من السنغال، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إن واشنطن تستثمر في أفريقيا دون فرض ديون لا يمكن تحملها. جملة اختصرت أغلب أبعاد الزيارة الأولى لرئيس الدبلوماسية الأمريكية إلى أفريقيا جنوب الصحراء، باعتبارها تعريضًا بالمنافس الصيني الذي يغرق إفريقا بالديون.

عين على الصين

أقرضت الصين أكثر من 30 مليار دولار لدول الجنوب الأفريقي منذ الأزمة المالية العالمية، وفقًا لجامعة جونز هوبكنز. كما أن بكين تمتلك أكثر من 20% من قروض 10 دول أفريقية، في الوقت الذي تدرس مقايضتها بالأسهم، وهو ما بات يعرف بـ”دبلوماسية الديون“، للسيطرة على الدول.

خلال الزيارة أيضًا، عرّض بلينكن بالمنافس الصيني، عندما أعلن أن الرئيس جو بايدن ينوي استضافة قمة لقادة أفريقيا لتعزيز الشراكة. وهو ما يبدو يضاهي سياسة مماثلة تتبعها الصين عبر “منتدى التعاون” الذي يفضل الكثير من القادة الأفارقة حضوره على حضور الجمعية العامة للأمم المتحدة (أكبر قمة في العالم). وفي آخر انعقاد للمنتدى عام 2018، حضر 51 رئيسًا أفريقيًا قمة FOCAC مقارنة بـ 27 فقط في الجمعية العامة العام الجاري.

بخلاف الشق الاقتصادي، فإن زيارة بلينكن، ألقت برسائل سياسية، لملء مساحة فراغ شغلتها الصين وتركيا ودول غربية في القارة السمراء. وهنا كان الحديث مكثفًا عن الأزمة الإثيوبية، والتوترات الأمنية في أفريقيا جنوب الصحراء. وهو ما يمكن فهمه ضمن حزمة من أبعاد أول جولة أفريقية لوزير بايدن التي لم تغفل قضية المناخ.

بلينكن في العاصمة النيجيرية أبوجا ضمن أول زيارة له إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى
بلينكن في العاصمة النيجيرية أبوجا ضمن أول زيارة له إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى

أبعاد الزيارة

وزار بلينكن ثلاث دول يمكن اعتبارها ركيزة أساسية في استراتيجية بايدن الأفريقية. الأولى عندما حطت رحاله في كينيا، وهي الدولة الحليفة التقليدية للولايات المتحدة الأمريكية. في محاولة لاستخلاصها من أنياب التنين الصيني. ثم بعدها إلى نيجيريا، وهي الرهان الرئيسي لأيّ استراتيجية غربية في القارة السمراء، نظرًا كونها تضم أكبر عدد سكان. وانتهاء بالسنغال، وهي النموذج الأكثر استقرارًا في القارة، ويمكن أن تراهن عليه الدول الغربية لاعتباره قاعدة انطلاق لملفات الدول المجاورة.

تدارك الأخطاء

من العاصمة النيجيرية أبوجا قال بلينكن: “عوملت دول أفريقيا مرارًا بوصفها شركاء صغارًا أو أسوأ، لا بوصفها شركاء متساوين… نريد أن نجعل شراكتكم معنا أقوى”. كما ذكّر بأن القارة الإفريقية تستحوذ على أقل من 2% من إجمالي التجارة الأمريكية مع العالم.

هكذا يبدو أن إدارة البيت الأبيض تحاول تدارك الأخطاء، بالتزامن مع تغيرات إقليمية ودولية. في ظل السقوط بأفغانستان، إلى جانب الصعود الروسي- الصيني وحضور بعض القوى الإقليمية التي تحاول استغلال الفراغ الاستراتيجي والأمني الذي خلفته الولايات المتحدة على الساحة الأفريقية.

