تعددت ألوان جمعة التخفيضات في الآونة الأخيرة. فبين كل إعلان عن جمعة سوداء أو بيضاء إعلانات أخرى عن عروض أيام صفراء وزرقاء. وكأنه قوس قزح من تنازلات سعرية، تدفع الزبائن دون إدراك أو قدرة على المقاومة نحو استهلاك السوق وإن تعثرت خطواتها بمحدودية الدخل. فالشراء لم يعد للضرورة والاحتياج، بقدر ما هو استجابة لحالة «الزن» التسويقية في كل منافذ طرح المنتجات على تنوعها بين غذائية ودوائية وملابس وعقارات ورحلات تنزه وسفر ترفيهي. ذلك تحت تأثير «توقف الدماغ عن التفكير السليم» جراء التدفق المتوالي لعروض التخفيضات، كما يقول باحثون بريطانيون في دراسة حول تأثير صناعة السلع الاستهلاكية التي تتحكم في اللاشعور لدى المستهلك.

هذا الأمر يشكل خطورة على الميزانيات الشخصية للأفراد. خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار صعوبة الإجابة على سؤال: أي العروض وهمي وأيها حقيقي؟ وأيها ذو نفع وأيها يحمل تبعات اقتصادية على مستوى الأسر الصغيرة، في ظل عثرة اقتصادية عالمية حقيقية. ما يلزمه كثير من ضبط النفس في الاستهلاك، والمراقبة الحقيقة للاحتياجات.

الفخ في أيام جمعة التخفيضات

«اشتريت بـ 5 آلاف جنيه يوم الجمعة وراتب الشهر لا يتجاوز 3 آلاف.. لا أعلم أين كان عقلي وقتها». هذا الندم الذي أبدته «سارة جمال» ومثلها كثيرون، هو المثال الأشهر للوقوع تحت التأثير الدعائي لعروض الجمعة التخفيضية. فكلمة تخفيضات جاذبة وإن تبعتها ألف كلمة أخرى. وهي العصا السحرية التي تُمكن المسوق من صبغ حيلته على الزبون ببراعة، فتمنعه من التروي في تدبر وضعه المالي.

«سارة» تعمل موظفة بإحدى الجهات الحكومية، وقد أنفقت القيمة الكبرى من آلافها الخمسة في أدوات تجميل وسلع تكميلية لا حاجة لها في الوقت الراهن. «كان من الممكن تأجيل شراء هذا الكم لوقت لاحق، إلا أنني كنت أخشى انتهاء فترة العروض التي شملت علامات تجارية كبرى ومميزة لدي».

انتشرت خلال الفترة الأخيرة مجموعة من التحذيرات الخاصة بعروض التخفيضات. كان أهمها ما نشره جهاز حماية المستهلك والجهات الرقابية التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية بشأن «وهمية» الكثير منها وخطورة عدم الإعلان عن سعر المنتج قبل التخفيض بغرض التلاعب به. وقد تم تحرير العديد من المحاضر في فترة الأوكازيون الصيفي الماضي أشار جلها إلى هذه الأزمة.

وفق الباحثين، فإن مسوقي السلع يتعاملون مع الجانب اللاواعي في المستهلك للتأثير على قرارات شرائه. وذلك بإرسال إشارات بعينها، تحمل مقاطع موسيقية، وتستخدم ألوانا وإضاءات محددة، تلعب دورًا حاسمًا في قراراته الشرائية. إضافة طبعًا إلى سمعة العلامات التجارية نفسها، والتعرض للإعلانات والعروض لفترة أطول.

ويرى الخبير الاقتصادي، دكتور وائل النحاس، أن العروض التي يتم تداولها تؤثر بشكل مباشر على قرار المستهلك، وتجعله يتجه نحو تعزيز رفاهيته. ذلك رغم الظروف القاسية ماليًا التي قد يعاني منها. وقد يصل الأمر إلى حد تكبيل النفس بالديون من أجل التفاعل مع العروض وتخفيضاتها.

ديون شخصية تكسر أسس الميزانية المحدودة

«اشتريت بالتقسيط من أمازون لأني لا أملك نقدًا»، هكذا حاولت هدى عبد الصبور إرضاء رغبتها في الشراء بأفضل الطرق الممكنة. لكنها اكتشفت أنها وقعت في فخ الدين دون أن تدرك. «كأنني كنت تحت تأثير تنويم مغناطيسي». وقد اشترت مجموعة من أجهزة المطبخ تقدر قيمتها بنحو 30 ألف جنيه، في عروض تقسيط تكاد تكون بلا فوائد على بطاقة البنك الخاصة بها. وكان من الأفضل لميزانيتها أن تقسم مشترياتها وفق مدخرات تكفي منتج واحد كل شهر مثلاً. لكنها لم تفعل تحت تأثير عروض التخفيضات.

