة الرقة السورية تحسنا كبيرا منذ تعرضت المحافظة للدمار في الحرب بين تنظيم الدولة الإسلامية والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الذي شُكِّل لإلحاق الهزيمة بالتنظيم قبل أربع سنوات. لكن مستقبل المحافظة وعاصمتها يبقى على حافة سكين، وتعتمد على الحفاظ على توازن بين قوى متنافسة. هذا التوازن مشروط إلى حد بعيد بوجود مجموعة صغيرة من القوات الأمريكية والمستشارين العسكريين في شمال شرق سوريا ووجود طائرات مراقبة أميركية في الأجواء فوقها، وهو ما خلصت إليه ورقة موقف صدرت مؤخرا عن مجموعة الأزمات الدولية.

باتت الرقة، العاصمة السابقة بحكم الأمر الواقع لما يسمى الدولة الإسلامية، اليوم بين المناطق الأكثر استقراراً في سوريا. إلا أن هذا النجاح النسبي يقوم على أساسات هشة. فقوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية التي تسيطر على مدينة الرقة وعلى معظم المحافظة أيضاً تدير المنطقة بكفاءة، لكن بشكل ثقيل الوطأة كما يعتقد البعض، الأمر الذي يثير الاضطرابات أحياناً. تبقى المحافظة التي تقع فيها المدينة مقسّمة ومتنازعاً عليها بين تركيا، وروسيا والنظام السوري، بينما تستغل بقايا تنظيم الدولة الإسلامية الحدود الداخلية القابلة للاختراق للتحرك. المواجهات والضربات المتبادلة بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية تبقي الحدود الشمالية متوترة، ويمكن لهذا التوتر أن يتصاعد. يعتمد استقرار الرقة بشكل جوهري على القوات الأميركية التي تتخذ لها مواقع إلى الشرق، والتي يردع وجودها تحول المنطقة إلى ساحة عنف متفلت تنشط فيها جميع الجهات الساعية إلى تحقيق المكاسب. وطالما استمر هذا الانتشار، ينبغي على التحالف الذي شُكِّل لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية والذي تقوده الولايات المتحدة أن يستثمر في استقرار المنطقة؛ وأن يشجع قوات سوريا الديمقراطية على الالتزام باتفاقات وقف إطلاق النار والحد من احتكارها للحكم المحلي؛ والعمل من أجل التفاوض على ترتيبات مستدامة وكافية لتفادي حدوث تحركات عسكرية من شأنها أن تزعزع استقرار المنطقة.

في المعارك التي أدت إلى هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة، تعرضت المدينة والمناطق المحيطة بها مباشرة إلى الدمار على نطاق يصعب تخيله. اليوم، عادت المنطقة إلى الحياة. وبدعم من التحالفِ، أقامت قوات سوريا الديمقراطية مجموعة من المؤسسات لتأمين المحافظة، وإعادة بنائها وإدارتها، مع التركيز بوجه خاص على المدينة التي تحمل نفس اسم المحافظة. رغم الانسحاب الجزئي المفاجئ للقوات الأميركية من الرقة في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وما تلا ذلك من حدوث توغل عسكري تركي، فإن الأمن، والأحوال الاقتصادية وممارسات الحكم أفضل في الرقة مما هي في مناطق أخرى في سوريا، بما في ذلك في المناطق المجاورة التي عانت بنفس المقدار في ظل حكم تنظيم الدولة الإسلامية لكن استعادتها دمشق.

احتمالات تجدد الصراع

إلا أن احتمال تجدد الصراع وانعدام الاستقرار يبقى قائماً. فمحافظة الرقة مقسمة إلى ثلاث مناطق، تسيطر عليها بشكل واضح قوى متنافسة، لكل منها نقاط قصورها. معظم المحافظة، بما في ذلك المدينة، تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهي قوات ليست جزءاً من الدولة تربطها علاقات بحزب العمال الكردستاني، وهو تنظيم كردي يقاتل في تمرد مسلح ضد تركيا منذ عام 1984. والجزء الشمالي على الحدود التركية في أيدي فصائل سورية انتشرت بعد التوغل التركي في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وثمة جيوب صغيرة على الحدود الجنوبية الغربية للمحافظة يسيطر عليها النظام السوري، الذي تبين أنه غير قادر أو غير مستعد لتوفير الخدمات الأساسية والأمن للسكان هناك. كما توجد قوات روسية على الأرض؛ وهي لا تسيطر على مناطق، بل أقامت قواعد تسيّر منها دوريات مشتركة مع القوات التركية، ومع قوات سوريا الديمقراطية ووحدات النظام، كل على حدة، بموجب أحكام وقف إطلاق النار لعام 2019.

