يجلس الخال فانيا على كرسيه، ضاغطًا بكف يده على جبهته، محاولًا أن يمنع رأسه من الانفجار دون جدوى. يضرب بقبضة يده على سطح مكتبه، ثم يبسط كفه فارغًا من كل شيء. يخاطب ابنة أخته الصغيرة سونيا: “أحس بعبء ثقيل يجثم على صدري يا طفلتي الصغيرة، آهًا لو تعلمين أي عبء ثقيل!”.

تدور الصغيرة “سونيا” حول كرسيه. تقف خلفه واضعة يديها على كتفيه. تنطق بحكمة تتجاوز سنوات عمرها: “وماذا تسطتيع أن تفعل!، لابد أن تواصل الحياة، سوف نواصل الحياة، سوف نواصل أيامًا طويلة تَتَابع في رتابة.. سنعاني في صبر، المحن القاسية التي يفرضها علينا القدر، سنعمل من أجل الآخرين، الآن، وفي شيخوختنا بلا رحمة.. وهناك وراء أسوار القبور سنقول كم قاسينا وكم بكينا وكم كانت حياتنا مريرة، وحين إذن، سوف يرحمنا الله..”.

يحتضنها الخال فانيا باكيًا. تقول سونيا: “خال، خالي الحبيب الطيب، لمَ تبك؟، أنت لم تعرف السعادة في حياتك، ولكن انتظر، انتظر يا خالي فانيا، سوف نستريح، سوف نعرف الراحة، سوف تستريح”. ينطلق الجمهور بالتصفيق ثم يسدل الستار.

بأداء رائع، غاية الانضباط والاتقان جسدت سهير البابلي دور “سونيا” في رائعة أنطوان تشيكوف “الخال فانيا”. وهي لا تزال في العشرينات من عمرها أمام عمالقة المسرح المصري آنذاك. عبد الله غيث “الخال فانيا” وسميحة أيوب “هيلينا” والممثل القدير حسن البارودي، على خشبة المسرح القومي في ستينيات القرن العشرين. للدرجة التي جعلت الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس يقول عنها بعد هذا الدور إنها: “الممثلة التي شقت طريقها بأظافرها”.

المسرح القومي.. البداية التراجيدية

أدت سهير البابلي خلال هذه الفترة عشرات الأدوار التراجيدية أمام كبار نجوم المسرح. منذ أن اجتذبها فتوح نشاطي إلى المسرح القومي، والذي حجزت مكانها فيه وسط هؤلاء العمالقة.

استطاعت انتزاع عدد من البطولات رغم المنافسة الكبيرة، منها دور “نبيلة” أمام الممثل الكبير حسن البارودي. وعبد الله غيث في مسرحية “القضية” تأليف لطفي الخولي وإخراج عبد الرحمن الزرقاني. ودور البطولة في المسرحية الممصرة “بيت من زجاج”.

رغم طبيعة الأدوار التراجيدية التي أدتها سهير البابلي على خشبة المسرح القومي. فقد كشفت سهير البابلي عن طاقة كوميدية جبارة، لم تكن قد أخذت الفرصة الكاملة للانطلاق بعد.

في عام 1967 اختارها جلال الشرقاوي لدور البطولة في رائعة نجيب سرور “آه يا ليل يا قمر” على مسرح الحكيم. وقد حققت المسرحية نجاحًا كبيرًا. يقول جلال الشرقاوي إن المسرحية كانت فرصة لسهير البابلي أن تصبح النجمة الوحيدة في مسرح الحكيم. لأنها كانت محاصرة في المسرح القومي بعدد كبير من الممثلات العظيمات فكانت تستطيع بالكاد أن تخطف بطولة كل فترة. أما بالنسبة له فكانت مكسبًا كبيرًا أدى إلى نجاح العمل.

مدرسة المشاغبين.. النقلة الكوميدية

في عام 1973 تنضم سهير البابلي إلى فرقة الفنانين المتحدين بعد تقديم استقالتها من المسرح القومي. لتقدم مع عادل إمام وسعيد صالح وحسن مصطفى والممثلين الشباب آنذاك أحمد زكي ويونس شلبي وهادي الجيار. ومن إخراج جلال الشرقاوي، مسرحية “مدرسة المشاغبين” والتي حققت نجاحًا كبيرًا.

مثلت “مدرسة المشاغبين” الانطلاقة الكوميدية الحقيقية لسهير البابلي. لتتربع بعد سنوات قليلة على عرش الكوميديا المسرحية النسائية وهو العرش الذي لم يسبقها إليه سوى الفنانة ماري منيب.

https://www.youtube.com/watch?v=yVrlen06rIs

في عام 1980 يختارها المخرج حسين كمال لبطولة المسرحية الكوميدية “ريا وسكينة” مع شادية وعبد المنعم مدبولي وأحمد بدير. بلغت سهير البابلي في دور “سكينة” قمة تألقها محققة جماهيرية كبيرة. فرددت الجماهير ولا زالت تردد “إفهاتها” في المسرحية خاصة المشاهد التي جمعتها بأحمد بدير. كما برعت في الأداء الغنائي خلال مشاهد المسرحية للدرجة التي جعلت الفنانة شادية تثني على غنائها. ساعدها في ذلك دراستها بمعهد الموسيقى في الخمسينيات إلى جانب دراستها بالمعهد العالي للفنون المسرحية.

