تغلب اتهام “ازدراء الأديان” على كل محاولات إزالته أو تحديد ماهيته في كافة التشريعات. وبقي مصطلحًا فضفاضًا يبتلع كل ما أمامه من محاولات للتفكير أو الخروج عن المألوف وبقود من يتصدى له في أحيان كثيرة إلى السجن. مهما ارتفعت المطالبات بإلغاء عقوبة الحبس في هذا الشأن.

لذلك، يشهد البرلمان المصري، في كل فصل تشريعي، معركة بين فريقين. من يحاولون إلغاء عقوبة الحبس، وآخرون يدافعون عن استمرارها، بل ويدفعون لتغليظ العقوبة.

ويرى الفريق الأول أن استمرار الاتهام والعقوبة بالشكل الحالي يُعيق العمل على تطوير الفكر الديني الذي تقوده الدولة. في مقابل الفريق الآخر الذي يرى أنه أحد وسائل تحصين الدين.

اتهامات فضفاضة

منذ مطلع القرن العشرين، عندما اتُهم جورجي زيدان -مؤسس دار الهلال- بالإساءة إلى الدين الإسلامي لتدريسه منهجه بالجامعة المصرية. بدأت معارك طويلة بين المفكرين والقائمين على حفظ الموروثات، استمرت حتى يومنا هذا. ودومًا ما يربح رافضو التجديد المعركة بسلاح لا يخيب هو “ازدراء الأديان”.

فحسب قانون العقوبات المصري، يُمكن تقديم أي شخص للمحاكمة، لمجرد أنه نشر مقال أو صور أو رسومات. أو أي وسيلة أخرى من وسائل النشر، أو الحديث عن دين سماوي أو شعائره.

تنص المادة 98 من قانون العقوبات المصري على أنه: “يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تجاوز 5 سنوات. أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تجاوز ألف جنيه. كل من استغل الدين في الترويج أو التحييز بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة. بقصد إثارة الفتنة أو التحقير، أو ازدراء أحد الأديان السماوية، أو الطوائف المنتمية إليها. أو الضرر بالوحدة الوطنية، أو بالسلم الاجتماعي”.

أي أن مناط الحماية القانونية -وفق نص المادة- هو الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وليس الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها.

كما تنص المادة 160 من قانون العقوبات على أنه “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد. يعاقب بالحبس مدة ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن ألف جنية ولا تزيد عن 5 آلاف جنيه. كل من شوش على إقامة شعائر ملة أو دين. أو احتفال أو رموز أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس”.

وأضاف المشرع: “في أحداث الفتنة أو زعزعة الوحدة الوطنية، تكون العقوبة المشددة لمدة 7 سنوات. مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في قانون آخر”.

الروائية ضحى عاصي عضو مجلس النواب

تحت القبة

في عام 2006، وافقت لجنة الاقتراحات والشكاوى في البرلمان المصري على مشروع قانون قدمه نواب الإخوان يقضي بتغليظ عقوبة ازدراء الأديان والسخرية منها.

ونص المشروع على إضافة مادة جديدة لقانون العقوبات. بفرض عقوبة بالسجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه. على كل من تعدى أو استهزأ أو سخر بالقول أو الرسم أو الإشارة من نبي أو رسول يتبعه دين من الأديان التي تمارس شعائرها علنًا. وحصر التعديل الجديد تحريك الدعاوى في قضية الازدراء بالنائب العام فقط.

وبالنظر إلى الماضي القريب. شهد مجلس النواب، خلال رئاسة الدكتور علي عبد العال، رفض حكومي لمشروع القانون المقدم من النائب محمد زكريا محيي الدين لإلغاء العقوبة. بل وحذّرت من تمريره خلال مناقشته أمام اللجنة التشريعية. كان ذلك خلال دور الانعقاد الأول.

وفي بداية دور الانعقاد الثاني، رفضت اللجنة التشريعية المشروع نفسه، بعد أن قدمه ثلاثة نواب بينهم آمنة نصير. وكانت نتيجة التصويت رفض 20 نائبا، مقابل موافقة 3 فقط، وامتناع نائب عن التصويت.

