كل المقدمات كانت تشير إلى أن مؤتمر الأطراف السادس والعشرين للمناخ، والذي انعقد في جلاسجو باسكتلندا في الفترة من31 أكتوبر -12 نوفمبر الجاري، سيفشل، أو بالأحرى، فشل قبل أن يبدأ. 

زاد متوسط ​​درجة حرارة سطح الأرض بالفعل بنحو 1 درجة مئوية منذ فترة ما قبل الصناعة في القرن الثامن عشر، ومع ارتفاع درجة الحرارة بدرجة واحدة فقط، شهد العالم اضطرابات مناخية كبيرة. ذوبان القمم الجليدية القطبية، موجات جفاف شديد وطويل الأمد، حرائق الغابات المدمرة. ونشهد موجات حرارة أكثر وأطول، وتزداد وتيرة وحدة العواصف والأعاصير بسبب ارتفاع درجة حرارة سطح المحيطات. وهناك فيضانات قياسية، وفقدان للتربة، وتآكل الأراضي الساحلية، ويزداد تحمض المحيطات بسبب امتصاص المزيد من ثاني أكسيد الكربون، وبدأت الشعاب المرجانية في العالم تموت، وبدأ الانقراض الجماعي السادس في تاريخ الكوكب. 

في الثمانينات من القرن الماضي كانت 2 درجة مئوية هي الهدف المقبول على نطاق واسع، وهو الهدف الذي تبنته تقريبا معظم دول العالم في محادثات المناخ في باريس في عام 2015، لكن الآن، يوجد إجماع علمي على أن الاحتباس الحراري يجب أن يظل عند 1.5 درجة مئوية، للحفاظ على العواقب ضمن نسب يمكن التحكم فيها. 

في أكتوبر عام 2018 صدر تقرير عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) وهي هيئة علمية استشارية أسستها الأمم المتحدة لتقديم تقييم شامل لحالة علوم المناخ وتغيراته وتقديم توصيات سياسية عامة، وتتألف من خبراء تعينهم الحكومات، التي يفترض أن توافق على أي تقارير تصدرها، لذلك تميل الهيئة إلى التحفظ الشديد، وأحيانا إلى التفاؤل. فإذا قالت تقارير الهيئة إننا في مشكلة، فمن شبه المؤكد، أننا في ورطة أكبر مما تقول. يقول التقرير إن أمامنا 12 عاما للسيطرة على انبعاثات الكربون، أو سنواجه كارثة مناخية. هذا ليس سيناريو سيئا، بل هو تقييم رصين ودقيق لهيئة حكومية دولية محافظة وشديدة الحذر. 

يوصي التقرير بالحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة في حدود 1.5 درجة مئوية، ولتحقيق هذا الهدف يتوجب خفض الانبعاثات بنسبة 45% بحلول عام 2030 تمهيدا للوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول منتصف القرن. حاليا، نحن نتحرك في الاتجاه الخاطئ، ارتفعت الانبعاثات في عام 2017، وزادت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في عام 2018.، وانخفضت خلال فترات الإغلاق التي ارتبطت بجائحة كوفيد-19، قبل أن تعاود الارتفاع من جديد. يقول التقرير إنه حتى لو بدأت جميع الدول العمل اليوم فالمعدلات الحالية للانبعاثات تضع العالم على طريق الاحترار بنحو 3 درجات مئوية على الأقل بحلول نهاية القرن.

وفي نوفمبر 2018 صدر التقييم الوطني للمناخ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأعد التقييم بتكليف من الكونجرس، ومع ذلك حاولت إدارة ترامب التشويش عليه بإصداره في اليوم التالي لعيد الشكر، لكن النتائج التي توصل إليها كانت دراماتيكية بحيث لا يمكن تجاهلها. الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر مستهلك للطاقة، وأكبر مصدر للانبعاثات المتراكمة تاريخيا في العالم. تأتي بعدها الصين، وهي مسئولة حاليا عن 30 % من الانبعاثات السنوية. وتحتل روسيا والبرازيل وإندونيسيا، المراتب الثالثة والرابعة والخامسة في الانبعاثات. ثم ألمانيا، والهند. أستراليا المرتبة الثالثة عشرة بسبب اعتمادها على الفحم وتغيير استخدامات الأراضي، وبعدها الأرجنتين، المكسيك، وجنوب أفريقيا. 

