على وقع مواصلة العمل في البرنامج النووي الإيراني، والخطى الوئيدة في ملف المفاوضات مع الولايات المتحدة، تبدو المواجهة والصراع الإيراني الإسرائيلي مستعرًا أكثر فأكثر. وتنتقل من حيز إلى آخر، ومن بقعة جغرافية إلى أخرى؛ بما يترك آثارًا على خريطة التفاعلات السياسية الدولية في المنطقة.
سياقات إقليمية متغيرة بشكل متسارع، واتفاقيات تطبيع تعيد تعريف «العدو» و«الصديق» فتتبدل الأماكن. وتنشأ تحالفات تدور في خلفيتها موسيقى «لعبة الحبار». وهنا تظهر سرديتان: واحدة «إبراهيمية» وأخرى «حسينية»، وما بين «أبينا الجامع» و«ثائرنا المظلوم»، الكل يَعْد بالمكاسب.
في أفريقيا لم يكن الصراع بين القوتين الإقليميتين مستجدًا، وإنما ما استجد هو انتقاله إلى بؤرة جديدة. هذه المرة في شمال القارة السمراء. وتحديدًا المغرب العربي، حيث ألقى التنافس المستمر ظلاله على العلاقات المغربية الجزائرية المتدهورة أصلاً، وحيث البحث عن موطئ قدم جديد يُضفي بُعدا تشج فيه الفؤوس دابر التواصل بين جارين عربيين، فتُقطع العلاقات وتُتبادل الاتهامات.
المغرب والجزائر.. مشهد جديد للمواجهة
في أغسطس الماضي، أعلن وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة أن بلاده ستقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب. للوهلة الأولى، بدا القرار الجزائري مستقلاً ونتيجة مباشرة للعلاقات الإشكالية التي تدهورت على مر السنين. لكن لعمامرة قدم سياقًا أوسع، حين اتهم إسرائيل بالتعاون مع المغرب ضد الجزائر.
من بين أمور أخرى، كان لعمامرة غاضبًا من تصريح أدلى به وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، خلال زيارته للمغرب في نفس الشهر. وفي مؤتمر صحفي بالدار البيضاء، قال لابيد إنه شارك مع نظيره المغربي ناصر بوريطة «بعض القلق بشأن دور الجزائر في المنطقة، التي اقتربت أكثر من إيران وتشن حاليًا حملة ضد قبول إسرائيل كمراقب في الاتحاد الأفريقي».
وزير الخارجية الجزائري رد سريعًا على تخوف لابيد واصفًا إياه بـ«السخيف». موضحًا أن «البلدين تربطهما علاقات تاريخية، كما أن إيران دولة صديقة». بينما أشار إلى أن «عضوية إسرائيل بصفة مراقب في الاتحاد الأفريقي موضع رفض وتشكيك من أعداد متزايدة من دول أعضاء في الاتحاد».
إيران تسرع الخطى
وفي وقت سارع فيه المجتمع الدولي إلى الدعوة لتغليب الحوار وتجاوز التوتر ومنع التصعيد بين البلدين، كان موقف طهران واضحًا واستثنائيًا. إذ قال سفيرها لدى الجزائر حسين مشعلجي زاده، إن «الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، يجب أن تحظى باهتمام جدي وأن تلقى الرد المناسب على مخاوف الجزائر بشأن التهديدات الأمنية والمّس بوحدتها وسيادتها».
يرى الباحث في الشؤون المغاربية يحيى بن طاهر أن إيران تسرّع الخطى، خصوصًا بعد الاتفاق المغربي – الإسرائيلي، بحثًا عن موطئ قدم لها في الغرب الأفريقي وفي المنطقة المغاربية، في إطار طموحها لاكتساب نفوذ في المناطق غير المستقرة. لافتا إلى «في هذه السياقات، يمكن فهم الترحيب الإيراني بقطع العلاقات الدبلوماسية الجزائرية- المغربية».
ويشير بن طاهر إلى أنه «إذا كان التجاوب الإيراني في الاتجاه الإيجابي، فإن الجزائر تباركه، أما إذا كان بنيّة بناء التحالفات، فأعتقد أن الجزائر سترفضه، بل ستحارب أي محاور تهدد أمن واستقرار المنطقة على الرغم من حالة التوتر مع المغرب».
الخلاف الدبلوماسي بين المغرب والجزائر إذن ليس مجرد قضية محلية. فمن الواضح أنه يعكس اتجاهًا أوسع نطاقًا للمواجهة الدبلوماسية المحتملة بين إسرائيل وإيران حول النفوذ في أفريقيا، بتعبير موقع «المونيتور».
