تنطلق هذه القراءة لرواية “إفلات الأصابع” من فرضيتين: فأولا، العودة لما نشره مؤلفها، محمد خير، قبلها، في أنواع أدبية مختلفة: شعر (بالعامية المصرية، والعربية الفصحى)، وقصة قصيرة، ورواية، يكشف بعض ما أستغلق، بالفعل، أو بدى مستغلقا، فيها. وثانيا، لابد للقارئ، أي قارئ، من استراتيجية تفكك، وتعيد بناء الأحداث، وأن يعلق انفعالاته. ويرجئ إصدار الأحكام. ويبقى إجاباته، على الأسئلة التي ترد لذهنه، محصورة في دائرة الاحتمال، لا تتعداها. ويظل ممسكا بجميع الروابط التي سينشأها، حتى النهاية. مهما بدت له، حال ظهورها، واهية، وعليه، أيضا، الإمعان في تدقيق قراءات أخرى، وإن تكن خافتة؛ كشرط لاتساق قراءته.

**************

“تأليف الروايات

يحتاج إلى تجارب

يفتقر إليها عشاق المقاهي

فيكتفون بالشعر،،،”

قصيدة “اضطرار”، من ديوان “هدايا الوحدة”، كتبت نصوص الديوان خلال العامين (2007- 2008).

***********

فعل القراءة الأول هو “التأجيل”، تأجيل الحكم على طبيعة العلاقة بين: “مشينا على الماء وقابلنا غريبا”، وهو عنوان الفصل الأول، وبين “أوامره”، وهو عنوان الفرع الأول منه. وارد أن يكون مُصدر الأوامر، هو الغريب، أو الماء، أو أحد الماشين عليه، أو شخص أو ذات غيرهم. سيرجح أيا من هذه الاحتمالات تبين طبيعة الأوامر. 

ولكن كيف مر المشي على الماء؟

ربما لأن التلقى المشترك بين جميع القراء يدرك أن ذلك من “التخييل”، أو “الخوارق”، وهناك مخزون هائل (ديني، صوفي، سحري، خرافي، موروث شعبي) يعتبرهما من بين العناصر المضمرة في أي نتاج أدبي.

الجزء الأول من الجملة الأولى، بعد ذلك، سيكون “تأسيسيا” في العلاقة بين النص والقارئ: “ناداه اللحم الحلو من وراء زجاج ثلاجة المحل”. ففعل “نادى” يستخدم، هنا، ليس في معناه القريب، الأولي: دعى وصاح بصوت مرتفع، بل بمعناه البعيد: ظهر، رَآه، عَلمَهُ. و”ناداه”، التي هي فعل ومفعول به، ذات محمول ديني، ففي القرآن “إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى”، وحضورها الشعري لافت، يقول سليمان العيسى: ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا‏/ عند الشهيد تلاقى الله والبشر/ ‏ ناداهم الموت فاختاروه أغنية‏/ خضراء مامسها عود ولا وتر‏. 

نعلم أن البرق، كما الموت، واللحم، لا صوت له، وهذا من ألاعيب اللغة العربية، فمن الحس ما لا تدركه الحواس الخمس، ولكن تدرك مادته فقط، ويسمى هذا التشبيه بـ “الخيالي” الذي ركبته المخيلة من أمور موجودة، كل واحد منها يُدرك بالحس، وهنا كأن الرؤية، سمع.

هكذا من الجزء الأول يقيم النص والقارئ تعاقدا على أن ما سيلي سيكون على هذا المنوال.

المنادي عليه “بدا له (اللحم الحلو)- في الحر والصيام- كأنه قطعة قشدة حمراء مستعدة لأن تذوب من تلقاء نفسها في الفم”.

الحر والصيام، هذه علامة حاسمة على زمن الحدث، حاسمة بمعني أنها تضع تحديدا ما، نحن في فصل الصيف الذي يتزامن مع حضور شهر رمضان، وبمراجعة الجداول الفلكية يمكننا القطع بأننا في أحد أيام شهور الصيف في الفترة ما بين (2007- 2016)، أو قبل ذلك بربع قرن، أو نصف قرن، أو قرن، ألخ، فالصيف يزامن رمضان خلال تسع سنوات، كل ربع قرن تقريبا.

هل على القارئ بذل كل هذا الجهد ليحدد زمن الأحداث؟

الإجابة: عليه أن يفعل ذلك طوال الرواية، عليه أن يفكك ويعيد ترتيب الأحداث ويضعها في زمنها المنضبط.

عاد الذي ناداه اللحم إلى البيت وفوجئ بأمه في المطبخ، وسبب المفاجأة، أن أباه مات قبل شهور، ومن وقتها لم تدخل المطبخ.

يمكننا، الآن، النظر إلى الجملة الأولى من الرواية، فكل ما مضى تناول فقط جملة واحدة، ونحاول تفكيكها وإعادة البناء: إننا أمام شخص يريد أن يستمتع، يحتفل، ينهي مرحلة، يعلن نهاية حداد، يشتهي، يتقلب بين ما يشتهيه، لا يتذكر، يرى الأشياء على غير حقيقتها. 