ترامب
ترامب

 

خلص التقرير إلى أنه “لا الجهود العالمية للتخفيف من أسباب تغير المناخ، ولا الجهود الإقليمية للتكيف مع الآثار، تقترب حاليًا من المعدلات الضرورية اللازمة لتجنب الأضرار الجسيمة التي ستلحق بالاقتصاد الأمريكي والبيئة وصحة الإنسان ورفاهه على مدى العقود القادمة، وأنه إذا استمرت المعدلات الحالية للانبعاثات، فسوف ترتفع درجة حرارة الأرض 5 درجات مئوية، أو أكثر، بحلول نهاية القرن، وستكون التكلفة التي سيتحملها الاقتصاد الأمريكي هائلة، لكن العواقب ستكون أكثر تدميرا في مناطق أخرى في دول الجنوب. 

فجوة الإنتاج

قبل أيام من مؤتمر المناخ صدر تقرير “فجوة الإنتاج” عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومعهد ستوكهولم للبيئة. في الوقت الذي ينبغي فيه تنسيق الجهود لخفض الانبعاثات، يشير التقرير الصادر عن الأمم المتحدة إلى أن دول العالم تخطط لزيادة إنتاج الوقود الأحفوري بحوالي 190% حتى عام 2040، وهي كمية أكبر بكثير مما يتوافق مع هدف الحفاظ على درجة الحرارة في حدود 1.5 درجة مئوية، ويتوقع التقرير أن ترتفع الانبعاثات إلى ذروتها بحلول العام 2025. 

وقبل المؤتمر بأيام، صدر تقرير الأمم المتحدة لمراجعة الخطط والمساهمات الوطنية لخفض الانبعاثات، ويكشف التقرير أن الالتزامات والإجراءات في الصين والبرازيل والهند “غير كافية للغاية”، وفي روسيا “غير كافية بدرجة كبيرة”. ولا تتوافق التزامات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا مع هدف الـ 1.5 درجة مئوية. ولا يريد رئيس وزراء كندا، جاستن ترودو، التخلي عن 50 تريليون دولار من احتياطيات النفط التي تنتظر استخراجها. ويتوقع التقرير أن يستمر إنتاج الفحم لسنوات في الصين وأستراليا وماليزيا، وحتى في ألمانيا، التي زادت بشكل كبير من استخدامها للطاقة المتجددة خلال العقد الماضي، ستواصل استخراج الفحم بكميات كبيرة من أجل التصدير. وقال التقرير، إنه حتى في حال التزام جميع الدول بما قررته من خطط ومساهمات لخفض الانبعاثات، فإن درجة حرارة الأرض سترتفع إلى حدود 2.7 درجة مئوية بحلول نهاية القرن.

لم يشارك رؤساء الدول الكبرى المصدرة للانبعاثات في المؤتمر، فلم يحضر الرئيس الصيني شي جين بينج، ولا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا الرئيس البرازيلي جايير بولسنارو. وبسبب قيود السفر المرتبطة بجائحة كوفيد-19، لم تتمكن كثير من الدول الفقيرة في أفريقيا وجزر المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، التي تعاني أسوأ عواقب تغير المناخ، من إرسال وفود للمشاركة في القمة. في حين حضر الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، بعض الجلسات. الأمر الذي يثير الشكوك في مدى جدية هذه الدول المسئولة عن ما يقرب من نصف الانبعاثات، ويشير بوضوح إلى أنها هيأت جميع الأسباب لفشل القمة. 

وقبل بداية القمة بساعات، أصدر تحالف “البلدان النامية المتشابهة التفكير”- (LMDC)- بيانا وزاريا، يخرق الإجماع العالمي على ضرورة الوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول منتصف القرن. بيان التحالف، الذي يضم 24 دولة من بينها الصين وإندونيسيا والهند وماليزيا وفنزويلا والمملكة العربية السعودية ومصر، قال، إن هذا الهدف يتعارض مع المساواة والعدالة المناخية، وطالب بإعادة التأكيد على مبدأ “المسؤوليات المشتركة لكن المتباينة” بين الدول، والذي لم يتم الاتفاق عليه في باريس. وطالب البيان الدول المتقدمة، بالعمل أولا على خفض الانبعاثات بالكامل خلال هذا العقد، بناء على مسؤوليتها التاريخية عن معظم الانبعاثات المتراكمة منذ الثورة الصناعية.

