بات الحديث عن تشكيل قوة مشتركة على الحدود بين ليبيا وتشاد أمرا بالغ الأهمية والضرورة، أدركته القوى الإقليمية والدولية بشكل أكبر، مع الهجوم الأخير لقوات المتمردين التشاديين، الذي انطلق من قاعدة عسكرية في وسط ليبيا، على العاصمة نجامينا، وانتهى بمقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، أبريل الماضي. إذ إن البلدين يجمعهما تاريخ مشترك ومتداخل للصراع، واستخدام المليشيات العابرة للحدود، بشكل يجعل الشمال التشادي والجنوب الليبي بمثابة بؤرة لتصدير الإرهاب، وكرة لهب تهدد الجميع، تخشاها دول الجوار، قبل القوى الدولية صاحبة النفوذ في أفريقيا.

ليبيا – تشاد.. تدخل حكومي ومرتزقةوإخوان في الحرب الأهلية

مع بداية الثورة الليبية وقبل سقوط القذافي، استعان الأخير بالميليشيات التشادية. وكانت متمركزة قبل سنوات في الجنوب الليبي، لمقاتلة الثوار الذين سلحهم حلف الناتو وقوى إقليمية ودولية أخرى. ورغم عدم قدرة هؤلاء على إنقاذ نظام القذافي من الانهيار، إلا أن دورهم لم ينته بسقوطه. بل استمرت تحالفاتهم تنتقل من طرف لآخر في الحرب الأهلية التي أعقبت سقوط النظام.

وفي عام 2019 بعد فرض الجيش الليبي حظر الطيران فوق البلاد، سعت قبائل «التبو»، التي تسكن جنوب ليبيا، ولها امتدادات داخل تشاد، في الاستعانة بالميليشيات التشادية. كان ذلك بغرض السيطرة على حقلي نفط «الشرارة والفيل». حيث رُصدت عشرات السيارات الحديثة، تعمل على نقل المقاتلين المسلحين نحو الجنوب الليبي.

وقتها، استطاع الجيش الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر، وبدعم من مقاتلات «الرافال» الفرنسية، من وقف تقدم تلك الميليشيات، ثم السيطرة على الجنوب. قبل أن يتوجه غربًا لقتال حكومة «السراج» السابقة المدعومة من تركيا. ثم توقفت مسيرة تقدمه، وأعلن وقف إطلاق النار بعد التفاهم «المصري-التركي»، على الحفاظ على خطوط المواجهة عند حد مدينة سرت.

يبلغ عدد المقاتلين التشاديين المتمركزين في جنوب ليبيا الآن 25 ألفًا. وهم يشنون من هناك حرب عصابات على النظام الحاكم في تشاد. وقد نجحوا أبريل الماضي في قتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، الذي استمر في الحكم لأكثر من 30 عامًا.

تعد جبهة «التناوب والوفاق» أقوى الفصائل التشادية المسلحة المتمركزة في جنوب ليبيا. ولديها أكثر القادة نفوذًا بين الميليشيات التشادية؛ «لتيمان أرتيمي»، المقيم في قطر، ويحظى بدعم جماعة الإخوان. وقد اُستخدم في السابق لمساندة الميليشيات التابعة لها خلال الحرب الأهلية في ليبيا.

ليبيا – تشاد.. تاريخ الصراع من الحرب إلى دعم التمرد

خاضت ليبيا وتشاد أربع حروب بين عامي 1978 و1987. ذلك بسبب طموح القذافي في السيطرة على إقليم «أوزو» شمالي تشاد، والذي ادعى أنه جزءًا من ليبيا، وفقًا للاتفاقية الإيطالية الفرنسية الموقعة عام 1935. ورغم انتصارات قوات القذافي في البداية إلا أن الحرب انتهت بهزيمة مروعة لقواته بعد الدعم الفرنسي الكبير الذي قدمته لتشاد. وإن بقي إقليم «أوزو» تحت السيطرة الليبية حتى عام 1994، حين انسحبت منه تنفيذًا لقرارات الأمم المتحدة.

