في ديسمبر 2019، حصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على جائزة نوبل للسلام، بعد توقيعه اتفاق المصالحة التاريخية مع إريتريا. وأثناء الاحتفال بتسلمه الجائزة قال: “إن الحرب هي صورة مصغرة للجحيم بالنسبة لجميع المتورطين فيها”. لكن بعد أقل من عام واحد، أصبح رجل السلام متهما بأنه من دعاة الحرب، ويخوض غمار المعركة بلا هوادة ضد خصومه الأشداء من التيجراي والأورومو ومن شايعهم من القوميات الأخرى. وعلى الرغم من أن جيوش جبهة دفاع التيجراي وحلفائها باتت تقف على أبواب العاصمة أديس أبابا فإن آبي أحمد ما يزال يرفض جهود السلام ويسعى إلى حسم عسكري للصراع، في نفس الوقت الذي يفرض فيه حصارا مشددا على نحو نصف مليون شخص من المواطنين البؤساء في أقصى شمال التيجراي.
ربما يستحضر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تاريخه السابق قبل انضمامه لعالم السياسة حيث أنه بالفعل من قدامى المحاربين في بلاده. وها هو يعلنها مرة أخرى أنه سوف يتولى قيادة المعركة بنفسه بعد أن فوض نائبه في إدارة الأمور اليومية للبلاد. ليس ذلك مستغربا في السياق الإثيوبي حيث كان الأباطرة يقودون المعارك بأنفسهم. أخبرته والدته ذات مرة عندما كان طفلاً أنها تعتقد أنه سيقود إثيوبيا باعتباره الملك السابع. إنه يتحدث الآن عن الاستشهاد، إذا لزم الأمر، لتوحيد الأمة الأثيوبية.
آبي أحمد وجدلية الحرب والسياسة
رئيس الوزراء ليس غريبا عن عالم الحرب. لقد انضم مبكرا إلى حركة التمرد التي تمكنت في نهاية المطاف من الإطاحة بنظام الدرج الماركسي في البلاد، ثم انضم إلى الجيش الوطني بعد ذلك. كما أنه شارك في الحرب الإثيوبية ضد إريتريا باعتباره فنيا في أجهزة اللاسلكي، وخدم في منطقة الحدود في تيغراي، وحصل لاحقًا على رتبة مقدم في الجيش. اليوم تبدو الأدوار معكوسة بشكل كبير. مقاتلو تيغراي الذين قاتل آبي أحمد ذات مرة بجانبهم وعمل لصالحهم أصبحوا اليوم العدو اللدود، كما أنه سمح للجنود الإريتريين الذين قاتلهم ذات يوم بالانضمام إلى الحرب كحلفاء لإثيوبيا.
من الواضح أن رئيس الوزراء معروف بأنه رجل تحركه الأقدار ويعتقد أن المشيئة الإلهية تقف إلى جواره. لديه إحساس شخصي بحقه في أن يكون إمبراطورا لإثيوبيا ويتحمل المسؤولية التي تنطوي عليها. أي أن مخاطر التقسيم والتفكك تعني ضياع حلم آبي أحمد. وبتوجهه إلى جبهة القتال فإنه يتبع تقاليد الأباطرة في التاريخ الأثيوبي. لكن الأباطرة يمكن أن يسقطوا في ساحات المعركة، ويمكن للحكومات أن تسقط أيضًا. تذكر لنا كتب التاريخ أن الإمبراطور يوهانس الرابع قد قُتل أثناء المعركة مع أتباع المهدي في السودان، أما الإمبراطور توضروس الثاني فقد فضل الانتحار على الاستسلام لتجريدة عسكرية بريطانية. كما لقى آخر أباطرة أثيوبيا هيلاسلاسي حتفه بعد فترة قصيرة من الإطاحة بنظام حكمه عام 1974 على يد نظام الدرج العسكري. وقد عُثر بعد ذلك على بقايا جثة هيلاسلاسي تحت أحد مراحيض قصره. فهل يُعيد آبي أحمد هذه التقاليد ويكون مصيره القتل أو الانتحار أم أنه قد يُعيد أمجاد منليك الذي هزم الجيش الإيطالي في موقعة عدوة التاريخية عام 1896 .