ويحذر الخبير الاقتصادي، دكتور شريف الدمرداش، من خطورة هذا. فيقول إن كل أسرة تضيف إلى التزاماتها ديونًا تؤثر قطعًا على الدين العام مستقبلاً. في حين لو أمعن المستهلك التفكير في مشترياته لوجد الجانب الأكبر منها ترفيهيا يعيق قدرة الأسرة على تلبية الاحتياجات الأساسية تأثرًا بزيادة معدل الإنفاق خلال فترة العروض.

ويضرب الدمرداش مثالاً على حالة الرفاهية المصطنعة وأسبابها. فيوضح أن البعض يعمل بأجر لا يمكن معه شراء المستلزمات الأساسية. بينما ينفق على باقات إنترنت كبيرة المساحة، ليتمكن من التواجد على منصات التواصل المختلفة، ويشعر أنه صاحب قرار. وهو وهم يستنزف ميزانيات الأفراد على المدى البعيد. وينسحب أيضًا على عروض الجمعة بألوانها.

لكن الخبير البريطاني، جاريث هارفي، يشكك في قدرة المستهلك على التحكم بقراراته الشرائية. خاصة في ظل الأبحاث التي تثبت أن مخ الإنسان بالفعل لا يعمل بشكل عملي ومنطقي خلال فترات عروض «الجمعة» التسويقية. لأنها تخاطب الجانب العاطفي في الإنسان وتعيق عمل الجزء العقلاني منه.

ويشير هارفي إلى أمثلة لهذا التأثير، ومنها أن هناك ألوانا كالأصفر مثلا (وهو يرمز للتخفيض) بمجرد وضعها أمام عين المستهلك يصيبه عجز في اتخاذ القرار. وقد أجرى باحثون تجربة عملية في أحد المحلات التجارية بوضع لافتة صفراء على «البيرة»، كُتب عليها «نلاحق سرقات المحلات». لم يلتفت المشترون لما دوّن عليها ولم يسألوا عن السعر. فقط اشتروا كميات كبيرة، جعلت حجم المبيعات يصل لأربع أضعاف ما قبل تلك التجربة.

كيف نجنب أنفسنا التأثر بعروض جمعة التخفيضات؟

الكثير منا ينبهر بالعلامات التجارية وما يتم وضعه عليها من عروض. لذلك ينصح الخبراء بالمراجعة الشخصية الدائمة لتجنب التسرع في قرار الشراء. وكذلك ضرورة تنبيه المخ من حين لآخر بأن الضروري فقط لهذا اليوم هو ما سيدفعني لاتخاذ قرار الاقتناء. كما ينصحون بعدم الشراء دفعة واحدة، لأن ذلك يساعد في إتاحة مساحة لتجنب تأثير الدعاية.

ويعد الدفع النقدي أحد أدوات الحماية، لما في ذلك من تأثير نفسي مؤلم على المستهلك. لذا ينصح الخبراء أيضًا بتجنب الدفع الإلكتروني. لأنه يشجع أكثر على إتمام عدد أكبر من عمليات الشراء.

ويحذر المتخصصون أيضًا من تعدد أساليب التحايل في عروض التخفيضات. ومنها عرض منتجات توضع خصيصًا على قائمة المطروح في أوقات التخفيضات. وهي منتجات ينقصها بعض المكونات ذات القيمة السعرية العالية.

جمعة التخفيضات.. سوداء تلونت

تعددت الروايات في تسمية «الجمعة السوداء». إلا أن أكثرها شيوعًا يرتبط بالأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1869. حينما كسدت البضائع وتوقفت حركة البيع والشراء. وقد تعافى الاقتصاد الأمريكي حينها بعدة إجراءات منها إجراء تخفيضات كبرى على المنتجات لتقليل الخسائر. ومنذ ذلك اليوم أصبح ذلك تقليدًا أمريكيًا انتقل اتباعه إلى مختلف بلدان العالم.

وفي روايات أخرى، يرجع سبب التسمية لعام 1960 حينها شُلت حركة المرور تمامًا في فيلادلفيا الأمريكية بعد عيد الشكر، عند الاستعداد لأحد المباريات الكبرى، وتزاحم الوافدون على حضورها، ما تبعه عروض وتخفيضات من تجار التجزئة لاستغلال المشهد والتزاحم. وقد خرج الأمر عن السيطرة، فأطلق على هذا اليوم اسم “الجمعة السوداء”.

وفي حركة السوق، فإن اللون الأسود يختلف عما يعتقده الناس بشأنه. وعلى عكس الأحمر الذي يدل على الخسائر الكبيرة، هو رمز للربح الوفير بفعل عمليات البيع.