لا تؤثر التوترات الجيوسياسية بين مصر وتركيا، على حجم التجارة بينهما. بل على العكس تظهر الأرقام ازديادًا في مجموع التبادلات التجارية بين البلدَين إلى ثلاثة أضعاف تقريبًا بين العامين 2007 و2020. وذلك من 4.42 مليار دولار إلى 11.14 مليارًا. وهو أمر يتناقض بشكل صارخ مع تجارب سابقة غالبًا ما قوّضت فيها النزاعات السياسية العلاقات الاقتصادية، ويثبت أن اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين أكبر من أن تُلغى، وفق ما يشير إليه تقرير حديث نُشر بمركز «مالكوم كير-كارنيجي».

اتفاقية التجارة الحرة.. حجم التبادل بين مصر وتركيا

تكشف أرقام موقع «Trading Economics»، أنه خلال الفترة الممتدة بين 2005 و2012، شكّلت الصادرات المصرية إلى تركيا 3.54% من مجموع الصادرات المصرية. وقد تضاعفت هذه النسبة تقريبًا لتبلغ 6.2% في فترة 2013-2020. وبالمثل، ارتفعت الصادرات التركية إلى مصر. وذلك من معدّل 3.37% من مجموع الواردات المصرية في فترة 2005-2012 إلى 4.47% في فترة 2013-2020.

وفي العام 2020، احتلّت تركيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول المستوردة للصادرات المصرية. كما حققت المرتبة الخامسة في قائمة الدول المصدّرة إلى مصر. بينما في السنة ذاتها، احتلّت مصر المرتبة الرابعة عشرة في قائمة الدول المستوردة للسلع التركية.

اتفاقية التجارة الحرة أكبر من أن تُلغى

في يناير 2020، طالبت لجنة الصناعة بمجلس النواب المصري بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع تركيا. بسبب «ضررها على المنتجات الوطنية».

حينها، أشارت اللجنة إلى أن الاتفاقية تسهم في إغراق السوق المصرية بالمنتجات التركية. ومنها منتجات غير مطابقة للمواصفات. كما أشار رئيسها محمد فرج عامر، إلى عزوف المستهلك المصري عن المنتجات التركية «نتيجة المواقف العدائية المتصاعدة من جانب تركيا تجاه مصر».

ومع ذلك، فإن تقرير «كارنيجي»، يرى أن هذه الاتفاقية أكبر من أن تلغى. وأن العامل الأساسي الذي يحميها هو التحسن النسبي في موقع مصر التجاري مقابل تركيا بعد العام 2013. ويضاف إلى ذلك بنية التجارة بين البلدَين، والتي تستند إلى تبادل السلع المصنّعة.

فبينما تسجّل تركيا فائضًا في ميزانها التجاري مع مصر منذ العام 2007، تراجع العجز التجاري المصري بشكل كبير بعد العام 2013. وفيما بلغ معدل نمو العجز التجاري نسبة مرتفعة تعادل 252% خلال الفترة ما بين 2008 و2012، تراجع إلى 84% بين العامَين 2013 و2020، وفق التقرير.

يُعزى سبب ذلك في الدرجة الأولى إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري في نوفمبر 2016، إثر قرار تعويم العملة بموجب شروط الاتفاق الذي أبرمته مصر مع صندوق النقد الدولي. وقد أدى ذلك إلى تقلّص حجم الصادرات التركية إلى مصر بنسبة 17% بين العامَين 2017 و2020. إضافةً إلى ازدياد حجم الصادرات المصرية، إذ باتت أرخص ثمنًا نسبيًا. لكن منذ العام 2018، عادت الواردات التركية إلى مصر لترتفع من جديد بسبب استقرار الجنيه المصري النسبي وضعف الليرة التركية المتزايد.

تنامي حجم الصادرات المصرية حافظ على الاتفاقية

منذ العام 2007، ارتفعت الصادرات المصرية إلى تركيا بمعدل 10% سنويًا، مقارنةً مع نمو سنوي بنسبة 4% في الصادرات التركية إلى مصر. علاوةً على ذلك، فاق ارتفاع حجم الصادرات المصرية خلال تلك الفترة معدل نمو إجمالي التبادلات التجارية بين البلدَين. ما يشير إلى أن موقع مصر شهد نسبيًا تحسُّنًا مستمرًا على الرغم من العجز الكبير الذي سجلّه ميزانها التجاري في بادئ الأمر لصالح تركيا.