آبي أحمد يرتدي عباءة منليك
ربما يحاول آبي أحمد أن يسير على خطى منليك الثاني من خلال تبني مشروعه السياسي القائم على دعم سلطة المركز على حساب الأقاليم في نظام فيدرالي ينبذ الانقسامات العرقية، وهو ما عبرت عنه فلسفة مديمر (التضامن بالأمهرية) التي أطلقها آبي أحمد لتكون مانفستو حزب الازدهار الحاكم. لقد اعتمد الإمبراطور منليك الثاني على السرديات الكبرى القائمة على الأساطير الدينية بادعاء نسبه للأسرة السليمانية، وهو ما يبرر اتخاذه المسيحية الأرثوذكسية دينا رسميا للإمبراطورية وتنصيب نفسه رأسا لكل من الدولة والكنيسة. ومن الملاحظ أن سردية خطاب آبي أحمد تحولت فيما يتعلق بمفهوم العدو الحقيقي حيث بدأ التركيز على أن أثيوبيا تواجه هجوما إمبرياليا غربيا. يعني ذلك أن قوات التيجراي والأورومو يخوضون حربا بالوكالة. وقد اتضح ذلك من حملات التعبئة الشعبية التي تقوم بها حكومة آبي أحمد ضد ما تسميه تدخلات الولايات المتحدة والدول الغربية في الشئون الداخلية لأثيوبيا. قد تكون استراتيجية آبي أحمد في اللجوء للخطاب المعادي للإمبريالية الغربية هو استحضار روح معركة عدوة ونزع الشرعية عن أي محاولة للإطاحة به من سدة الحكم. وربما نشهد حالة أقرب إلى الحكومة الانتقالية الصومالية التي كانت تتخذ من نيروبي مقرا لها وتحظى بالاعتراف الدولي.
هل تسقط أديس أبابا؟
لا تزال النتيجة العسكرية للصراع غير مؤكدة. ومع ذلك، فإن التهديد الذي تواجهه حكومة آبي المنتخبة يذكرنا بسقوط ديكتاتورية الدرج في مايو 1991. وقد تمكن منغيستو هيلا مريم من مغادرة إثيوبيا والهرب إلى زيمبابوي التي لايزال يقيم فيها حتى اليوم. فهل يلحق به آبي احمد؟ علينا أن نوضح جوهر الصراع الحالي في أثيوبيا: إنه يدور بالأساس بين أنصار النظام الفيدرالي الذي تطغي فيه سلطات المركز على حساب الأقاليم، وهذا يمثل وجهة نظر فريق آبي أحمد وأنصاره من الأمهرة، الذين يحلمون باستعادة عرشهم الذي ضاع، وبين أنصار الفيدرالية العرقية التي تدعم الحكم الذاتي والحقوق السياسية للجماعات العرقية واللغوية المختلفة في البلاد. ذلك هو الجدل الشائع في الدولة الأثيوبية الحديثة. من المرجح عدم حدوث تغيير جذري للنظام مثلما حدث عام 1991 حتى لو انتصرت قوات دفاع تيغراي وجيش تحرير أورومو – اللذان اندمجا مؤخرًا في الجبهة المتحدة المكونة من تسعة أعضاء من القوات الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية وفتحت أبواب أديس أبابا. ربما تختلف المواقف السياسية السائدة والفواعل الأمنية والتحالفات وطبيعة الجغرافيا السياسية بشكل صارخ عن الأيام الأخيرة لنظام منغستو المكروه شعبيا. أولا، لا توجد استراتيجية واضحة للتيغراي حول المستقبل. إذ إننا أمام خيارين أساسيين، إما العمل من أجل مزيد من اللامركزية ودعم سلطة الأقاليم في البلاد، أو السعي من أجل انفصال تيغراي بما يتماشى مع نص المادة 39 من الدستور الإثيوبي. وعلى أية حال فإن الهدف الحالي المرحلي هو اسقاط حكومة آبي أحمد وتشكيل حكومة انتقالية وفي نفس الوقت كسر الحصار المفروض على شمال البلاد، بالإضافة إلى تحرير ما يعتبرونه مناطق محتلة من قبل قوات أمهرة في غرب تيغراي. ولعل ذلك كله يجعل المستقبل السياسي للتيغراي على المحك إلى حد كبير. ثانيا تشكل طبيعة العلاقة المستقبلية بين التيجراي وأريتريا جزءا من مآلات الحرب الأهلية في إثيوبيا. لقد بات واضحا أن اتفاق السلام بين آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، الذي تم توقيعه في عام 2018، كان بمثابة اتفاق عسكري ضد عدوهما المشترك – الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. لقد قامت القوات الإريترية بغزو إقليم التيجراي في الأيام الأولى للحرب، وأسهمت بدور فاعل في انتصارات تحالف الجيش الأثيوبي وميليشيات الأمهرة المبكرة في المعركة.