اتهامات إسرائيلية إيرانية متبادلة
في السابع من شهر نوفمبر الجاري، أعلن جهاز «الموساد» الإسرائيلي إحباطه «سلسلة من الهجمات الإرهابية الإيرانية ضد أهداف إسرائيلية في عدة دول أفريقية». واتهم فيلق القدس الإيراني، بمحاولة استهداف رجال أعمال إسرائيليين في السنغال وغانا، بالإضافة إلى سائحين إسرائيليين حضروا جولات سفاري في تنزانيا.
وهو الاتهام الذي رفضته طهران، مؤكدة أنها محاولة لتشويه صورتها في أعين المجتمع الدولي. لكن الاتهام الإسرائيلي لم يكن الأول فقد سبقه عدة اتهامات كرد إيراني على اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، والعالم النووي محسن فخري زاده.
ففي فبراير الماضي كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن اعتقال خلية مكونة من خمسة عشر شخصًا في إثيوبيا. وكان ذلك في إطار ما قاله مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون عن إحباط مؤامرة إيرانية ضد دبلوماسيين من الإمارات العربية المتحدة.
وقد ربط مسؤول دفاعي أمريكي كبير الاعتقالات في إثيوبيا بالخطة الإيرانية الفاشلة لقتل سفير الولايات المتحدة في جنوب أفريقيا. وهو ما أوردته صحيفة «بوليتيكو» في سبتمبر من العام الماضي.
ويعتقد فرزين نديمي، المتخصص في شؤون القوات المسلحة الإيرانية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن هذه المحاولات الإيرانية كانت تحاول الضغط على مسؤولي إدارة بايدن لتسريع ملف التفاوض في الوقت الذي كانت متوقفة فيه.
لكن لماذا أفريقيا تحديدًا هي الساحة المناسبة للصراع بين إيران وإسرائيل؟
يدفعنا ذلك للتعرف على استراتيجية كلا منهما بالقارة السمراء وما يطمحان لتحقيقه من علاقتهما مع الدول الأفريقية.
إيران.. قدوم رئيسي كدافع قوي
بعد فشل الاتفاق النووي لعام 2015 في عهد سلفه حسن روحاني، مثل قدوم إبراهيم رئيسي تحولاً في سياسة بلاده الخارجية. وعلى الرغم من أن السلطات الإيرانية لا تزال مهتمة بإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). إلا أن رئيسي يعتقد أن إيران يجب أن تركز على إحباط العقوبات، بدلاً من محاولة رفعها عن طريق المفاوضات السياسية.
النقطة المحورية في هذه النظرة العالمية هي توسيع العلاقات مع الدول غير الغربية، بحسب تحليل معهد «الشرق الأوسط» في واشنطن. وتلعب أفريقيا دورًا مركزيًا في هذا الجهد. إذ قال رئيسي مؤخرًا «في الإدارة الجديدة، سيتم تفعيل جميع قدرات [إيران] للتعاون مع الدول الأفريقية بشكل جدي».
كانت رئاسة محمود أحمدي نجاد (2005-2013) نقطة تحول في انخراط إيران في القارة. حيث عملت طهران على تعميق علاقاتها مع الدول الأفريقية، وخاصة دول جنوب الصحراء. وعلى الرغم من أن توريد النفط الإيراني كان أهم وسيلة في يد نجاد. إلا أنه روج أيضًا لاستراتيجية التعاون في البلدان الأفريقية من خلال بناء البنية التحتية مثل المستشفيات، وإنشاء الشركات، وتقديم القروض.
أفريقيا.. الفرصة الإيرانية
اعتقد نجاد أن التعاون المكثف والعميق بين إيران وأفريقيا سيقطع شوطًا طويلاً في تعديل العلاقات الدولية والتوازن الإقليمي. فزاد عدد السفارات الإيرانية في أفريقيا وسافر إلى القارة أكثر من أي رئيس سابق. حتى شركات صناعة السيارات الإيرانية وجدت سوقًا لتصدير منتجاتها إلى أفريقيا.
في ذلك الوقت، بينما كان الغرب يمارس ضغوطًا متزايدة على إيران، كان يُنظر إلى أفريقيا على أنها فرصة لطهران لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. ومن المرجح -وفقا لمعهد الشرق الأوسط- أن يشهد إطار العمل هذا إحياء إدارة رئيسي لسياسة نجاد تجاه أفريقيا، وتحديثها وتعزيزها لتعكس الظروف المتغيرة في إيران والبيئة الدولية.