وبين العامَين 2016 و2020، تنامى حجم الصادرات المصرية إلى تركيا بمعدل سنوي بلغ 7%، مقارنةً مع الواردات التركية إلى مصر التي ارتفعت بمعدل 2%. وقد شكّل ذلك حافزًا للنظام المصري كي يحافظ على اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا.

إضافةً إلى ذلك، فإن ثمّة سبب آخر دفع مصر إلى الحفاظ على اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، وفق التقرير. وهو تركيبة صادراتها إلى أنقرة. ففي فترة لاحقة من العام 2020، شكّلت السلع المصنّعة ما نسبته 59% من إجمالي التبادلات التجارية. وباتت تركيا وجهة أساسية لصادرات مصر من غير الوقود.

طبيعة التبادل التجاري بين مصر وتركيا

إضافةً إلى حجم الصادرات، يذكر التقرير أن تركيبة الصادرات المصرية إلى تركيا تسهم في الحفاظ على اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين. فالجزء الأكبر من التبادلات التجارية بين القاهرة وأنقرة يشمل سلعًا مصنّعة. ويتضمن قسم كبير من التبادلات التجارية المصرية التركية عناصر مستخدمة في إنتاج سلع أخرى، كالمواد الخام والسلع نصف المصنّعة أو الوسيطة والسلع الإنتاجية.

في العام 2019 مثلًا، شكّل القطن والخيوط والألياف الأساسية والمواد الوسيطة المستخدمة في صناعة الملابس في تركيا 20% تقريبًا من صادرات مصر إليها. وفي العام نفسه، شكّلت المواد البلاستيكية حوالى 22% من إجمالي الصادرات المصرية. في المقابل، شمل جزء كبير من واردات مصر من تركيا الحديد والصلب. فضلاً عن منتجات الحديد كالألواح والأسافين والشفرات، لتشكّل 19% من الواردات. أما المواد البتروكيميائية فشكّلت 15% من الواردات.

أيضًا، ظهرت المواد البلاستيكية في العام 2020 على قائمة الصادرات والواردات لكلا البلدين. وهي تشمل البوليمرات والمواد المطاطية وخلايا البطاريات. وقد بلغت قيمة صادرات مصر إلى تركيا من أنواع معينة من المواد البلاستيكية 348.95 مليون دولار. في حين استوردت أنواعًا أخرى بقيمة تصل إلى 129.76 مليون دولار. والأبرز في ذلك العام كان حجم التبادلات التجارية في المعدات الكهربائية والإلكترونية، ومن ضمنها الآلات وقطع الغيار وبعض المنتجات العالية التقنية.

في هذا الإطار، يشير التقرير إلى أن أسعار الصادرات المصرية من هذه السلع بالدولار الأميركي متساوية تقريبًا مع أسعار المعدات الكهربائية والإلكترونية المستوردة من تركيا، ما يُعتبر مظهرًا آخر من مظاهر التبادل التجاري داخل القطاع الصناعي الواحد.

ويتطلّب هذا النوع من التبادلات التجارية مستوى من التصنيع والتطوّر بين الشركاء التجاريين، غير متوافر في تصدير المواد الخام. كما أنه يفسح المجال أمام الشركاء لرفع مستوى صادراتهم إلى منافذ ذات قيمة أعلى، من خلال إنشاء سلاسل إمداد، ونقل المعارف التكنولوجية والمهارات، والانخراط في أسواق التصدير. وينطبق هذا بشكل خاص على الاقتصاد المصري، الذي لا يُعدّ صناعيًا بقدر الاقتصاد التركي.