المسرح السياسي

حملت سهير البابلي روحًا متمردة ومغامرة طوال مشوارها الفني. دفعتها في عام 1987 لخوض تجربة جديدة في لون من المسرح أُطلق عليه آنذاك المسرح السياسي.

يروي جلال الشرقاوي كيف جاءته في حماس مصطحبة الكاتبة نهاد جاد، وزوجها سمير سرحان. لتطلب منه إخراج عملًا مسرحيًا من تأليف نهاد جاد بعنوان “ع الرصيف”. وهو العمل الذي شاركها البطولة فيه الفنان حسن عابدين.

لمست “ع الرصيف” أوجاع الناس الذين عاشوا أحلامًا كبيرة خلال الفترة الناصرية ليفيقوا على عصر “الانفتاح” فيجدوا أحلامهم وقد بيعت ومكتساباتهم وقد انتزعت.

حققت المسرحية نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، كونا بعدها جلال الشرقاوي وسهير البابلي ثنائيًا ناجحًا في هذا اللون من المسرح. فقدما مسرحيات منها “العالمة باشا” و”عطية الإرهابية” والتي قررت سهير البابلي الاعتزال أثناء عرضها في عام 1997.

https://www.youtube.com/watch?v=mY2cK4WAqDA&t=313s

السينما

يشاع أن سهير البابلي لم تحقق نجاحًا كبيرًا في السينما رغم بدايتها السينمائية المبكرة في فيلم “المرأة المجهولة” عام 1959 و”يوم من عمري” عام 1961. لكن يمكننا أن نتأكد من خطأ هذا القول ونحن نشاهد أداءها في دور الزوجة الأرستقراطية المتسلطة في فيلم “انتخبوا الدكتور عبد الباسط” أمام الفنان عادل إمام. عام 1981، ودورها في فيلم “السيد قشطة” عام 1985، أمام عادل أدهم. وكذا العديد من الأدوار السينمائية التي أدتها سهير البابلي بإتقان شديد.

بكيزة وزغلول.. زيادة أسهمها لدى الجماهير

ساهم دور بكيزة هانم الدراملي في مسلسل “بكيزة وزغلول” عام 1986 في زيادة رصيد سهير البابلي لدى الجمهور المصري. فقد حقق ثنائي المسلسل سهير البابلي وإسعاد يونس “بكيزة وزغلول” نجاحًا كبيرًا. وهو النجاح الذي استغله المنتجون في فيلم سينمائي لم يرق مستواه لحجم سهير البابلي.

ورغم أن سهير البابلي أدت قبل “بكيزة وزغلول” العديد من الأدوار الهامة في التلفزيون مثل دورها في “وتوالت الأحداث عاصفة” ودورها الرائع في مسلسل “الحقيقة ذلك المجهول”. إلا أن دور “بكيزة هانم الدراملي” يبقى الأهم والأكثر جماهيرية في تاريخها التلفزيوني. والذي اختتمته بمسلسل “قلب حبيبة” التي عادت به عام 2005 بعد 7 سنوات من اعتزالها.

الثقافة وعمق الإدراك

سنكتشف ونحن نتابع أحاديثها التلفيزيونية في أوج شهرتها، كم كانت تحمل سهير البابلي من ثقافة واسعة. ومن وإدراك لفلسفة الأعمال التي اشتركت فيها، للدرجة التي مكنتها من أداء أدوارها بعمق شديد، مهما بلغ صغر الدور. وبصرف النظر عن اللون الفني الذي كانت تؤديه سواء كان كوميديًا أو تراجيديًا. تتكلم سهير البابلي خلال لقاءاتها عن بوعي شديد عن الأدب العالمي. وأعمال مسرح الدولة وما آلت إليه هذه الأعمال وعن الكوميديا والخروج عن النص ومسرح الارتجال.

كما تحدثت سهير البابلي في برنامج “صفحات من حياتي” أنه رغم النجاح الكبير لمسرحية “مدرسة المشاغبين” والتي كانت انطلاقتها الكوميدية الكبيرة. إلا أنها كانت حزينة لأن الجماهير لم تقدر أعمالًا كانت تعدها من الأعمال العظيمة ليس في تاريخها هي فقط بل في تاريخ المسرح بشكل عام.

ملكة البهجة

لنحو ثلاثة عقود منذ انطلاقتها الكوميدية الكبيرة في “مدرسة المشاغبين”، وحتى اعتزالها في نهاية التسعينيات. تربعت سهير البابلي التي غيبها الموت مساء أمس الحادي والعشرين من نوفمبر، على عرش الكوميديا المسرحية النسائية.

ظلت سهير البابلي خلال سنوات طويلة “ملكة البهجة” فمنحت جماهيرها سعادة بلا حدود. تلك السعادة التي لا زالت تغمرنا بمجرد أن تطل علينا بأحد مشاهد أعمالها عبر شاشات التلفزيون، أو مقاطع اليوتيوب.