لذلك حاول بلينكن، رسم خطٍ أمريكي جديد، معاكسًا للسياسة التي تركها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي كان أول زعيم للبيت الأبيض لا يزور القارة السمراء منذ عقود. هنا حملت الزيارة أبعادًا لا تنحصر في السياسة والاقتصاد فقط. إذ لم يغفل رئيس الدبولوماسية الأمريكية مسألة وباء كورونا، في محاولة أيضًا لتقليل الاعتماد على الصين في توفير اللقاحات للقارة.

اقرأ أيضًا| الغرب والصين في أفريقيا.. حرب باردة أم إسقاط في “فخ الديون”؟

كل هذه الملفات مجتمعة وغيرها غير المطروح رسميًا، والتي يمكن أن يكون من بينها صفقة السلاح إلى نيجيريا. تجعل صعوبة في إسناد الزيارة إلى بُعد واحد محدد، ويلصقها بمجمل الأحداث الدائرة على الساحة الدولية والإقليمية. إضافة إلى الإحباط الذي أصاب شركاء الولايات المتحدة، فضلاً عن هشاشة السلطة في نطاقات أفريقية واسعة.

وزير الخارجية الأمريكية التقى رئيس السنغال
وزير الخارجية الأمريكية التقى رئيس السنغال

استعادة الدور الريادي

لا تزال الإدارة الأمريكية تجني ما خلفته حقبة دونالد ترامب من آثار سلبية؛ نتيجة مواقفه العدائية تجاه الدول الأفريقية. من حيث منع دخول مواطني بعض الدول الأفريقية الأراضي الأمريكية. وكذلك قرار سحب القوات الأمريكية من الصومال، باعتبار أن وجودها يمثل استنزافًا للموارد الأمريكية في حروب لا طائل منها. وقد اتخذت إدارة بايدن موقفا مشابه، وأكملت سحب قواتها من بعض الدول لاسيما الخروج من أفغانستان. وهو ما صنفه البعض بمثابة رجوع لسياسة العزلة والانغلاق على الشئون الداخلية. ما أعطى إشارة لمختلف القوى للعب دور ريادي واسع في جميع أنحاء القارة.

إزاء ذلك، رفعت التحركات الخارجية لدول غربية لدى الدول الأفريقية من حجم الخطر أمام الإدارة الأمريكية، ما قد يهدد باقتراب ضياع نفوذ واشنطن التي بذلت سنوات في ترسيخه. ومن ثمّ فقدان الدور الريادي؛ ولذلك تسارع القيادة الأمريكية إلى لملمة أكثر قدر يمكن، وإعادة التأكيد على الحضور الأمريكي بالقارة.

تحجيم المنافسين

ربما لم يكن صادقًا من الناحية السياسية، عندما قال بلينكن إن “الولايات المتحدة لا تريد أن تقيد شراكاتكم مع الدول الأخرى… ولا نريد أن نجعلكم تختارون”. ذلك أن التلميح إلى مجرد التخيير نوه انشغال بالآخر في المقام الأول.

أدركت واشنطن أن عليها التحرك سريعًا، في سباق مع القوى التي أحدثت اختراقًا وتغلغلاً غير عادي في القارة السمراء. وهي روسيا والصين وتركيا على وجه التحديد، باعتبارهم منافسون لا يُتوقع أي تعاون أمريكي معهم في إفريقيا.

وعقدت روسيا “قمة سوتشي” في عام 2019 لتكون خارطة الطريق في العلاقات الروسية الأفريقية. ويمثل الدور العسكري مركز الاستراتيجية الروسية تجاه القارة السمراء، حيث تشكل حصة الأسلحة الروسية 49% من إجمالي السوق الأفريقي، أي أكبر مورد للأسلحة إلى أفريقيا، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة وكذلك فرنسا.