يمكن لأي عدد من التطورات أن يقوض الوضع الراهن بشكل عنيف. إذ يمكن للعناصر المتبقية من تنظيم الدولة الإسلامية أن تستغل غياب وجود التحالف في الرقة، ونفور السكان العرب المحليين من حكم قوات سوريا الديمقراطية أو الظروف الاقتصادية المتردية لتحقيق اختراقات على أمل التمكن من العودة. كما يمكن أن تؤدي الاحتكاكات بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام على المسائل المتعلقة بالإدارة والأمن والموارد في المناطق التي يوجدان فيها معاً بشكل غير مريح أو في المناطق التي يتجاوران فيها، إلى مواجهات بينهما. تركيا، التي ترى في علاقات قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكردستاني تهديداً لأمنها القومي، يمكن أن تشن هجوماً جديداً، على سبيل المثال رداً على هجمات تنطلق من مناطق تسيطر عليها تلك القوات على قواتها أو على الفصائل التي تدعمها في الشمال.

حتى الآن، تم تفادي حدوث هذه السيناريوهات بفضل وجود قوة أميركية صغيرة إلى الشرق وبفضل الدعم الذي تقدمه لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المنطقة. في غياب اتفاق بين هؤلاء اللاعبين وقوات سوريا الديمقراطية يوفر ضمانات ذات مصداقية ضد التنافس العنيف على الأرض والموارد، ثمة احتمال كبير، إذا انسحبت الولايات المتحدة بشكل مفاجئ، أن يتردى الوضع في شمال شرق سوريا إلى حالة من الفوضى يمكن أن تُحدث أزمة إنسانية حادة وموجات هائلة من النزوح. لقد أشارت إدارة بايدن إلى أنها لا تعتزم سحب القوات الأميركية في الوقت الراهن؛ كما أن الانتقادات التي وجهت إليها بسبب انسحابها الفوضوي من أفغانستان يجعل مثل هذا التحرك أقل ترجيحاً.

التواجد الأمريكي

وبينما يستمر انتشار القوات الأميركية، ينبغي على واشنطن والأعضاء الآخرين في التحالف الذي شُكِّل لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية استخدام النفوذ الذي يوفره وجودهم في الشمال الشرقي للاستمرار في الاستثمار في استقرار المنطقة، وتشجيع إجراء مفاوضات بين الأطراف والعمل بالتوازي للتوصل إلى تفاهمات دبلوماسية من شأنها أن تدرأ حدوث تحركات عسكرية من قبل أنقرة أو دمشق إذا انسحبت الولايات المتحدة، وعندما تفعل ذلك. إن مثل تلك الجهود محورية لمعالجة المظالم والثغرات في الحوكمة التي يمكن لتنظيم الدولة الإسلامية أن يستغلها. وينبغي أن يكون تقديم المساعدات مشروطاً بالتزام قوات سوريا الديمقراطية بوقف إطلاق النار والحد من احتكارها لحكم المنطقة، بما في ذلك تمكين درجة أكبر من المشاركة من قبل العرب والأكراد غير المرتبطين بقوات سوريا الديمقراطية في صنع القرار في الإدارة الذاتية والحكومة المحلية. وينبغي على الولايات المتحدة أن تدفع قوات سوريا الديمقراطية إلى ضبط هجمات المتمردين على المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في الشمال، وفي الوقت نفسه السعي إلى إقناع أنقرة بعدم التصعيد من جانبها. وفي الوقت نفسه، ينبغي على واشنطن أن تبعث بإشارات إلى جميع الأطراف المعنية – دمشق، وموسكو، وأنقرة وقوات سوريا الديمقراطية – بأن لها مصلحة في استكشاف ترتيبات من شأنها أن تحقق الاستقرار في المنطقة بطريقة مستدامة.