وقتها، وصفت آمنة نصير الفقرة “و” بالمادة 98 من قانون العقوبات بأنها “مليئة بالعوار. وتنبعث منها رائحة الأنا الغاشمة، وتعبر عن ديكتاتورية الفكر البائسة”.

ووصفت اللجنة التشريعية بأنها “تعاملت على أنهم حماة الدين وأنها من ستهدمه”. رغم أنها قدمت مشروع القانون “لإنصاف الإسلام”، حسب ما أدلت في تصريحات سابقة عام 2019.

في مقابل رفض إلغاء العقوبة أو تعديل مفهوم “ازدراء الأديان”. وافقت لجنة اقتراحات البرلمان -قبل انتهاء الانعقاد الثاني- على مشروع قانون لتغليظ العقوبة وتعديل المادة 98. الذي قدمه النائب كمال عامر.

وأشار عامر في مقترحه أنه تقدم به “لتحقيق الردع العام من خلال تشديد العقوبة”.

عقبة لتجديد الخطاب الديني

تلفت الروائية ضحى عاصي، عضو مجلس النواب، إلى أن اتهام ازدراء الأديان هو “عقبة أمام كل من يحاول العمل على تجديد الخطاب الديني وقراءة الموروث”، حسب قولها. داعية إلى أن يكون التشريع الخاص بهذا الاتهام أكثر تحديدًا.

تقول ضحى لـ “مصر 360”: المصطلح نفسه مطاط لدرجة مخيفة وليس له تعريف معين. بحيث لا نستطيع التفرقة بين المسيء للأديان ومن يعملون على تنقيح الموروث وما وصل إلينا عبر أجيال عدة.

وأشارت ضحى، وهي باحثة في التراث، إلى أن هناك تناقضا بين دعوة الدولة لإعمال العقل وتجديد الخطاب الديني. في مقابل اتهامات ازدراء الأديان “هذه الاتهامات والأحكام التي تعقبها ستجعل المفكرين يبتعدون عن كل ما يُسبب لهم الضرر. فلا فائدة من تفكير قد يزج بصاحبه إلى السجن.

وأضافت: والدي رحمه الله كان واحدًا من شيوخ الأزهر المستنيرين. وعمل كثيرًا على قراءة الموروث وتصحيح المفاهيم. لكن لم يتهمه أحد بالازدراء.

أزمة أخلاق

يلقي المستشار والنائب منصف نجيب سليمان، وكيل لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب، الأزمة بعيدًا عن البرلمان، وإنما في الأصل هي أزمة إعلام ووعي “الأزمة لا تتعلق بالتشريع وإنما بالإعلام الذي يصنع الشخصيات والأحداث التي نراها اليوم. يلتقط أحاديثهم ويضخم من ذواتهم”.

وأضاف لـ “مصر 360”: كذلك هناك فارق ضخم بين أعمال درامية نمّت القيم والأخلاق مثل “ضمير أبلة حكمت” أو “رأفت الهجان”. وبين الأعمال الدرامية التي نراها اليوم وتحفّز على المزيد من العنف.

وتابع: كنت عضوًا بالمجلس القومي لحقوق الإنسان لمدة تسع أعوام. أتذكر أن لجنة تقصي الحقائق وقت حادثة المرأة التي تمت تعريتها في المنيا اكتشفت أن مشهد السحل والتعرية جاء من مسلسل أجنبي.

يوضح نجيب رأيه في أن التشريع الخاص بازدراء الأديان “لا يحتاج إلى تعديل”. وقال: “يجب أن يكون التشريع فضفاضًا كي يستوعب هذا الكم من الإساءات التي تخرج علينا كل يوم. وإلا ستتعدد التشريعات مع ظهور أشياء جديدة”.

ويشير إلى أن ما يمنع البريء من دخول السجن هو ضمير القاضي ورؤيته واطلاعه “مثلًا في أزمة كتاب “في الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين. خالف القاضي كل الدعوات والضغوط الشعبية التي رأت في الكتاب إساءة كبرى للإسلام”.

يتابع: “القاضي المستنير استطاع التفرقة بين الواقع والظن الشعبي. لذلك أقول للقضاة الشباب أنهم حماة الحرية والحق، وأن ضمائرهم هي القادرة على تبينه”.

ويرى نجيب أن “الحل الوحيد للحرية هو المزيد من الحرية. والحل الوحيد للديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية”.