وفي أغسطس الماضي عقدت المنتدى العسكري التقني الدولي الروسي بحضور الدول الأفريقية بهدف إبرام مزيد من صفقات التدريب والتعاون العسكري. كما نشرت عناصر فاغنر في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. وأيضا شاركوا في موزمبيق ضد داعش بوسط أفريقيا. ومؤخرًا تجرى مباحثات بشأن إرسال ما يزيد على ألف جندي إلى مالي كخطوة لصقل الدور الروسي في الساحل، فضلا عن مباحثات القاعدة العسكرية الروسية في السودان.

أما العملاق الصيني، فقد انطلقت بكافة أدواتها الاقتصادية نحو القارة، حيث تعتبر الشريك الاقتصادي الأول مع دول القارة بحجم ميزان تجاري يصل إلى 200 مليار دولار. إلى جانب “منتدى التعاون الصيني- الأفريقي” الذي يضم نحو 53 دول أفريقية. وكذلك القاعدة الصينية في جيبوتي لحماية استثماراتها في المنطقة، وعلى رأسها مشروع الحزام والطريق. وترتكز الصين على قاعدة من مشاريع البنية التحتية بإجمالي حصة مخصصة 100.8 مليار دولار. حيث فازت شركات البناء الصينية بما يقرب من نصف جميع عقود البناء في جميع أنحاء القارة.

اقرأ أيضًا| “منتدى التعاون”.. سلاح الصين الناعم لاختراق أفريقيا

كذلك الدور التركي المتنامي في أفريقيا لأبعاد تتعلق بالمنافسة على الزعامة الدينية في الدول الإسلامية. وكذلك توسيع النفوذ الاستراتيجي، حيث يحافظ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارته الأخيرة لأفريقيا في نهاية أكتوبر على المركز الأول من حيث عدد الزيارات التي قام بها رئيس دولة إلى أفريقيا بإجمالي 14 زيارة خلال العقدين. والتي أثمرت على عدد من الصفقات التجارية مع أنغولا وتوغو ونيجيريا.

استجابة لجرس الإنذار الأمني

تعاني الدول الأفريقية في الوقت الراهن أخطارًا أمنية مركبة، إذ اتسعت دائرة الصراعات في النطاق الشرقي. كما في الصومال التي تعاني أزمة دستورية جاوزت العام، وحالت دون انتخاب برلمان أو رئيس للدولة. وإثيوبيا التي دخلت دوامة من الحرب الأهلية منذ نوفمبر الماضي على وقع خلافات بين رئيس الحكومة آبي أحمد وقوات التيجراي. وتضاف إليهما السودان مؤخرًا، التي لا تزال تحاول معالجة أحداث 2018، حتى وقعت في توتر آخر.

تبدو الملامح العامة في المشهد الأفريقي غير مطمئنة، بما يشكل تهديدًا كبيرًا على المصالح الأمريكية والمنطقة بأكملها. وهو ما استدعى تحرك أمريكي عاجل، وذلك بالتوازي مع زيارة المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي “جيف فيلتمان” إلى أثيوبيا وكينيا.

اقرأ أيضًا| تداعيات مقتل قادة الإرهاب على المشهد الأمني في أفريقيا

تحسين السمعة

تسبب السقوط المدوي للسلطة في أفغانستان عقب انسحاب القوات الأمريكية في تغيير الديناميكيات السياسية والعسكرية الأساسية. إذ تعرض الأمريكيين لإدانة الدولية، نظرًا لوقوع السلطة في يد عناصر طالبان. ووصفته مختلف القوى الدولية بأنه بمثابة فشل أمريكي أمام الحركات الإرهابية وانتصار “للجهادية العالمية”.

ورفع هذه الانسحاب حالة القلق لدى الشركاء الآخرين للولايات المتحدة الأمريكية، مثل دول الخليج وأوكرانيا، وأيضا تايوان. مما قد يتسبب في قلب الموازيين أمام المصالح الأمريكية بإدارة الوجه إلى حليف غربي آخر، وهو ما تحاول واشنطن تداركه، من خلال بث رسائل طمأنة للشركاء. لذلك حاولت الولايات المتحدة تحسين صورتها من خلال إنشاء قوة الردع 59 في الخليج، والتحركات الأمريكية لحل الأزمة الإثيوبية. ثم أخيرًا زيارة بلينكن الأخيرة لجنوب الصحراء.

