في مقالي السابق يوم 10 نوفمبر الحالي كتبت أن الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي لديه أسباب ومصالح تجعلنا نثق في جدية اهتمامه بالديمقراطية والحكم الرشيد في منطقتنا العربية/الإسلامية، وأن هذه الحقبة من التاريخ تختلف عن حقبة الحرب الباردة، ساردا بعض أوجه هذا الاختلاف، وشارحا تأثيرها على النظرة الغربية لمنطقتنا، وحين قلت ذلك، فقد كنت أدرك حدود هذا الاهتمام وقيوده، وكنت أدرك أن أكثر المخاطبين بهذا التحليل من العائشين في نظرية المؤامرة والقوميين والإسلاميين واليساريين (الباقين على قديمهم) لن يتقبلوه بسهولة، إذ أنني شخصيا كثيرا ما قاومت التفاعل الحر مع المتغيرات، التي يطرحها الواقع في تحولاته، وكثيرا ما تشككت في الأفكار الجديدة، لولا الالتزام بالمراجعة المستمرة لأفكاري، ولولا الاحتكاك المباشر بالسياسيين والمثقفين والباحثين والصحفيين في أنحاء متعددة من عالمنا، استثمارا للفرص التي أتاحها عملي الصحفي، وهو احتكاك تخللته معايشة كاملة في كثير من الأحيان، خاصة في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، وقد كان ذلك كافيا للتحرر من آفة التنميط الثابت الجامع المانع للمجتمعات والنخب والسياسات في أوروبا والولايات المتحدة، ذلك التنميط الذي نشكو منه نحن العرب والمسلمون مر الشكوى في نظرة الغربيين إلينا، مع أن لديهم دوائر مؤثرة ترفض هذا التنميط، بل وتقاومه.

وكان أملي أن يجري حوار موضوعي حول هذا الطرح، ولا أنكر أن بعض الكرماء فعلوا ذلك في تعليقاتهم على صفحتي على موقع فيس بوك، وفي مداخلاتهم موقع مصر 360، كما أسعدني الصديق الكريم هشام جعفر بمقال متميز حول الموضوع، يتفق فيه مع التوجه الرئيسي لمقالي، ويختلف معي في بعض النقاط، بل ويزيد نقاطا أخرى إيضاحا، خاصة التعويل على الدواخل العربية في صنع التحول الديمقراطي، وإبراز أثر موجات الربيع العربي المستمرة مدا وجزرا، بوصفها متغير رئيسي في صنع الاهتمام الغربي بديمقراطيتنا.

وحتى أعود الي مناقشة الصديق هشام جعفر اتفاقا واختلافا، فلنستعرض معا أهم التعليقات السلبية، أو التحفظات على مقالي السابق للرد عليها.

ترددت في تلك التعليقات السلبية أو التحفظات مقولة أن الغرب سيبقى هو الغرب الاستعماري العنصري المستغل، وأن أمريكا تحت حكم الديمقراطيين هي أمريكا تحت حكم الجمهوريين، وأن لا فرق بين بايدن وترامب، إلا في وقاحة الأول أو صراحته الوقحة مقارنة بنعومة لهجة الثاني، وأن كلاهما يعبر عن مصالح قوى المال والاحتكارات الاقتصادية، ومنتجي وتجار السلاح، كما ترددت مقولة أن مساندة الغرب للحكم المدني هي غطاء لتمكين عملائه من السلطة في بلداننا، أما أكثر المداخلات تشنجا فكانت القطع بأن واشنطن بالذات لن تكف عن تدبير الانقلابات لمنع الوطنيين (والإسلاميين خصوصا) من البقاء في السلطة، وقيل تبريرا لهذا الشطط أن محاولة الانقلاب في تركيا عام 2015 كانت صناعة أمريكية مائة في المائة، فيما كانت التعليقات الأقل تشنجا تتحدث عن ترحيب أو قبول الغرب في حالات سابقة لرؤية اسرائيل التفضيلية لنظم الحكم الاستبدادية لدى جيرانها، باعتبار أن هذه النظم هي الأضمن لأمنها، وهي المانعة لتقدم مجتمعاتها، بما يحقق على المدى الطويل قدرا من توازن القوى معها، وأما أكثر التعليقات نضجا فكان هو أن الغرب سيكون دائما مع السلطة المتمكنة سواء كانت عسكرية استبدادية، أو ديمقراطية مدنية.

