لم يلبث أن توفي الأنبا كاراس أسقف المحلة، الشهر الماضي حتى أعلنت الإيبارشية عن تأسيس مزار له. بدير رئيس الملائكة ميخائيل ببرية الأساس بنقادة بمحافظة قنا. حيث كان الأسقف الراحل يخدم كوكيل لمطرانية نقادة قبل أن تتم رسامته أسقفا عاما للمحلة.
الأسقف الراحل الذي تمتع بشعبية جارفة بين جموع المسيحيين وعرف عنه التواضع والزهد والبساطة. كان قد ترك وصية يؤكد فيها وضع جثمانه بمزار متواضع أعده لنفسه بهذا الدير طالبًا أن يدفن فيه. حيث ووري جثمانه الثرى ضمن جثامين بعض الآباء الكهنة والرهبان الذين خدموا في تلك المنطقة. إلا أن قضية مزارات الكهنة والأساقفة قد طرحت نفسها بقوة على الشارع القبطي خصوصا في السنوات الثلاث الأخيرة. التي شهدت وفاة عدد غير قليل من الأساقفة والكهنة بوباء كورونا. خاصة وأن دورة مارس من المجمع المقدس عام 2021 قد اتخذت قرارا حاسمًا في تلك المسألة وأصدرت توصية. نصت على عدم جواز دفن الآباء الكهنة أو القادة داخل أسوار أية كنيسة أو ملحقاتها أو داخل البيوت الخدمية وممتلكاتها من مزارع أو منتجعات خدمية. بالإضافة إلى عدم نقل أجساد أي من الآباء الكهنة المتنيحيين إلى مزارات بالكنائس التي خدموا فيها.
قرار مجمع الأساقفة
قرار مجمع الأساقفة المعروف باسم المجمع المقدس منع الكهنة من الدفن داخل أسوار أية كنيسة. ولكنه في الوقت نفسه لم يعمم ليشمل الأساقفة، إذ تنتشر مزارات الأساقفة داخل أسوار الكنائس أو المطرانيات أو الأديرة التي خدموا فيها. فعلى سبيل المثال تضم مطرانية المنيا مزارا للأنبا أرسانيوس مطران المنيا وأبو قرقاص الذي توفي قبل عامين. أما الأنبا هدرا مطران أسوان الذي رحل قبل شهرين وشيعه الآلاف من أبناء الإيبارشية. فقد تم وضع جثمانه بضريح فخم في كاتدرائية رئيس الملائكة ميخائيل بمدينة أسوان. حيث أكد مصدر من كهنة الإيبارشية على عزمهم نقل متعلقات الأنبا هدرا الشخصية إلى جوار جثمانه لتصبح مزارا ضخما لما يمثله من قيمة ومكانة دينية طوال خدمته التي بلغت 46 سنة.
إكرام أجساد الصالحين
من جانبه، قدم الباحث ماركو الأمين المتخصص في الدراسات القبطية تحليلًا لظاهرة مزارات الأساقفة. مؤكدا أن المصريين ومنذ عهد الفراعنة قد اعتادوا إكرام أجساد الصالحين وبناء مزارات للموتى. ولعل الأهرامات خير دليل على ذلك، إلا أن تلك القضية قد شكلت أزمة في التاريخ المبكر للكنيسة المصرية. التي واجهت اضطهادات كثيرة وشيعت الكثير من الشهداء مما دفع المصريين إلى بناء مزار لكل شهيد في قريته أو مدينته أو ناحيته. مضيفا: كان ذلك ميراثا من المصريين القدماء انتقل إلى المسيحية. حتى أن الأرشمندريت شنودة قد حارب تلك العادة السيئة في أحد عظاته وقال إنها لا تليق بالمسيحيين خاصة في ظل انتشار مزارات خاطئة لشخصيات ليست من الشهداء.
وأوضح الأمين أنه بحلول القرن السادس الميلادي نجد أن إبراهام أسقف هرمونتيس (أرمنت) يوصي وريثه بقطر بأن يحنط جسده ويقيم يوما لتذكاره. وبعدها جاء العرب إلى مصر فخربت المزارات وانحسرت بسبب الثقافة الإسلامية الرافضة لبناء المقامات والمزارات. فما كان من الأقباط إلا أن بدأوا في دفن الآباء والشهداء داخل صحن الكنائس أو تحت مذبح الكنيسة. ثم عادت بقوة في العصر الحديث في الستينات مع تكريم البابا كيرلس السادس لرفات الشهيد مينا العجائبي. وعمل دير ومزار له وهو الدير المعروف حاليًا بدير القديس مارمينا بكنج مريوط بالإسكندرية.