***********

وتصدمه أمه: ضعه في الثلاجة (اللحم/ الرغبة/ الاحتفال/ القطيعة/….)، أبوك قال أطبخوا بطّ.

بط؟

أيكون البط محلا للبحث والاستفهام والتأويل؟.

ربما. 

في المعاجم والقواميس العربية هناك ترتيب للمفردات: الفعل، ثم الاسم، ثم الحرف. وفي تعريف وتفسير معنى مفردة “بَطَّ” يُذكر الفعل أولا: بَطَّ بَطًّا، بَطَّ الدُّمَّلَ ونحوَه: شقَّهُ، ثم يأتي الاسم، بَطّ : جمع بَطّة: (الحيوان) جنْس طير مائيّ من الفصيلة البطِّيّة، قصير العُنُق والرِّجلين وعريض المنقار، منه الدَّاجن ومنه البرِّيّ، يمضي معظم أوقاته يتنقّل ويتغذّى (واحدته بطَّة للذكر والأنثى). ولا تخلو المعاجم والقواميس من استشهاد بآيات القرآن، فيحضر هنا مع سياقات “بط”، تعبير “بَطَنَ السِّرُّ”: خَفِيَ، والآية “حَرَّمَ رَبِّي الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ”، وأخيرا يهمنا: بطَنَ الوَلَدَ أَصَابَ بَطْنَهُ بَطَنَهُ “دَّاءُ”، البَطيط: الكَذِب، والعجَبُ.

أما إذا بحثنا عن دلالة “سياسية” للبط، فسنجد بعض العناوين الصحافية والحكايات والطرف والنكايات.

نبدأ بالرئيس السادات. في (ديسمبر 1980) وبمناسبة عيد ميلاده جرى معه أخر حوار تلفزيوني مطول، واحتفالي، وكرنفالي بعض الشيء، في حياته، وذكر فيه البط، الحوار متاح على الإنترنت، وقد أعاد فيلم “السادات” نص ذلك الجزء، تسأل المذيعة كيف يحتفل السادات بعيد ميلاده، فيجيب: “هنا (في الفلاحين) بنحتفل بمولد النبى، الإسراء والمعراج، ليلة نص شعبان، بنجتمع كده، وبنجيب بطة وزة جوزين فراخ، فى المناسبات الدينية بس.. دى احتفالاتنا”. 

أنور السادات- أرشيفية

وفي مطلع سنة 2014، وعلى امتدادها، عاود البط ظهوره مقترنا بالقادة المصريين، ونقرأ بعض العناوين، وقليل من التفاصيل: “لكل رئيس مصري علامة: ناصر «كاريزما» والسادات «بايب» ومبارك «عنيد» ومرسي «بطة»”، في التفاصيل نكاية سمجة: “اشتهر الرئيس المعزول محمد مرسي، قبل توليه السلطة، بأنه يأكل «البط» بانتظام، معلومة أثبتت الأيام صحتها. فالجهاز المركزي للمحاسبات أعلن حسابات «البط والكباب والدجاج» (خلال سنة حكمه) التي وصلت 9 آلاف جنيه يوميا، حتى داخل السجن يرفض مرسي تناول العدس والبرتقال، ويصر على تناول البط والفطير وشراء الدجاج من «كانتين السجن»”، ونقرأ هذا العنوان، الذي محا ذكر مرسي: “رياضة رؤساء مصر.. فاروق صياد البط وتنس عبدالناصر وسباحة السادات واسكواش مبارك ودراجات السيسي”، أما أطرف العناوين فكان: “حفيدة السادات تطالب «الزراعة» بحماية «البط»”.

رابط البط هذا مغوي، وسيتبين ما إذا كان سيتقوى أم سيتنحى مع تقدمنا في القراءة.

***********

يخبرنا الراوي أن الابن “ارتعش للحظة متشككا في عقلها (لقولها “أبوك قال أطبخوا بطّ”)، لكنها تابعت ببساطة: “جاءني في المنام”.

منام؟.