يتجاهل بيان الدول النامية متشابهة التفكير  الخسائر البشرية الفادحة الناجمة عن استمرار حرق الوقود الأحفوري وإزالة الغابات والظروف الجوية المتطرفة والكوارث المناخية، والتي غالبا ما يكون ضحاياها من أفقر الناس، وفي أفقر البلدان في العالم. ففي العقد الماضي فقط، تسببت الأعاصير العنيفة في مقتل عشرات الآلاف وخلفت خسائر بالمليارات في الفلبين وموزمبيق وفيجي ومنطقة الكاريبي والولايات الجنوبية في الولايات المتحدة. وفي عام 2019 اضطر حوالي 4 ملايين مواطن بنغالي للهجرة بسبب موجات من الطقس المتطرف وارتفاع مستوى سطح البحر. ويقتل تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الأحفوري ما يصل إلى 8 ملايين على مستوى العالم كل عام، كثير منهم في الصين والهند. ويقتل سنويا المئات من سكان الغابات والشعوب الأصلية والمدافعين عن الأرض والبيئة الذين يناضلون ضد إزالة الغابات ومشروعات التعدين واستخراج النفط. قتل الآلاف منذ وقعت اتفاقية باريس للمناخ. 

وفي تناقض واضح مع الدول النامية متشابهة التفكير، دعا منتدى الدول الأكثر تعرضا لتغير المناخ، وهو منتدى يضم 48 دولة من الدول الفقيرة في أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية والكاريبي، مؤتمر الأطراف السادس والعشرين، إلى إعادة بناء الثقة في التعاون الدولي عن طريق إقرار  “ميثاق طوارئ مناخية”، وتسريع إجراءات التكيف مع تغير المناخ، والحفاظ على درجة حراة الأرض في حدود ال 1.5 درجة مئوية، ويدعو إلى انتقال شامل وسريع إلى الطاقة المتجددة، و لضمان الانتقال العادل، اقترح المنتدى “تحالفا طارئا لإعادة هيكلة الديون المرتبطة بمواجهة تغير المناخ”. لكن التركيز على الدول النامية والفقيرة، لا ينبغي أن يصرف الانتباه عن الأداء الفاشل والضعيف للدول المتقدمة. 

ففي الولايات المتحدة لا يوجد فارق جوهري بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الموقف من الوقود الأحفوري. يعلن الديموقراطيون دعمهم للطاقة المتجددة، وفي نفس الوقت، يدعمون زيادة إنتاج الوقود الأحفوري. في عام 2015 وقع باراك أوباما تشريعا يرفع حظرًا دام أربعين عامًا على صادرات النفط، وبعدها بثلاث سنوات أعلن -بكل فخر- أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم. وكانت سياسة إدارة ترامب هي رفض التقارير العلمية التي تجمع على أن المناخ يتغير، وفي الوقت نفسه، تسريع تطوير واستخدام وتصدير الوقود الأحفوري. أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، وقال أن حدسه يخبره، بأن التقارير عن تغير المناخ خاطئة.

سقط الفصيل المهيمن من النخبة الحاكمة في أكبر اقتصاد في العالم في هذا النوع من التفكير اللاعقلاني، ويكفي هنا أن نقول، إنه يمكن للأفكار المناهضة للعلم وغير العقلانية أن تنتشر بين جميع طبقات المجتمع في فترات الأزمات الشديدة. وإذا أضفنا إلى ذلك، هيمنة رأس المال الأحفوري على الاقتصاد، تصبح البيئة مهيأة لانتشار أنواع مختلفة من التفكير السحري والخرافي، من إنكار المناخ، إلى إنكار كوفيد-19. 

وأدى صعود اليمين المتطرف في عدد من دول العالم، سواء في صورته الشعبوية أو الفاشية الجديدة، إلى وضع عقبات إضافية في طريق تجنب كارثة المناخ. في البرازيل، زاد معدل قطع الأشجار في غابات الأمازون المطيرة، بعد تولي الرئيس جايير بولسونارو، وهو منكر آخر لتغير المناخ، رئاسة البرازيل. وفي الهند، شجعت حكومة حزب “بهاراتيا جاناتا”، اليمينية المتطرفة، على زيادة حادة في استخدام الفحم، وهو أحد الأسباب الرئيسية لزيادة الانبعاثات خلال السنوات الماضية. 