ثالثا عسكرة المجتمع الإثيوبي وهشاشة التحالفات السياسية تسهم هي الأخرى في تعقيد المشهد السياسي. لقد أسهمت حملات التطهير المنهجية التي قام بها آبي أحمد في الجيش الوطني من خلال الإطاحة بضباط التيجراي إلى إضعاف الجيش حيث إن هؤلاء الجنرالات هم من يقودون المعركة اليوم في صفوف التيجراي. ولعل ذلك يمثل أحد الأخطاء الكبرى في حسابات آبي أحمد، حيث إنه دخل معركة وجيشه غير مجهز بشكل جيد، فضلا عن استهانته بقوة خصومه من التيجراي والأورومو. وفي نفس الوقت تعززت القوات الأمنية العاملة تحت قيادة الأقاليم. هذه الميليشيات الإقليمية من أمهرة وأوروميا وعفر ومناطق أخرى -وليس الجيش– هي التي تحملت الكثير من عبء المعارك ضد متمردي تيغراي وأورومو. وعليه فإننا أمام وضع أمني بالغ التعقيد والتشابك حيث لا يستطيع طرفا الصراع الزعم بأنهم قادرون على تحديد قواعد اللعبة وحدهم.
رابعا يمكن لمعسكر آبي أحمد الذي يملك الشرعية الانتخابية أن يواصل القتال ولاسيما أن البيئة الداخلية لأديس أبابا معادية للتيغراي. كما أن جناحي الأمهرة والأورومو في حزب الرخاء الحاكم متماسكان بسبب العداء المشترك تجاه تيغراي. ومن الواضح أن الحزب يتمتع بدعم كبير في أديس أبابا وأجزاء كبيرة من أمهرة وأوروميا وفي المدن الكبرى في جميع أنحاء البلاد وبين صفوف الإثيوبيين في بلاد المهجر. وربما يبرر ذلك تحول الخطاب الرسمي لحكومة آبي أحمد إلى استخدام مفردات الإمبريالية والدفاع عن السيادة الأثيوبية ضد القوى الاستعمارية الغربية وعملائهم في الداخل.
وختاما فقد سيطرت على آبي أحمد منذ بداية حكمه أوهام العظمة ولم يُخف ذلك حيث قال في حديث مشهور للفينانشل تايمز: “إذا كان بإمكانك تغيير أديس أبابا، فبإمكانك بالتأكيد تغيير إثيوبيا”. وبالفعل في أول يوم له كرئيس للوزراء أمر بتغييرات وتجديدات مبالغ فيها لمكتبه. كما قام بإنفاق ملايين الدولارات من أجل تجديد وفتح قصر منليك الثاني. ومع ذلك فإن مثل هذا العمل يعد مثيرا للجدل حيث يتذكر العديد من الأورومو مينليك باعتباره أحد أمراء الحرب الذين قامت قواتهم بتشويه واغتصاب نساء الأورومو. وعليه فقد رأوا، مثلهم مثل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، أن فلسفة التضامن والوحدة التي يرفعها آبي أحمد ما هي إلا محاولات مستترة لاستعادة مركزية السلطة على نمط نظام حكم منليك الثاني.
وعلى أية حال فإن ما يحدث في عاصمة الدبلوماسية الأفريقية يثبت أن كلا من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة أصبحت عاجزة بشكل واضح، وهو الأمر الذي يجعل العالم الذي نعيش فيه أكثر خطورة. كما أن القوى الغربية بترددها وتناقضها تفضل كثيرا استمرار الوضع الراهن، وهو ما يترك المجال مفتوحا أمام القوى الوسطى الصاعدة لتؤجج الصراعات بدلا من إخمادها. إن عدم فرض الإرادة الدولية للتوصل إلى تسويات تفاوضية ليس فقط في الداخل الأثيوبي ولكن فيما يتعلق بقضايا الحدود والمياه سوف يضر باستقرار وأمن المنطقة ككل وما وراءها في المستقبل المنظور.