يبدو مشهد انطلاق د. عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني من محبسه المنزلي نحو التوقيع على إعلان سياسي مع الفريق عبد الفتاح  البرهان، دون أي مساحة حركة أو تشاور يجريها الرجل مع أي كيان سياسي دالا -على نحو ما- على عدد من المؤشرات المهمة منها: أن  الاتفاق يملك حاضنة سياسية ما بديلة عن تحالف الحرية والتغيير هي قيادة حزب الأمة على اعتبار أن اللواء فضل الله برمة رئيس حزب الأمة الموقت، والذي تولي منصبه بعد وفاة السيد الصادق المهدي لحين عقد مؤتمر الحزب، هو أحد عرابي هذا الاتفاق، وهو رجل منتسب للمؤسسة العسكرية بما يجعله بمثابة الجسر المناسب بين العسكريين والمدنيين في هذه المرحلة، وذلك على الرغم أنه لم يجر ربما المشاورات المناسبة مع مستويات حزبه التنظيمية بشأن تفاصيل وكواليس الاتفاق.

حجم الدعم والدفع الدولي وراء شخص عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني بات كبيرا ومؤثرا ويملك دلائل على دعم غربي للسودان عبر الرجل وليس أي أحد غيره كممثل للمدنيين، حيث تمت المطالبة بعودة حمدوك بالاسم من جانب وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، وأيضا من جانب الاتحاد الأوربي.

ومن المؤشرات الهامة أيضا أن عبدالله حمدوك قد ترك تحالف الحرية والتغيير خلفه، طبقا للبند الثاني من الاتفاق الذي يقول بضرورة تعديل الوثيقة الدستورية عبر آليات التشاور والتوافق، وذلك  بعد فشل تحالف الحرية والتغيير في التفاعل مع مبادرات حمدوك الأخيرة، اعتبارا من أغسطس ٢٠٢١، وهي المبادرات التي بدأت بمحاولة إصلاح الحرية والتغيير التي انقسمت على نفسها سياسيا، ثم معالجة آثار وتداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة المعلن عنها في ٢١ سبتمبر، ثم تكوين اللجنة السباعية بشأن رأب الصدع بين الأطراف قبيل انقلاب ٢٥ أكتوبر، حيث مارست الحرية والتغيير تعاليا سياسيا على الرجل، وكذلك عدم إدراك كاف بحرج اللحظة السياسية التي يعيشها السودان.

مظاهرات في السودان رفضا لاتفاق حمدوك البرهان
مظاهرات في السودان رفضا لاتفاق حمدوك البرهان

ومن المؤشرات أيضا أن حجم الدعم والدفع الدولي وراء شخص عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني بات كبيرا ومؤثرا ويملك دلائل على دعم غربي للسودان عبر الرجل وليس أي أحد غيره كممثل للمدنيين، حيث تمت المطالبة بعودة حمدوك بالاسم من جانب وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، وأيضا من جانب الاتحاد الأوربي.

ثالث المؤشرات أنه لا الإدارة الأمريكية ولا باقي العواصم العالمية على استعداد للتخلي عن المكون العسكري السوداني في المعادلة السياسية الداخلية لصالح المكون المدني الذي طالب بذلك مرارا وتكرارا خصوصا من جانب تجمع المهنيين، وذلك نظرا لهشاشة مؤسسة الدولة السودانية وحالة السيولة السياسية أيا ما كانت أسبابها، وضرورة إنجاز متطلبات اتفاق جوبا للسلام بل واستكماله مع كل من عبد العزيز الحلو الذي من المطلوب احتواؤه بعد انخراطه الخطر في تحالف عسكري مع أديس أبابا ضد مناوئيها، وذلك فضلا عن عبد الواحد نور المؤثر فصيله على نحو ما في مجريات كل من تشاد وليبيا. وذلك كله في وقت لم يملك تحالف الحرية والتغيير (المركزي) لا البرنامج المناسب ولا مفردات الخطاب السياسي اللازم للتعامل على المستويين الإقليمي والدولي، وذلك لكسب دعم هذين النطاقين بدلا من اكتساب عدائهما.

رابع المؤشرات أن رئيس الوزراء السوداني أصبح منفردا المسئول عن بلورة السياسيات التنفيذية الداخلية للدولة، وهو ما يجعل أداء الرجل على المحك من ناحية، وسيجعله معتمدا على الضغط الدولي والأدوات الخارجية أكثر من أي شيء آخر لتنفيذ مشروعه، وهو ما قد يسفر عن أمرين: الأول، القدرة على الضغط على المكون العسكري خصوصا فيما يتعلق بمقدراته الاقتصادية، الممثلة في الشركات والكيانات الاقتصادية، وكذلك قد يرهن الرجل إن لم يكن واعيا بالقدر الكاف لمشروع غربي يتجاوز فكرة الانتقال الديمقراطي في السودان، ليكون السودان جزءا من المشروع الإبراهيمي في المنطقة، الذي يتطلب تطبيعا كاملا مع إسرائيل سبق وأن تحفظ عليه حمدوك نفسه.