عودة المزارات
واستكمل الأمين “عادت المزارات مرة أخرى بقوة في عصر البابا شنودة الثالث الذي أقام مزارا لسلفه البابا كيرلس. وتم إخراج جسد الأنبا إبرام والقمص ميخائيل البحيري ووضعهما في مقصورات داخل الكنيسة. وكان هذا الحال إبان الفترة الأولى في الفترة الأولى من عصر البابا شنودة الثالث”.
وأضاف “في التسعينات ظهرت بعض الأسماء المحلية لكهنة أتقياء في الصعيد توفوا في الستينات. ومع موجة الهجمات الإرهابية على المسيحيين وتصاعد ضحاياها بدءاً من الكشح وظهور الكشوفات الأثرية لأجساد شهداء أخميم وشهداء الفيوم. في مطلع الألفينات انتشرت فكرة عدم تحلل أجساد الشهداء والقديسين وبناء عليها تم تأسيس الكثير من المزارات”.
واستكمل الأمين “مع عودة حوادث قتل المسيحيين على الهوية واستهدافهم من قبل الجماعات الإرهابية. بدأت المزارات تنتشر بشكل غير مسبوق في عصر البابا تواضروس الذي شهد عصره عدة أحداث كبرى. مثل شهداء البطرسية وطنطا وشهداء ليبيا وحادثي الأنبا صموئيل حيث تم تأسيس مزارات لكل هؤلاء. وجرى دفن الشهداء داخل الكنائس والأديرة التي استشهدوا فيها إلا أن الأمر خرج عن هذا النطاق ولم يصبح احتفاء بالشهداء”.
شيوع عادة المزارات
الأمين يؤكد أن السنوات الماضية شهدت شيوع عادة المزارات بين الأساقفة والرهبان والكهنة المشاهير. فيؤسس لكل من يرحل مزارا رخاميا فخما وبازخا ومكلفا توضع فيه أدواته وتذكاراته. حتى أن الأمر تحول إلى تجارة رائجة إلا أن الأنبا ثيؤدوسيوس أسقف الجيزة قد تصدى لتأسيس مزار في إيباراشيته. حيث طلب موافقة البابا تواضروس على تأسيس مزار لأحد الكهنة فما كان البابا إلا أن رفض ذلك وأكد عدم صحة هذه العادة السيئة.
فيما رأى كمال زاخر الكاتب المتخصص في الشأن الكنسي أن المتبع حتى وقت قريب أن يدفن البابا البطريرك حال وفاته في مدفنة البطاركة المجاورة لمقر البابا. على أن يقام مدفن جديد لباباوات الكنيسة في حال تغيير المقر الباباوي. وقد كان مدفن البطاركة المقام بالكنيسة المرقسية بكلوت بك آخر هذه المدافن المقامة داخل المقر الباباوي. حيث كانت الكنيسة هي كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس قبل تأسيس كاتدرائية العباسية.
وتابع زاخر “حتى انتقل البابا كيرلس السادس الذي أوصى بدفنه -بحسب ما أُعلن- بدير مار مينا بصحراء مريوط بالإسكندرية. في مزار خاص، وتكرر الأمر مع رحيل البابا شنودة الثالث الذي دفن في مزار خاص بدير الأنبا بيشوي بصحراء وادي النطرون. وكان المطارنة والأساقفة يدفنون في مقبرة لهم كل في إيبارشيته”.
وأضاف “ثم تكرر معهم ما حدث مؤخراً مع البطاركة، وصارت لأغلبهم مزارات خاصة”.
المزارات والمرجعية الكتابية
وأشار زاخر إلى أن ما حدث من تأسيس مزارات للأساقفة قد جاء كنتيجة للتأسي بالباباوين الأخيرين الراحلين (البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث). إلا أن هذا لا يتسق مع الحس الرهباني ولا يستند الى مرجعية كتابية أو آبائية، ويكشف عن اختلال مفاهيم الموت والجسد والتكريم
بينما يقابل عادة المزارات تلك تيارا رافضا لها سواء في العصر الحديث أو من بين آباء الكنيسة. حيث أوصى القمص الراحل متى المسكين ألا يؤسس له مزار فخم، بل أصر على أن يدفن في صحراء دير الأنبا مقار بوادي النطرون. فتم دفنه ووضع فوق جثمانه صليبا خشبيا وشاهد قبر بسيط. كذلك تم دفن الأنبا إبيفانيوس أسقف دير أبو مقار الراحل ضمن مقابر آباء الدير ولم يتم تأسيس مزار خاص له رغم حادث قتله.