أمعى كل كلمة استفهام وبحث؟، منام، من لا يحلم بميت قريب له، الجميع يحلم، والجميع تأتيه رؤيا، هناك مقطع مصور منتشر بكثافة على الشبكة العنكبوتية يحمل عنوان “الشيخ محمد حسان يرى سيدنا خالد بن الوليد”، ثم أن الغالبية العظمى من كبار مشايخ المسلمين، وعبر آلاف الصفحات يجمعون على أن “الحلم هو الرؤيا لكن يطلق الحلم على ما كان من لعب الشيطان وإلا فيقال: حلم، ويقال: رأى، فالرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، يعني: ما يكرهه الإنسان هذا من الشيطان، وما ليس بمكروه فهو من الله، ولهذا في الحديث (النبوي) الصحيح: الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان فإذا رأى ما يكره فهذا من الشيطان، وإذا رأى ما يسره فهذا من الله”، وبعضهم يقيم تقسيما ثلاثيا: “فما يراه النائم ثلاثة أقسام: حديث النفس، والحُلم الذي يأتي من الشيطان، والرؤيا التي هي من الرحمن”، ويشرح حديث النفس الذي يسميه “أضغاث أحلام”، وهو عبارة عن أحداث ومخاوف في الذاكرة والعقل الباطن، يعيد تكوينها مرة أخرى في أثناء النوم، وأنه لا تأويل لهذه الأشياء، وفي التفريق الدقيق بين الحلم والرؤيا يقدم المشايخ حدا فاصلا: الرؤيا تكون مركزة على توصيل رسالة معينة، وقد يراد بها تبشير بخير، أو تحذير من شر، أو مساعدة وإرشاد، بخلاف الحُلم الذي يرى فيه الشخص أشياءً متنوعة، وفي التخصيص يتكرر، لحد المطابقة، أن “رؤية الزوج الميت في منام المرأة الأرملة، ترمز إلى حسن معاملتها لأولادها، وأنها تقوم بتربيتهم على أكمل وجه، وتحسن عيشتهم، وتدل على الحنين والأمان الذي تفتقده في حياتها عقب وفاته”.

وهناك فقرة في تقديم مصطفى زيور لترجمة مصطفى صفوان لكتاب سيجموند فرويد “تفسير الأحلام”، تبدأ بجملة لفرويد يصف بها الحلم بأنه “الطريق الأمثل إلى أعماق النفس”، ويجمل، زيور، شرح حقيقة أن مسألة الأحلام شغلت اهتمام الإنسانية بأسرها، شعوبها ورواد الفكر فيها “يدلنا على ذلك ما جاء في القرآن الكريم والكتاب المقدس عن قصة يوسف، ونراه فيما وصل إلينا من آثار القدامى في الحضارات الهندية والصينية والعربية (مثل كتاب ابن سيرين وغيره). وليس أدل على ذلك من أن الملعم الأول ارسطو أفرد مؤلفين لموضوع الأحلام كما أن أب الطب هيبوقراط أنشا فصلا في العلاقة بين الأحلام والأمراض في كتابه الذي وصل إلينا.

فرويد

استدعاء، فرويد، هنا، سيعيد بناء الجملة الأولى، مرة أخرى، فنحن أمام شخص؛ بحسب كلمات فرويد “نفد بالضرورة صبره وهو يترقب الظفر بالسيادة عبر موت أبيه. (حيث) يعجز حزن الابن لفقد أبيه عن قمع فرحه إذ يظفر أخيرا بحريته”.

***********

ببساطة، إذا، قالت الأم: “جاءني في المنام”. كان جالسًا كعادته على الكرسي الكبير بجوار التلفاز، يرتدي جلابية العيد، وقال لي: اعملي بطتين يا سيدة”. ثم أصر، حين قالت له أن البط ثقيل على البطن، يُتعب في الصيام: اعملي بطتين، إنه موسم، فقالت: حاضر.

الرؤيا تضمنت أربعة عناصر: البط (هناك إصرار، وتعزيز، وتفصيل)، وهناك دلالة دينية طقوسية (الموسم) كتلك التي فصلها السادات، وهناك جلابية العيد، وهناك طاعة الأرملة. وكلها أوامر تشمل الأم والإبن. ما يجعل احتمال أن الغريب الذي قابله الذين مشوا على الماء هو الأب، الذي يرتدي جلابية العيد، واردا، وبما أن ذلك جاء عبر رؤيا، فستكون “من الله”.

***********

بعد يومين تشتغل الأم بتأويل الرؤيا: لا داعي لهذا القميص يا أحمد، ارتد الأزرق، وفسرت “الأمر” بأنها شاهدته مع أبيه وكان يرتدي قميصه الأزرق، وأعادت طلبها، منتهية إلى “ليكرمك الله اليوم”.

وهكذا انبعث “الأب” من جديد في البيت. قرارات “خطيرة” أعادت إلى (أحمد) ربكة المعدة التي كانت تصاحبه في حياة أبيه.

قرارات تستهدف الابن بالأساس، متعلقة بالعمل، والزواج (أمر باستبعاد فتاة كان يفكر في خطبتها، وأخرى اقترحها سريعا بعد الأولى). وتدرجت مشاعره تجاه “أوامره”، من التململ، والتذمر، والتفكير، والشك في (صدق) رؤيا أمه، وكانت موجات الشك تتصاعد فيغضب من أمه، أو تنخفض فيغضب من أبيه لمواصلته التحكم في البيت من قبره، حتى فكر في مغادرة البيت، وعندها أتاه أبوه في المنام.

قراءة الصفحات الأربع، وما برز خلالها من احتمالات وروابط، تنفتح على رابطين بالغي الكثافة: كتابات فرويد عن الطوطم والتابو، وكتابات هشام شرابي حول المجتمع الأبوي العربي.