“يا رب كرّهني فيه، يا رب اجعله شيطانا في عيني”.

من يقرأ هذه الكلمات التي دعت بها سهير البابلي ربها في صحن الكعبة، سيظن أنها تتحدث عن شيء شرير للغاية، عن شيء وحشي ربما ينتمي إلى عالم الجريمة، لا عن فن المسرح، أقدم الفنون وأعرفها وأشملها، الفن الذي منحته سهير حياتها (أو معظم حياتها)، ومنحها بدوره كل شيء وعلى رأسه حب الناس.

ومن البديهي أن الحزن العارم الذي اجتاح المجتمع (كل لأسبابه) بعد رحيل سيدة المسرح العظيمة وموهبته النسائية الأبرز سهير، كان حزنا مبعثه موقعه الكبير الذي أرسته موهبتها وأعمالها الفنية المدهشة في قلوب الناس. إن المجتمع – من يحب الفن ومن يرفضه – كان يرثي الفنانة الكبيرة المحبوبة، لا مجرد سيدة لم نكن لنعرفها لولا الفن، وليس المنطق هنا منطق “المعايرة”، بل من أجل وضع الأمور في نصابها، إرساء الهرم على قاعدته لا رأسه، وإعادة العربة لتكون – كما يفترض بها – خلف الحصان لا أمامه.

لقد أريقت الكثير من أنهار الحبر – التقليدي ثم الإلكتروني – حول مسألة اعتزال الفنانات، لكن سهير البابلي قد تكون الضربة الأقوى التي وجهتها التيارات الظلامية إلى الفن المصري، لأن “سوسكا” كانت في أوجّ عطائها، ولأنها كانت تملأ مكانا لم تملأه امرأة قبلها على خشبة المسرح المصري، كنجمة شباك وبطلة منفردة وطاقة كوميديا مذهلة، ولأنها – حتى بغض النظر عن نجوميتها – كانت موهبة فذة لا مجرد نجمة جماهير أو وجه جميل، وأخيرا لأنها في سياق تبريرها لقرارها وجهت الكثير من الضربات للفن، بحديثها المتكرر عنه كأنه خطيئة تستوجب التوبة، خطيئة تقود إلى العذاب، وأن “الموت على خشبة المسرح”، ذلك المشهد الذي طالما تخيّله فنانو المسرح العظام بوصفه رمزا للإخلاص لفنّهم، كان – في رأي سهير- مصيرا مخيفا، أو “مقلب كبير قوي” كما وصفته بأسلوبها المعهود خفيف الظل.

وإذا كانت مسألة “مشايخ الاعتزال” قد قتلت بحثا، أي أولئك الذين تبنّتهم الدولة على تلفازها الرسمي لسنوات ولعبوا الدور الأخطر في تحطيم الوسط الفن المصري عبر “اختطاف” رموزه إلى عالم “التوبة”، إلا أننا ينبغي أن نفكر أيضا في الأسباب التي جعلت نجوما كبارا صيدا سهلا للرجعية، لقد تخرجت سهير من المعهد العالي للفنون المسرحية ودرست الموسيقى في الوقت نفسه، لكن لا هذا المعهد ولا ذاك استطاعا تحصينها عقليا ونفسيا في مواجهة فكر التطرف، لقد كانت هشّة في مواجهة الأفكار الظلامية حتى أنها تأثرت بقرار ابنتها ارتداء الحجاب وهي لا تزال تقريبا طفلة (قبل ما تكمل 17 سنة – على حد وصف سهير) بدلا من أن تؤثر هي في ابنتها، أو حتى أن تحترم قرارها بدون أن تصاب هي بـ”الخوف من الحساب”، كما حكت بنفسها، وهكذا حين ذهبت إلى العمرة ودعت الله قائلة “يا رب كرهني في المسرح وخليني اشوفه شيطان في عيني”، مضيفة أنها شعرت كأن هناك من وضع الكلام على لسانها. فإنها لا تعرف إلى أي حد كانت دقيقة في ذلك، فقد تم وضع هذا الكلام على لسانها بالفعل من كثرة “الزنّ” في تلك الفترة العصيبة في الثمانينيات والتسعينيات، لقد أحيطت بخطاب تحريم الفن إلى درجة أن تصوّرت أن تلك هي قناعتها الخاصة، وأن عمرها السابق كله كان أسوأ من قبض الريح، كان عمرا يستلزم التوبة.

واليوم تستعيد المواقع الصحافية تصريحات سهير “التائبة” وصورها بالحجاب مع ذكرياتها الفنية المحبوبة لتصنع خليطا خطيرا قد يستعيد موجة تحريم الفن من سباتها، والتحريم ينصب في معظمه – كما هي العادة – على النساء، فمن المصادفات أن الفنان أحمد خليل – زوج سهير الأسبق-  توفي قبل أيام ولم يودعه الناس إلا بالحب من دون حديث عن حلال أو حرام، ربما لأنه أقرّ  بأن انفصاله عن سهير كان بسبب “أصله الفلاحي” في إِشارة أخرى لرفض الفن، إن الرجعية والذكورية تنصب على المرأة أكثر من غيرها ولهذا لم يكن غريبا أن تكون سهير، إحدى أبرز نساء الفن المصريات، هدفا ثم صيدا ثمينا للرجعية، لكن العزاء أنها كانت قد تركت أعمالا جميلة ستبقى إلى يوم أن ينزاح الظلام كله.