النموذج الخليجي.. التبادل الإقليمي بين رأس المال والعمالة

يذكر تقرير «كارنيجي» أن التكامل الاقتصادي عبر التجارة ينطوي على إمكانات تنموية أكبر من عمليات التبادل بين رأس المال والعمالة التي طبعت تاريخيًا العلاقات الاقتصادية بين دول الشرق الأوسط منذ الصدمة النفطية الأولى في العام 1973. إذ اعتمد هذا النوع من التبادلات على نقل فائض العمالة من الدول المكتظّة بالسكان والمفتقرة إلى رأس المال إلى الدول المنتجة للنفط الغنية برأس المال إنما المفتقرة إلى السكان، مثل دول الخليج، إضافةً إلى ليبيا حتى العام 2011.

وهذا النهج لم يؤدِّ إلى إنشاء سلاسل قيمة إقليمية أو إلى تنويع الاقتصاد من خلال التجارة والاستثمار. بل على العكس أعاد في المقام الأول توزيع الريع النفطي على المستوى الإقليمي. وبالتالي نقل المشاكل التي تشوب الاقتصاد الريعي إلى الدول الفقيرة بالنفط.

أيضًا، تتمتّع الترتيبات التجارية بقدرة أكبر على الصمود أمام رياح التشنّجات والتنافسات السياسية. وذلك مقارنةً مع الأشكال الأكثر تقليديةً على غرار التبادل الإقليمي بين رأس المال والعمالة. ففي السابق، كان من الأسهل على الدول الغنية برأس المال، حجب المساعدات والقروض والاستثمارات عن الدول الأخرى في فترات النزاع السياسي. أو حتى الحدّ من قدرة هذه الدول على دخول أسواق العمل خاصتها. ما أثّر بشكل سلبي على التحويلات التي يرسلها العمّال إلى بلدانهم الأفقر.

نموذج اتفاقية التجارة الحرة لا يزال محدودًا إقليميًا

يقول تقرير «كارنيجي» إنه بغضّ النظر عن النجاح الذي حققه النمط المصري التركي في الحفاظ على العلاقات التجارية وسط جوٍّ من التنافس السياسي، فقد يثبت هذا النموذج أنه أكثر تعقيدًا في أماكن أخرى من الشرق الأوسط. عمومًا. إذ يُعدّ التبادل بين رأس العمل والعمالة أكثر شيوعًا من التبادلات التجارية في مختلف أنحاء المنطقة. ذلك لأن مستوى قطاعاتها الصناعية متواضع.

لكن هذا لا يعني أن نمط التكامل الاقتصادي المصري التركي عبر حركة التجارة الحرة لا يخلو من القصور. إذ يذكر تقرير «كارنيجي» أن النموذج المصري التركي يبدو ناجحًا فقط مع الأشكال السطحية من التكامل الإقليمي. لأنه يستند إلى تحرير التجارة من خلال التخلي التدريجي عن الحواجز الجمركية وغير الجمركية. لكنه لا يرقى إلى تحقيق المواءمة التنظيمية لضمان التدفق الحر للاستثمارات والعمالة. فترتيبات التكامل السطحية تتطلّب امتناع الحكومات المتنافسة عن تعطيل الحركة التجارية القائمة وتدفق رؤوس الأموال. لكنها تفتقر إلى الفعالية لتعوّيلها فقط على عدم امتداد النزاع السياسي إلى المجال الاقتصادي.

في المقابل، تتطلب الأشكال الراسخة من التكامل الاقتصادي، مثل الاتحاد الأوروبي أو السوق المشتركة الجنوبية (المعروفة اختصارًا بـ”ميركوسور”) عمليات طويلة وشاقة تُعنى ببناء المؤسسات وتحقيق المواءمة التنظيمية. وهذه الإجراءات لا ينبغي أن تُصان من الخلافات فحسب. بل أن تنصّ الاتفاقيات السياسية على تنفيذها أيضًا. ونظرًا إلى احتدام التنافس الجيوسياسي بين الكثير من القوى الكبرى في الشرق الأوسط، على غرار مصر وإيران وإسرائيل وقطر والسعودية وتركيا والإمارات، فمن المستبعد أن يتم في وقت قريب إرساء القواعد المؤسساتية اللازمة لإقامة أشكال أعمق من التكامل بين مختلف الأطراف المتنافسة في المنطقة.