لم تكن الهزيمة نهاية للصراع بين البلدين. بل مجرد مرحلة، تبعها ترحيب القذافي باستضافة قوات المعارضة التشادية على الأراضي الليبية. ومن ثم استخدامها منصة للهجمات على قوات «إدريس ديبي». وظلت الحرب بين الطرفين بين كر وفر باستيلاء قوات المعارضة على شمالي تشاد. ثم طردها منه حتى كانت النهاية المفاجئة بمقتل «ديبي» متأثرًا بجروح أصيب بها خلال تفقده لقواته شمالي تشاد.

 

تستخدم عصابات التهريب ممرات جغرافية معروفة لتجميع المهاجرين من البلدان الستة التي تحيط بليبيا.
تستخدم عصابات التهريب ممرات جغرافية معروفة لتجميع المهاجرين من البلدان الستة التي تحيط بليبيا

التداخل الإثني بين سكان جنوب ليبيا وشمال تشاد

تشكل مناطق أوزو جنوب ليبيا وجبال تيبستي شمالي تشاد ساحة واسعة للاضطرابات، ظلت أغلب الوقت خارج سيطرة نظم الحكم في البلدين. وتسكن المنطقة قبائل «التبو» الأفريقية المسلمة. وهي تعتبر نفسها أقلية أفريقية «مضطهدة» من الأغلبية العربية شمالي ليبيا، وأغلبية مسلمة مستبعدة من حكم تشاد لصالح الأقلية المسيحية.

ويشكل المسلمون نسبة تقدر بنحو 53% والمسيحيون نسبة 39%. بينما الديانات الأفريقية تشكل النسبة الباقية من سكان تشاد.

تهريب المهاجرين عبر ممر ليبيا – تشاد – البحر المتوسط

يعتبر ممر تشاد – ليبيا ثم إلى البحر المتوسط، أشهر ممرات تهريب البشر نحو شواطئ جنوب أوروبا. بسبب حالة الفوضى التي تعيشها كل من ليبيا وتشاد. حيث يأتي الكثير من المهاجرين للعمل كمرتزقة أولاً، لصالح الأطراف المتقاتلة في ليبيا. أو للعمل لحساب الميليشيات التشادية المعارضة جنوبي ليبيا.

وتستخدم عصابات التهريب ممرات جغرافية معروفة لتجميع المهاجرين من البلدان الستة التي تحيط بليبيا. وتمر كلها عبر تشاد إلى جنوبي ليبيا ثم إلى الشمال. وهي تستغل حالة الفوضى في البلاد، ويمر معها أيضًا الكثير من الأسلحة.

كل مسارات التهريب تمر بمدينة «الكفرة» جنوبي ليبيا. ويتولى أفراد من قبيلة التبو تسليم المهاجرين على الحدود التشادية ونقلهم إلى الكفرة. وتجني عصابات التهريب أرباحًا طائلة منذ لك. حيث يتراوح سعر عملية نقل المهاجر الواحد بين 2000 و5000 دولار للوصول إلى شمال ليبيا.

الجنوب الليبي مقر عمليات ضد الحكم التشادي

تنشط في الجنوب الليبي خمس حركات مسلحة من المعارضة التشادية. ويقدر عدد أفراد تلك الحركات بنحو 25 ألف مسلح، وفقًا لتقديرات «باهيمي باداكي» رئيس الحكومة الانتقالية في تشاد. وهي تتمركز بالقرب من مدن سبها ومرزق وأم الأرانب في جنوب غرب ليبيا.

يغيب هذا الملف تمامًا عن أجندة الوفاق السياسي الذي جمع الفرقاء مؤخرًا في ليبيا، وتم توقيعه في نوفمبر من العام الماضي. وقد أسفر عن تشكيل حكومة انتقالية تتولي تنظيم الانتخابات في ديسمبر المقبل. بينما لا يعمل على هذا الملف سوى القوات الفرنسية المتمركزة في تشاد. بسبب قيام تلك الميليشيات بدعم وتهريب السلاح للحركات الإسلامية الجهادية المنتشرة عبر دول الساحل الصحراوي الأفريقية، التي تتمتع فرنسا بنفوذ كبير فيها.