ربما يكون البدء بالرد على النقطة الأخيرة كافيا للرد على كل التعليقات السلبية أو التحفظات السابقة عليها، فمن البديهي أنني أتفق مع القول بأن الغرب سيكون دائما وفي نهاية المطاف مع السلطة المتمكنة، وهذا هو منطق السياسة وحكم الواقع، ولكن هذا الإقرار من جانبي لا يعني مطلقا نفي الاهتمام الغربي بالديمقراطية والحكم الرشيد في بلداننا، للأسباب التي ذكرتها في المقال السابق، إذ إن الاهتمام ليس معناه أن يكرس الغرب كل طاقاته وأدواته بالنيابة عن مواطني المنطقة لإحداث ذلك التحول، فهذ طوباوية لا وجود لها إلا في أذهان الحمقى أو المتواكلين أو هواة تعجيز الآخرين، وكما قلت فليست الدول جمعيات خيرية أو إرساليات هداية وخلاص أرواح وأبدان، ولكن حدود هذا الاهتمام هي تشجيع النظم المتمكنة، أو الضغط عليها لتحسين أوضاع حقوق الانسان والحريات، وحكم القانون، وتوسيع نطاق المشاركة السياسية، و نزاهة الانتخابات قدر الإمكان، وذلك دون أن يفهم ذلك في الداخل على أنه تدخل تآمري خبيث في الشؤون الداخلية، كما يزعم أنصار الاستبداد، أما إذا لاحت فرصة للتحول الديمقراطي من خلال الحراك الشعبي السلمي -كما يحدث في السودان حاليا- فإن ذلك الاهتمام يعبر عن نفسه بالضغط لوقف قمع المتظاهرين السلميين، وبالضغط السياسي والاقتصادي على السلطات للحوار مع المدنيين حول سبل الانتقال إلى نظام مدني منتخب، ولن تكون إسرائيل هنا عائقا لسبب واضح، وهو أن السابقين والقائمين واللاحقين من المحيط للخليج يخطبون ودها، بل ويتسابقون علي هذا الود، باستثناءات قليلة جدا، وغير مؤثرة، ويغني الإجمال هنا عن التفصيل فيما أظن.

بالعود إلى مقال أ هشام جعفر فقد اتفق معي على صحة التوجه العام لمقالي السابق كما أسلفت، وأضاف تفصيلات لحيثيات هذه الصحة، التي كنت ذكرتها إجمالا، واختلف معي في الوزن النسبي لمخاطر الهجرة واللجوء والإرهاب الوجود العربي والإسلامي في الغرب في بزوغ واستقواء تيارات اليمين القومي الفاشي العنصري في الديمقراطيات الغربية، وذلك بالطبع دون أن يقلل من أثر هذ العامل، ولكنه اعتبره تاليا في الأهمية لأثر الأزمات المعيشية والديون والاحتكارات هناك في تقوية اليمين المتطرف، ورأى أن تنويهي بهذا السبب في مقالي الأول كان عابرا، وتفسيري -وليس رفضي لرأيه- هو أن الإسلامو فوبيا هي المقولة الأكثر جاذبية وتأجيجا للمشاعر في خطاب الفاشيين الجدد، وبالتالي فهي أداة الحشد الرئيسة للأنصار، ولكنها تأتي على أرضية خصبة من السخط لدى الشرائح الأقل تعليما، والأقل حظوظا من الناحية الاقتصادية. للأسباب التي فصلها أ جعفر.

وأما الاضافة الرئيسة في مقال الصديق هشام فهي مدخل الصراع الأمريكي الأوروبي مع كل من الصين وروسيا، وتحول الاهتمام الأمريكي الأكبر الي الشرق الأقصى كمحدد للسياسات الغربية حيال معادلة الديمقراطية والاستبداد في منطقتنا، ولا شك لدي في تأثير هذا الصراع علي الجميع، ولكني لم أتطرق إليه لعدة أسباب، منها أن واشنطن لا تزال صاحبة النفوذ الأوسع بل والهيمنة الاستراتيجية في منطقتنا باستثناء سوريا وإيران، ومنها أنني أستبعد عودة نمط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن الماضي، بما أتاحته من مساحات للتحول الكامل نحو المعسكر الشرقي، بل ومناهضة الغرب وأمريكا للنظم الوطنية العسكرية في الشرق الأوسط، مفترضا أن المساحات التي يتيحها الصراع الحالي على قمة العالم لن توفر إلا مكاسب أو خسائر صغيرة لهذا الجانب الدولي أو ذاك، ولهذا النظام المحلي او ذاك، والدليل علي ذلك هو أنه علي الرغم من مساندة روسيا والصين لجنرالات السودان مؤخرا في مجلس الأمن، فإن الطرف الدولي الفاعل على الأرض في الأزمة السودانية كان هو الترويكا الغربية بقيادة واشنطن.

بعد كل ما تقدم يستحسن التأكيد مرة أخرى في النهاية على أنني حين أتحدث عن اهتمام غربي بديمقراطيتنا فذلك لا يعني أنه لا توجد في الغرب قوى كثيرة ومهمة تناصر الاستبداد، وتركز على المصالح الأمنية فقط من المنظور الضيق، فتكتفي بمنع الهجرة والحد من اللجوء وضمان مصالح اسرائيل، وكبح إيران، كما أن حديثي لا يعني ضمان فاعلية السياسة الغربية الحالية في تشجيع التحولات الديمقراطية في المنطقة في كل حالة، وفي كل يوم. ولكنني أرصد ما أراه في حدوده الواقعية.