فيما يتعلق بصلب الإعلان السياسي بين البرهان وحمدوك وبنوده الأربعة عشر، من الواضح أن هذا البيان يخاطب الماعون الاجتماعي الواسع ولا يقيم وزنا كبيرا للقوى السياسية في السودان، وذلك من حيث إشاراته لمكونات الإدارة الأهلية، والطرق الصوفية كداعم لهذا الاتفاق وهي القوي التقليدية في المجتمع والتي لا تملك عادة مفردات مشروع حداثي كالذي تملكه القوى السياسية السودانية تاريخيا، حيث تتبنى في معظمها مشروع الدولة الحديثة القائمة على أسس المواطنة المتساوية.

حمدوك
حمدوك

وبطبيعة الحال، يسعي هذا الاتفاق عبر بنوده  إلى إنجاز عدد من الخطوات المؤثرة في مجمل المشهد السياسي وهي محاولة احتواء القوى الرافضة خصوصا حركة الشارع الثوري، وذلك عبر الإشارة إلى إجراء تحقيقات بشأن التجاوزات التي جرت وأسفرت عن ارتقاء أرواح عشرات من الشهداء فتيات وفتية، وذلك في الاحتجاجات المتعددة طوال فترة الثورة السودانية، وأيضا بلورة المبادرات اللازمة لحوار موسع وشفاف بين كافة القوى السياسية والمجتمعية وقوى الثورة يؤسس لقيام المؤتمر الدستوري، فضلا عن السعي نحو استكمال هياكل المرحلة الانتقالية الدستورية، والوصول إلى محطة الحكومة المنتخبة، واتخاذ الخطوات الإجرائية نحو تكوين المجلس التشريعي.

في هذا السياق فإن قوي الحرية والتغيير (المركزي) تبدو أمام مأزق كبير، خصوصا وأن الدعم الدولي قد رفع عنها نهائيا، وتم دعم وقبول الاتفاق بين البرهان وحمدوك على المستويين الإقليمي والدولي بالمشاركة في صنعه أولا، ثم تقديم الدعم المطلق لهذا الاتفاق ثانيا، حيث رفع الاتحاد الأفريقي حالة تجميد أنشطة السودان فيه، وأيد الاتفاق، كما دعمته بعثة الأمم المتحدة في السودان فضلا عن دعم من الجامعة العربية، وبيانات مساندة من دول الإقليم قادته كل من الرياض والقاهرة .

وهكذا تبدو خيارات الأحزاب السودانية تحت مظلة الحرية والتغيير، إما أن ترفض هذا الاتفاق وتصعد ضده في الشارع وتعتمد عليه في إسقاط هذا الاتفاق وهو خيارها حتى الآن، وهو خيار أمامه تحديات عدة منها الظروف الاقتصادية للسودان والتي تجعل الناس مفتوحة على فكرة أهمية الدعم الدولي للاقتصاد السوداني في هذه المرحلة، ومن ثم قبول الاتفاق. كما أن العنف الذي تمارسه القوات الأمنية سيكون عائقا أمام استمرار الناس في الشوارع، خصوصا وأن هذا العنف قد لا يجد الردع المماثل في الفترة الماضية على اعتبار أن السياق الدولي أصبح يريد دعم الاتفاق وليس تعطيله، وجل ما سوف يقوم به هو مقولات مثل ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي من مناشدة لعدم ممارسة عنف الدولة في الشارع وبالتأكيد سوف تختفي مثل هذه التصريحات تدريجيا.

كما يواجه المجلس المركزي للحرية والتغيير مخاطر الاختراق من جانب حمدوك والمكون العسكري معا بما يجعله شبه مشلول في الفترة القادمة.

أما الخيار الثاني فهو أن تقبل الحرية والتغيير هذا الاتفاق ولكن بشرط أن يسلم المكون العسكري قيادة المجلس الانتقالي للمكون المدني كما تنص الوثيقة الدستورية. ويعتبر أن الاتفاق ضرورة فرضتها البيئة السياسية داخليا وخارجيا، وأنه مسئول سياسيا -ولو نسبيا- عن وجود هذه البيئة كنتيجة لأخطائه السياسية سواء بالانقسام السياسي، أو بتكوين حكومة المحاصصات السياسية، ويبدأ في التفاعل مع عبدالله حمدوك كورقة سياسية من غير المطلوب خسرانها في هذه المرحلة، وكذلك تقديم دعم سياسي له بما يجعل رئيس الوزراء قادرا على التوازن بين أطراف المعادلة، ومقاوما للضغوط الدولية وقادرا على تكوين حكومته بسرعة.

الخيار الأخير يتطلب من القوى الثورية بلورة برنامج نشط يأخذ بعين الاعتبار المصالح الداخلية للقوى الاجتماعية المختلفة ومن بينها عناصر النظام القديم المطلوب احتواؤها حتى يشتد عود القوى الثورية، وكذلك مصالح القوى الإقليمية والدولية في السودان، وضرورات بناء الدولة كمؤسسة لها وظائف ومتطلبات، وأخيرا وهو الأهم على الإطلاق اعتبار أن الثورة والفعل الثوري مجرد أدوات وليسوا على أي نحو أهداف نهائية لأي دولة أو مجموعة سياسية.