سواء حكمت المحكمة على الجاني أو لم تحكم، تظل ضحية العنف «ضحية» حتى تنتقل إلى خانة الناجية بعد عملية من التأهيل النفسي والمادي المعقد. الأمر لا يتوقف على المساعدة القانونية بل مشوار طويل تقطعه في طريقها للنجاة.
والنجاة مفهوم لم تعرفه الكثيرات من ضحايا العنف، خاصة الجنسي، فقد تجد من يدلها على أبواب الطرق القانونية. ولكنها تضطر إلى الهروب من مجتمع يلقي باللوم على المراة، مثل ما فعلت الضحية علياء (اسم مستعار).
وعلياء بنت إحدى القرى التي لا يرحم لسان الناس فيها أحدًا، كما روت. وبعد أن كانت تسمع عن حوادث الأخريات وما يصاحبها من القيل والقال، بين ليلة وضحاها أصبحت إحداهن. وهي التي لم تتخطى عامها السادس عشر، حينما قرر خطيبها خطفها واغتصابها.
لم تصمت علياء تجاه ما حاق بها، وقررت بمساعدة أسرتها اتباع الطرق القانونية، والتي كانت متوفرة عبر بعض منظمات المجتمع المدني. ولكن في طريق المحاكمة لم تسلم من اتهامات الجاني وفريق دفاعه الذين دفعوا بأن الأمر كان رضائيًا. ورغم دفوع محاميها أيضًا بالنفي وإثبات جريمة الجاني والحكم عليه، إلا أن هذا لم يحميها من نظرات تتراوح بين الشفقة والاتهام، وجميعها تتسم بالوصم. فحتى لو أثبت القانون براءتها فقد انتهى مستقبل الضحية في نظر هؤلاء.
وخلال أيام وبعد انتهاء المحاكمة، يقول محاميها محمد حمادة إن علياء اختفت من القرية خوفًا من القيل والقال، وهجرت أسرتها. أنهت الفتاة شعور الوصم الذي كان يجعلها طوال فترة المحاكمة لا ترفع عينيها عن الأرض، تجنبًا لنظرات الناس. تشعر بالحرج طوال الوقت، هي الطفلة المتلعثمة في الكلام للدرجة التي وجدت المحكمة صعوبة في الحصول على إفادتها.
أما شيماء وهو اسم آخر مستعار لضحية اضطرت لأن تكف عن طلب المساعدة القانونية. وذلك بعد الضغط على أسرتها الفقيرة، والشائعات التي حامت حولها، بعد أن اغتصبها صاحب المصنع الميسور الذي تعمل به. واكتفت بالزواج من الجاني، الذي طلقها بعد أيام قليلة، فقط لإثبات شرعية العلاقة. ثم هجرت أسرتها والقرية بأكملها بعد أن وجدوا صعوبة في التعامل مع الناس، في ظل نظرات وصم وامتهان لا تنتهي.
من ضحية إلى ناجية.. طريق طويل
صاحبة مبادرة «بنت النيل»، أسماء دعيبس، وهي من المؤسسات القليلة التي تعمل خارج القاهرة في الوقت الحالي، تروي شهادتها حول عمليات تأهيل الضحايا، والعقبات التي يواجهنها في مساعدة هؤلاء.
وتؤكد أسماء أن الجميع ضحايا حتى يتأهلنّ بشكل كامل للاندماج مع المجتمع مرة أخرى بعد كل ما مررنّ به. يتطلب الأمر مجموعة من العمليات، بدءًا بالمساعدة القانونية، والتي على الرغم من أهميتها فإن الوقوف عندها لا يجعل للنجاة سبيلا.
في ظل ضعف الوعي بالصحة النفسية فالكثيرات يهربنّ من تلك الرعاية، وتتجاوز تلك المرحلة باعتبار أن العلاج النفسي مجرد رفاهية
تلفت أسماء النظر إلى ضرورة التأهيل النفسي والمادي للضحية. وتقول: «في العادة تحتاج ضحية التحرش وقتًا أقل من الضحية التي تعرضت لاعتداء جنسى أكبر مثل الاغتصاب. والتي يكون زمن تأهيلها أطول وسبل دعمها مكلفة أكثر وذلك تبعًا لطبيعتها الشخصية. وفي ظل ضعف الوعي بالصحة النفسية فالكثيرات يهربنّ من تلك الرعاية، وتتجاوز تلك المرحلة باعتبار أن العلاج النفسي مجرد رفاهية. في ظل خطاب يوصم الضحايا وكذلك المرضى، وبالطبع لا يمكن إجبار الضحايا أو أسرهم على خوض مرحلة العلاج اللازمة للتأهيل، ولكن يمكن توجيههم».
وفي العادة تحاول المبادرات الاعتماد على المتطوعين في منح المساعدة القانونية أو النفسية. ولكن المشكلة تكون في المساعدة المادية، والتي تتمثل في حاجة البعض منهن للحماية من الجناة وأهاليهم. ـو حتى من أسرهم وبيئاتهم الأصلية التي توصمهم، وتحملهم الذنب، فيحتجن إلى ملاذ آمن. وكذلك مساعدات عينية ومادية، أملًا في البدء في الحياة من جديد.
المنظومة الرسمية والنوع الاجتماعي
تقول أسماء: «نواجه الكثير من العقبات التي يتمثل أولها في منظومة رسمية لا تراعي النوع الاجتماعي. يتمثل ذلك في اللحظة الأولى لتقديم البلاغ، حيث تضطر الضحية إلى تكرار سرد الوقائع على أكثر من طرف. بدءًا من قسم الشرطة إلى النيابة وجلسات محكمة وجميعهم غير متخصص. فضلا عن أثر السرد والتكرار على نفوس الضحايا».