لكن المشكلة ليست فقط في أقصى اليمين، فقد كان اتفاق باريس للمناخ في ذاته غير ملائم وغير كافٍ. بموجب الاتفاقية، يتوجب على البلدان أن تقدم التزامات بمساهماتها الوطنية في الحد من الانبعاثات. لكن من بين 191 دولة وقعت على الاتفاقية، لم تقدم سوى 110 دولة التزاماتها الوطنية لخفض الانبعاثات. من بين الدول الثمانين التي لم تقدم التزامات دول كبرى منها الصين وروسيا والهند. وحتى لو كانت كل الدول على وشك تحقيق أهدافها المعلنة في الحد من الانبعاثات، وهي ليست كذلك، فالأرض تتجه نحو الاحترار بما لا يقل عن 3 درجات مئوية بنهاية القرن. 

قمة باريس

إن تنفيذ ما تدعو إليه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، يوجب التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة. ونظريا، يمكن تحقيق ذلك خلال ثلاثة عقود. وفقا لدراسة قام بها فريق باحثين في جامعة ستانفورد الأمريكية يمكن تحقيق الانتقال الكامل إلى الطاقة المتجددة في جميع الأغراض في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2050-2055، ويمكن تحقيق الإنتقال في 139 دولة بحلول منتصف القرن. لكن هناك عقبات سياسية واقتصادية هائلة تمنع هذا التحول في ميزان الطاقة. مصالح الشركات والدول المنتجة للنفط والفحم والغاز. 

حجم صناعة الوقود الأحفوري

حجم صناعة الوقود الأحفوري محير للعقل، يزيد حجم الإستثمارات فيه على أي صناعة أخرى، تبلغ القيمة الإجمالية لمشروعات الوقود الأحفوري الحالي والبنية التحتية للطاقة النووية 15 تريليون دولار- إلى 20 تريليون دولار، وتحقق شركات النفط والغاز عشرات المليارات من الأرباح كل عام، لحل أزمة المناخ، نحتاج إلى إغلاقها فورا، والاستثمار في أنظمة الطاقة المتجددة، لكن من الواضح أن من يمتلكون النفط والفحم والغاز، ومن يستفيدون من هذا النظام، لن يسمحوا لهذا التحول الكبير أن يحدث، دون معركة كبرى. 

صناعة الوقود الأحفري

يتطلب الحد من الانبعاثات تقليص حجم الاقتصاد العالمي، وهذا ضد الطريقة التي يتم بها تنظيم الاقتصاد الذي يقوم على الإنتاج من أجل التبادل، وليس الإنتاج من أجل الاستخدام. مقياس النجاح في السوق هو النمو والتراكم، وإذا حاول أي مسؤول في الشركة مخالفة هذا الاتجاه سيتم فصله فورا أو ستتوقف الشركة عن العمل. يفرض النظام على الشركات النمو والتركيز على المكاسب السريعة قصيرة الأجل، وتجاهل الآثار بعيدة المدى للإنتاج، خصوصا عواقبه على البيئة الطبيعية. النمو مدمج في شفرة النظام، لكن النمو اللامحدود مستحيل على كوكب محدود الموارد، العمليات الضرورية للحفاظ على النظام، تضعه على خلاف، وأحيانا في تناقض، مع العالم الطبيعي. وهنا يكمن عدم التوافق، بين الدورات الزمنية القصيرة للأسواق والأنظمة السياسية المرتبطة بها، والدورات الزمنية الأطول التي يحتاجها نظام الأرض لاستيعاب النشاط البشري. 

أزمة المناخ ليس سببها أن الأسواق لا تعمل بشكل جيد، بل سببها الأساسي هو أن السوق تعمل، وبشكل جيد للغاية، في تسريع دورات الطاقة والمواد العالمية. كانت شركات النفط، مثل إكسون وشل، على علم بخطر الاحتباس الحراري منذ بداية السبعينات في القرن الماضي، لكنهم أخفوا ذلك عن الناس، وواصلوا جني الأرباح من الوقود الأحفوري، وتبنوا نفس الاستراتيجية التي استخدمتها شركات التبغ لعقود: استراتيجية الإنكار، وفي حين تسببت شركات التبغ في وفاة الملايين من الناس بسبب الأمراض المرتبطة بالتدخين، تذهب شركات الوقود الأحفوري إلى أبعد من ذلك، وتعرض حياة ملايين الأنواع للخطر.

فشل مؤتمر المناخ السادس والعشرون، فهل ننتظر نجاح المؤتمر السابع والعشرين؟ هل ماتت اتفاقية باريس؟ وهل تفشل الأمم المتحدة في منع كارثة المناخ، والحيلولة دون تحولها إلى كارثة وجودية تهدد كل أشكال الحياة على كوكب الأرض، كما فشلت “عصبة الأمم” في منع الحرب العالمية الثانية؟