ما الفرص المتوقعة؟

أمام هذه التحركات، المليئة بالتعهدات والطمأنة فإن واشنطن تراهن على فرص في عدة اتجاهات، سواء سياسية أو عسكرية أو اقتصادية. لكنها في كل الأحوال تبقى رهينة نجاح الولايات المتحدة في حلحلة أيٍّ من الأزمات القائمة، ومعها تستعيد مركز ثقلها في القاهرة.

استعادة العلاقات مع الحلفاء الدوليين

تتسم العلاقة بين الولايات المتحدة وكينيا بدرجة عالية من الخصوصية. إذ تعد الدولة الأفريقية الأولى التي عقدت معها واشنطن اتفاقية التجارة الحرة في ديسمبر العام المنقضي. كما كان الرئيس “أوهورو كينياتا” من أوائل الزعماء الذين استضافتهم واشنطن عقب وصول بايدن إلى الحكم. وهي كذلك عضو في مجلس الأمن، كما شاركت في بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال. وذلك يعوَّل عليها في ممارسة دور فعال من أجل إعادة ضبط الأمن في المنطقة، خاصة الصومال وأديس أبابا.

لذلك تمثل زيارة بلينكن فرصة أمام الإدارة الأمريكية لإعادة ترسيخ وجودها كلاعب رئيس لحل النزاعات. لاسيما رفقة السنغال، التي أسند إليها رئاسة الاتحاد الأفريقي لعام 2022. وأيضا الدور النيجيري في قضايا الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب في منطقة غرب القارة.

اقرأ أيضًا| تغلغل تركيا الناعم في أفريقيا.. مكاسب اقتصادية واستراتيجية

مصالح اقتصادية

تشكل الاستثمارات الصينية تحديًا رئيسيًا أمام الطموحات الأمريكية. وهو ما دفع الولايات المتحدة خلال قمة مجموعة السبع الأخيرة G7 اقتراح مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل” (B3W). ويتطلب إرساؤها توطيد العلاقات مع الحلفاء التقليديين وبناء شراكات الجديدة لإزاحة النفوذ الصيني. إذ تستهدف استثمار 40 مليار دولار بحلول عام 2035.

لذلك انطلقت واشنطن في سلسلة زيارات بقيادة نائب مستشار الأمن القومي داليب سينج إلى غانا والسنغال. وكذلك زيارة إلى كولومبيا والإكوادور وبنما في إطار المشروع. وبلغت أصداؤه مسامع الخارجية الصينية التي أعلنت أنه لن يضر مصالحها.

الأمن-والمناخ هيمنا على جولة بلينكن إلى أفريقيا
الأمن-والمناخ هيمنا على جولة بلينكن إلى أفريقيا

الملف المناخي

وتمثل قضية المناخ أحد المنافذ الأمريكية إلى الدول التابعة، إذ تحاول واشنطن توظيف تدخلها في بعض الدول بمزاعم الحفاظ على البيئة والحد من التغير المناخي. وتأتي تلك الزيارة بعد أيام قليلة من قمة المناخ في غلاسكو “كوب 26” التي تعهدت فيها الدول المشاركة بتعزيز التعاون في مجال الطاقة النظيفة، وحماية البيئة. وفي السياق نفسه تعد القارة الأفريقية من أكثر المناطق المتضررة من التغيرات المناخية لاسيما موجات الجفاف. وبالتالي حملات النزوح الجماعي والصراعات المسلحة على الموارد، لذلك يأتي تعزيز التعاون في قضية المناخ بأولويات الزيارة الأمريكية.