الى جانب غياب مسألة السرية أو الخصوصية للضحايا رغم مادة القانون التي تم إقرارها خلال العام الماضي. في أعقاب قضية أحمد بسام زكي المتهم بالاعتداءات الجنسية. وتضيف أسماء: «فوجئ محامي المبادرة أثناء نظر إحدى قضايا العنف الجنسي بأن وكيل النيابة ليس لديه علم بمادة حماية المبلغات. المادة المعدلة 113 مكرر، وعند التدقيق بالمادة فللأسف لا يوجد أي آليات لتنفيذها على الأرض».
التأهيل يبدأ بحماية الضحايا
المحامي الحقوقي مايكل رؤوف يشير إلى مادة الخصوصية والتي تبدأ معها مشاكل الضحايا. ويضرب مثالاً بقضية فتاة المول التي توجِّه الجاني فيها بعد انقضاء عقوبته إليها وقام بتشويه وجهها، وتنفيذ تهديده السابق لها.
ويعتبر مايكل أن غياب حماية الضحايا خطر يهدد أغلبهن ويقف عائقًا أمام إعادة تأهيلهن. ويحكي أن كثيرًا من الجناة وأسرهم لا يكتفوا بالطعن في سمعة القضية، ولكن يقمن بتهديدهن أيضًا.
المحامي مايكل رؤوف: المشكلة تكمن في عدم وضوح المادة القانونية 113 مكرر التي تم تعديلها العام الماضي. والتي تنص على عدم جواز كشف مأمور الضبط عن أي بيانات تخص ضحايا الاعتداءات الجنسية إلا لذوي الشأن
ومن قبل شوّه المتحرش الضحية سمية عبيد، المعروفة إعلاميًا بـ«فتاة المول» وجهها. حينها قالت «سمية»، إن المتحرش كان ينتظرها خارج الصيدلية وقام بالنداء عليها وتعقبها، لكنها أسرعت في المشي تجاه سيارتها. لكنه أتى من الخلف محاولاً ذبحها، إلا أنها حركت وجهها؛ ما جعل الآلة الحادة تجرح وجهها.
وأضافت «سمية»: «لم أتلق اتصالات هاتفية من المتهم بعد صدور حكم عليه في واقعة التحرش والضرب الأولى، التي وقعت منذ عامين. وصدور حكم عليه بالحبس أسبوعين وغرامة 100 جنيه». حينها اتفق الجميع على أن العقوبة لم تكن رادعة. ولكن كانت النقطة الأهم بيانات الضحية التي أتاحتها المحاضر الرسمية للجاني، ومكنته من تكرار الاعتداء عليها. أما الضحية فلم تتلق أية عناية خاصة، واعتمدت على نفسها في محاولة تجميل وجهها، وهو ما كان يفوق طاقتها المادية. فضلاً عن اللوم الذي حازت عليه من بداية القضية، على المستوى الإعلامي، ومن جانب مقدمة البرامج في ذلك الوقت ريهام سعيد.
يوضِّح مايكل أن المشكلة تكمن في عدم وضوح المادة القانونية 113 مكرر التي تم تعديلها العام الماضي. والتي تنص على عدم جواز كشف مأمور الضبط عن أي بيانات تخص ضحايا الاعتداءات الجنسية إلا لذوي الشأن.
ولا تؤسس هذه المواد لأي عقوبة في حال مخالفة الأمر. فالأمر لم يجرم بشكل واضح، أو حتى طريقة تنفيذ حفظ البيانات. كما لم توضح المادة من هم ذوي الشأن تحديدًا، حيث يكون المتهم أيضًا في هذه الحالة من ذوي الشأن. لذا ستكون البيانات متاحة لكافة الأطراف، بما فيها عنوان وتلفونات الضحية. وغالبًا ما يذهب أهالي الجناة إلى الضحايا بغرض الصلح، ثم يقمن بتهديدهن. وقد تعددت الحالات المماثلة، نظرا لسهولة الوصول إلى بيانات الضحية.
ما بعد الحكم.. غياب الدعم
وتذهب أسماء دعيبس إلى أبعد من ذلك، وتحديدًا إلى ما بعد الحكم سواء لصالح الضحية، أو العكس. إلى الخطاب الرسمي الذي لا يوفّر لهؤلاء الضحايا الدعم المباشر، وبستمر في الأخذ بأيديهن. فتلفت إلى شح دور الرعاية الآمنة، وتركزها في المحافظات الكبرى، بعيدًا عن الأقاليم والقرى البعيدة. وكذلك قلة الجهات الرسمية المعنية بتقديم المساعدة النفسية، وعدم الإعلان عنها.
وتؤكد أسماء ضرورة إفساح المجال للمجتمع المدني للتعاون في هذا الشأن، وتسهيل عمله. وكذلك تشريعه، والذي يمكنه بدوره تدريب الموظفين والأطباء ذوي العلاقة بالضحايا، أو إنشاء دور رعاية خاصة. كما هو معمول به في أغلب دول العالم.
أما خطورة غياب مثل هذا التأهيل فيعرض الضحايا للوصم والنبذ من المجتمع، كما لا يحفز ضحايا آخريات على البوح؛ خوفًا مما تعرضت له الأخريات. ورغم كل ذلك تبشِّر أسماء بأن الأوضاع تحسنت قليلاً على المستوى المجتمعي من ناحية الوعي. وتبقى المساندة الرسمية الفعلية التي من شأنها تحسين وضع المرأة في المجتمع بشكل عام.