فؤاد إزادي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران والذي لديه علاقة وثيقة مع المعسكر المتشدد، أشار إلى أن «أهم تفضيل لرئيسي سيكون تغيير السياسة الخارجية لإدارة روحاني، التي كانت قائمة على التفاعل مع الغرب».
بعبارة أخرى، فإن شعار «لا يقتصر العالم على الغرب» سيكون مرة أخرى محوريًا في السياسة الخارجية لإيران. ويمكن لإدارة رئيسي الاعتماد على دعم البرلمان ذي الأغلبية المتشددة في هذا الجهد.
أضف إلى ذلك، وفي ظل حصارها الاقتصادي فإن أفريقيا تلعب دورا هاما كسوق يمكن أن تلتف فيه طهران على العقوبات المفروضة وتُنشئ شبكة من المصالح المتغلغلة وسهلة التحقيق في بيئات هشة وفاسدة بغرب أفريقيا، بجانب دفع أيدلوجية «المقاومة» في دول تعاني من آثار الاستعمار الغربي.
إسرائيل: موجز التغلغل في أفريقيا
نبعت مساعي إسرائيل المتكررة لتشكيل تحالفات سياسية وعسكرية في أفريقيا؛ للضغط على خصومها في الشرق الأوسط وإضعافهم وتقويضهم.
في أوائل فترة ما بعد الاستقلال الأفريقي، كانت تحاول كبح النفوذ العربي، وخاصة المصري. ومنذ الثمانينيات استبدل التنافس العربي الإسرائيلي في أفريقيا تدريجيا بالتنافس الإسرائيلي الفلسطيني.
«اليوم، الهدف النهائي لجهود إسرائيل لتوسيع نفوذها في أفريقيا هو إدامة الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه ومنع قيام الدولة الفلسطينية والحفاظ على سيطرتها في نظام الفصل العنصري. تتجسد هذه الجهود بشكل متزايد في المنافسة الأوسع التي تجري بين قوى الشرق الأوسط -إيران والسعودية والإمارات»، بحسب «كتاب إسرائيل في أفريقيا: الأمن والهجرة والسياسة بين الدول».
خلال فترة الستينيات التي عُرفت بمرحلة التحرر الوطني في أفريقيا، فشلت المساعي الإسرائيلية الحثيثة لتكوين علاقات مع دول القارة السمراء. إذ انهارت محاولاتها سريعًا مع حرب يونيو 1967. لكن مع توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 أحدث ذلك خرقًا في الجدار وسمح للدولة العبرية بالتمدد شيئًا فشيئًا.
ويمكن القول إن معاهدة أوسلو كانت عامل آخر سمح بالتقارب الإسرائيلي بدعوى أن دول القارة «لن تكون ملكية أكثر من الملك». حتى انتهى المطاف بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع 44 دولة أفريقية من أصل 54، وأصبح لديها 15 سفارة في القارة.
كيف ساعد التطبيع إسرائيل في أفريقيا؟
يشير الباحث في الشأن الأفريقي كريسبو ديالو إلى أن تراجع القضية (الفلسطينية) إثر انطلاق قطار التطبيع العربي برعاية أمريكية ساهم في إسكات موقف بعض الدول الأفريقية التي كانت تصطف مع القضية الفلسطينية. وتزامن ذلك مع حماسة إثيوبيا وعدد من دول شرق أفريقيا ذات العلاقات الوطيدة مع إسرائيل في توسيع العلاقات معها. حماسة أفضت في النهاية إلى منح تل أبيب صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي».
ويضيف: يبدو أن نفوذ إسرائيل داخل القارة الأفريقية آخذًا بالازدياد. نظرًا إلى تقزم الدور العربي في الساحة الأفريقية. إلى جانب عدم سعيها لمجابهة المشاريع الصهيونية الضخمة في القارة.
هذا ما شجع بنيامين نتنياهو في يوليو 2016 ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور القارة منذ عقود، حين زار كلاً من أوغندا وكينيا ورواندا.
وفي العام نفسه، استضاف 8 وزراء والعديد من كبار المسؤولين الآخرين من أكثر من 15 دولة في غرب أفريقيا. وذلك في مؤتمر زراعي في إسرائيل رعته بشكل مشترك المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) والوكالة الإسرائيلية للتعاون الإنمائي الدولي (ماشاف).
حينها، قال نتنياهو إن «إسرائيل تعود إلى أفريقيا بشكل كبير، وأفريقيا قد عادت إلى أحضان إسرائيل».