لازال البعض يخلط بين مسارات ثورات القرن الماضي “العقائدية” والثورية، وبين الانتفاضات أو الثورات الشعبية التي شهدها العالم في النصف قرن الأخير، ومنها الثورات العربية التي جرت مؤخرا في أكثر من بلد عربي وكانت في معظمها فاشلة أو متعثرة، باستثناء تونس التي لازالت أقرب للنجاح رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها.
إن هناك أزمات كثيرة في نمط تفكير كثير من التيارات التي تقود هذه الثورات، وشهدنا ذلك في مصر وتونس ونشاهده حاليا في السودان، ويتمثل في سيطرة الحالة الاحتجاجية على أداء هذه التيارات في مقابل عجز كبير عن بناء مؤسسات سياسية قادرة على الحكم والإدارة وتقديم البدائل.
والحقيقة أن هذه الإشكالية باتت مضاعفة في العقود الأخيرة، لأن مغريات “الحالة الاحتجاجية” في مجتمعات تعاني من السلطوية والركود تبدو كبيرة، ويتصور من يقودوها أنه بهدير الآلاف في الشوارع وبطولاتهم ورمزية شهداءهم قد أنجزوا التغيير، وهذا في الحقيقة أقرب “لسراب” لا علاقة له بالواقع. فالتغيير لا يتم فقط بحجم التضحيات، إنما بالقدرة على اختيار الوسائل التي تقلل فيها بقدر الإمكان التضحيات، وأيضا أو أساسا تقدم بديل سياسي قادر على ملء الفراغ التالي لسقوط النظام القديم.
وتبدو المعضلة أكثر عمقا في تجارب لا تمتلك استحقاقات “الحالة الثورية”، فلا يوجد تنظيم ثوري محكم مثلما جرى في الثورات الشيوعية في القرن الماضي، ولا عقيدة ثورية ملهمة مثلما جرى مع الماركسية في فترة من الفترات، إنما توجد جماعات ثورية تربطها “عقيدة” إسقاط النظام القديم لأنه لا يوجد في العصر الحالي عقيدة ثورية أو أيديولوجيا ثورية قادرة على الحشد أو تقديم بديل مثلما قدمت النظريات الشيوعية في القرن الماضي، فلقد كان المطلوب من الكادر الثوري في حزب لينين “البلشفي” قائد الثورة الشيوعية في روسيا أن يحفظ الماركسية عن ظهر قلب ويؤمن بعقيدة لينين ويطبق هذه النظريات في أرض الواقع وتكون نتيجتها ملايين الضحايا حتى ينتصر الجيش الأحمر على الجيش الأبيض ويصل الحزب الشيوعي للسلطة حاملا رايات الاشتراكية وعبر نظرية ثورية ملهمة.
والحقيقة أن واقع الثورات الحالية في العالم العربي ليس فيه نظرية ثورية وهو أمر طبيعي لأنه لم تعد هناك نظريات ثورية تمثل وصفة سحرية لتغيير النظم القائمة وبناء أخرى جديدة، ولا تنظيمات ثورية تصنع الثورات وتقودها عبر تبني هذه النظريات.
وحتى الدول التي عرفت وجود تنظيمات يسارية ثورية ساهمت في التغيير مثل أمريكا الجنوبية لم تبن نظمها الجديدة وفق نصوص النظريات الثورية، إنما بنت كوادر سياسية إصلاحية قادرة على الحكم والإدارة وفهمت معاني المهنية والإدارة الحديثة وكيفية التعامل مع العالم، أما في أوروبا الشرقية فقد شهدت انتفاضات في بعض البلاد وترتيبات في أخرى احتضنتها جميعا المجموعة الأوربية ومعها الولايات المتحدة حتى أسقطت النظم الشيوعية لصالح نظم سياسية ديمقراطية جديدة.
لم تعد تتقدم الأمم عبر كادر ثوري، ولم تعد هناك نظرية ثورية ملهمة يتصور البعض أن تطبيقها سيمثل بديلا لشرور النظم الاستبدادية أو الفاسدة، إنما أصبحت هناك كوادر سياسية إصلاحية متعلمه ومهنية ومتخصصة عبرها يمكن أن يحدث التقدم.
إن الغياب الموضوعي للنظرية الثورية والتنظيم الثوري دفع بكثيرين من “ثوار الميدان” في العالم العربي إلي تعويض ذلك بالحالة الاحتجاجية متصورين أنها هي الثورة ورفع شعارات إقصائية بحق المخالفين باعتبارهم أعداء للثورة أو خانوها ورفعوا شعارات “بكرة الثورة تشيل ماتخلي” ورفضوا الحوار مع الخصوم السياسيين.
وتبدوا حالة الحرية والتغيير (المجلس المركزي) في السودان نموذج لهذا التفكير، فلا خلاف على أنه بفضل الثورة الشعبية سقط حكم البشير (وليس عبر نظرية ثورية) كما أن ضغوط الشارع فرضت على الفريق البرهان التراجع وعودة حمدوك لرئاسة الوزراء، لكن إعلان الحرية والتغيير عدم التفاوض مع “العسكر” والمطالبة بإقصاء الجيش ومعه حاضنته الشعبية أمر لا يمكن تصوره، وعكس كل تجارب النجاح التي شهدتها تجارب التغيير في العالم في النصف قرن الأخير بما فيها الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية، حيث استمر التفاوض بين العسكريين والمطالبين بالدولة المدنية الديمقراطية ومن بينهم فصائل يسارية ثورية حتى آخر لحظة بل أعطيت ضمانات وخروج آمن لقادة عسكريين في أمريكا الجنوبية من اجل التخلي على السلطة والنظر إلي المستقبل.
إن رفض الفصائل الثورية التفاوض مع الجيش السوداني (يحدث التفاوض بين الأعداء) أمر يحول طاقة التغيير من البناء وتقديم البدائل إلى الاحتجاج والرفض، وهو ما قد يؤدي إلى سقوط التفاهمات الحالية بين البرهان وحمدوك ولكنه لن يقدم بديل للفراغ الذي ستحدثه.
والحقيقة أن السؤال الذي يجب أن تطرحه قوى التغيير في السودان، هو أسباب عدم استمرار الحكم المدني إلا 15 عاما منذ استقلال البلاد عام 1956 وحتى الآن؟ ولماذا كان يستمر الحكم العسكري لعقود والمدني لسنوات رغم الثقافة المدنية العميقة والوعي السياسي الكبير الذي يتمتع به الشعب السوداني.
لا يجب ان يحل مكان النظريات الثورية حالة احتجاجية رافضة لكل شيء واعتبار الاحتجاج هو التعبير الجديد عن النموذج الثوري، فالتعبئة والحشد مطلوبان لنصف الطريق أي إسقاط النظم المستبدة والفاسدة، ولكنهما لا يضمنا النجاح الذي لن يتحقق إلا لو بنيت كوادر سياسية إصلاحية ومؤسسات سياسية تقدم أفكار بديلة ومشاريع للتقدم فيها سياسة ومهنية وقدرة على العمل والإنجاز، وليس نظريات ثورية يستدعيها البعض من متاحف التاريخ، أو حالة احتجاجية تصطدم أولا بالخصوم ولو نجحت تتجه نحو الحلفاء.