وتعبث تلك الجماعات بالأمن الليبي عبر بسط نفوذها على مساحات واسعة من جنوب البلاد. كما شاركت في السابق في عمليات عسكرية لحساب الميليشيات المسلحة المقربة من الإخوان. وآخرها معركة الهجوم على الهلال النفطي عام 2017 قبل أن تتراجع تحت ضغط تقدم قوات الجيش الليبي بقيادة المشير حفتر.

آفاق المستقبل بعد مقتل ديبي وتشكيل حكومة الوحدة الليبية

مثل مقتل إدريس ديبي في أبريل الماضي انتصارًا كبيرًا لحركات التمرد التشادية. وهي حادثة وشت بالنفوذ الكبير لها في الجنوب الليبي والشمال التشادي. ما يهدد عملية الاستقرار في ليبيا، الجارية الآن بدعم الأطراف الدولية والأمم المتحدة.

هذا الملف إذا لم تتم معالجته، سواءً بالوساطة للمصالحة بين المعارضة والحكومة التشادية ومغادرة المسلحين إلى بلدانهم، أو عبر تنسيق عسكري دولي مشترك يجمع الحكومات الجديدة في ليبيا وتشاد لتطهير مناطق الجنوب الليبي وشمال تشاد من المسلحين، سيظل هذا الوجود التشادي بليبيا بؤرة لتصدير الأزمات. ليس فقط إلى ليبيا بل إلى كل البلدان المحيطة، ومنها مصر والسودان.

بدأت بالفعل بعض الخطوات في اتجاه عمل مشترك يجمع أعداء الأمس في ليبيا وتشاد. وذلك بدعوة من محمد إدريس ديبي رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد، الذي اقترح تشكيل قوات عسكرية مشتركة من ليبيا وتشاد والسودان والنيجر، للسيطرة على المنطقة الحدودية بين تلك البلدان والقضاء على الميليشيات المسلحة المتمركزة فيها.

وتجمع تلك الدول الأربع بالفعل اتفاقية «تعاون أمني» لمكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر، تم توقيعها عام 2018. لكن لم يتم تفعيلها بالعمل المشترك منذ ذلك التاريخ، بسبب عدم الاستقرار الذي اجتاح السودان وليبيا وتشاد. وقد نجحت خلال تلك الفترة الميليشيات المسلحة في ترسيخ وجودها العسكري في جنوب ليبيا، واستخدمته كممر للجريمة وتهريب المرتزقة والسلاح والاتجار بالبشر.

خلال استقباله نائب رئيس المجلس الانتقالي الليبي في العاصمة التشادية نجامينا في أغسطس الماضي، صرح محمد إدريس ديبي بأن «تشاد تؤيّد مبادرة إعادة إحياء الاتّفاق الرباعي بين ليبيا والسودان والنيجر وتشاد، من خلال تشكيل قوة مشتركة على طول حدودها». وأضاف أن «بلادنا ملتزمة بقوة أداء دورها في مساعدة الشعب الليبي، لكن في المقابل، فإنّ تشاد تأمل بقوة ألا يزعزع المرتزقة والعصابات المسلّحة التي تجوب ليبيا استقرار الدول المجاورة لها».

تشاد أحد أفقر دول العالم بحسب تصنيف برنامج الأمم المتحدة للتنمية. لكنها تمتلك ثروات يمكن أن تنقلها إلى مصاف الدول المتوسطة في أفريقيا، حيث تمتلك عاشر أكبر احتياطي للنفط في أفريقيا. كما أنها ضمن قائمة الدول العشر الأغنى بالماشية عالميًا.

كما تملك احتياطيات كبيرة من الذهب، وتقع أغلب مناجمها في منطقة شمال تشاد التي تعد بؤرة الاضطراب في البلاد، وربما يكون ذلك بسبب تمركز أغلب ثروات البلاد بها.