مختارات زهدية ونكسية
ومن التراث القبطي يذكر القديس مار إفرايم السرياني في مقتطفات من كتاب مختارات زهدية ونكسية: “إياكم يا تلاميذي أن تدفنوني تحت المذبح أو في الهيكل، إن تجرَّأ أحدٌ فوضعني تحت المذبح فلا يشاهدنَّ المذبح السماوي؛ لأنه لا يليق بالدُّود الَّذي أَفْرَز عفنًا أن يُوضع في هيكل الرب المقدَّس، ولا تضعوني في أي مكان آخر من هيكل الله.. انتبِهوا أيُّها الأخوة ألَّا تصنعوا قبرًا لذِكرَى رفاتي، لأن عندكم ما تَذكرون، ألَا وهو وصيَّة الله مُخلِّصنا فتحفظونها إلى أن يجيء”.
“لماذا تُفكِّرون مُتعَبين بثقلٍ لا يُحتمل؟ إنِّي لا أُريد أن يعرف العالم أين أُدفنُ، لست أفضلُ من الرِّجال الأبرار منذ الدَّهر، وإلَّا سوف يعاتبني الرب قائلًا: “يا أفرام، لقد تبعك النَّاس أكثر منِّي، إن أرادوا إنشاء قبرٍ خاصٍّ بكَ فلربما لن يتَّبِعوا وصاياي الّتي تركتها لهم؛ لأنهم يُفضِّلون ذِكرك عليَّ”.
“لذا أرجوكم أيها الأحبَّاء أن تُفضِّلوا تعليم المسيح؛ فلا تضعوني مع القديسين، لأني خاطئ وهزيل وأخشى أن أقترب منهم مصحوبًا بحقارتي وجهالتي.. لا تستخدموا المواكب والمظاهر في جنازتي، بل احملوني على الأكتاف وادفنوني كحقيرٍ مَخزيٍّ.. مَن يَضع في جنازتي ثوبًا فاخرًا يُرَ في الظلمة الخارجيَّة، ومن يُطَيِّبُني يُلْقَ في نار جهنَّم”.
“ادفنوني بقميصي وجُبَّتي، بلُباسي الاعتيادي؛ لأن الزينة لا تليق بالخاطئ المملوء دودًا وعَفَنًا…..أيُّها الَّذين في مصفِّ الآباء والأبناء والأخوة والتلاميذ، أيُّها الرجال الساكنون مدينة الرُّها، احملوا إليَّ أثمار صلاحكم وبِرّكم، أي ما نويتم أن تُكرِّسوه مدى الدَّهر تخليدًا لذكركم، وأنا أسْتَلِمُه أمانةً أشتري بها إناءً ثمينًا، وأستأجِرُ عُمَّالًا يَلِيقُونَ برغبتكم المثمرة، أَعنِي الفقراء والأيتام، الأرامل والمُعوَزين، الَّذين لا سقف لهم والجائعين، المساكين كلهم حتى يصير ذِكْرُ خلاصكم كاملًا في بلدة الأحياء، هذا كله سوف يَؤُول لخلاصكم من جهة، ويُعتبَر أجرًا طَوعيًّا لي من جهة أخرى بسبب مشورتي، الأجر الحاصل بالأعمال شيء والأجر بالأقوال شيء آخر؛ هذا” لأن العطاء مغبوطٌ أكثر من الأخذ” كما يقول الرب”.
الدفن تحت مذبح الكنيسة
وفي الإسكندرية فإن كهنة كنيسة مارجرجس سبورتنج وهي أحد أشهر الكنائس في مصر. قد أصدروا بيانا يشتمل على وصية الكهنة حال وفاة أيا منهم وجاء فيه ما يلي:
1- نوصى نحن الكهنة من أجل المحبة شعبنا المحب أن نُدفن مع بقية آبائنا الراقدين بالإسكندرية تحت مذبح الكنيسة التي في وسط مدافن الأقباط.
2- عدم توزيع صورة الكاهن المنتقل بعد نياحته.
3- عدم كتابة نبذات أو كتب عن حياة الكاهن الراقد، لنسير كما كانت الكنيسة حتى عصر ما قبل أبونا بيشوي. بل وزادت بالنسبة لرجال الكهنوت والشعب، وأصبحت العائلات تريد نشر كتاب عن كل من يرقد!
4- نود أن تكتفي الكنيسة بالاحتفال السنوي لنياحة أبينا بيشوى ليس للمديح فيه أو ذكر معجزات باسمه. وإنما كنهضة روحية للخدمة، وما نطلبه هو ذكر الترحيم بالنسبة لنا، وإن أمكن أن يكون سرًا. فنحن نطلب رحمة مسيحنا الذي ينصت لطلبة القلب.
5- عدم وضع صورة أو مذكرات بالكنيسة عن الكاهن الراقد.
6- في إعادة طباعة أية نبذة أو كتاب للراقد، لا تنشر فيه صورة الكاتب، مكتفين بصورة مخلص العالم.
7- نرجو بكل محبة وبإصرار عدم عمل أي قصائد أو ترانيم أو مدائح باسم الراقد. فما نطلبه أن يهبنا الرب الشركة مع الطغمات السماوية في تسابيحهم للرب.