ربما يكفي الشغوفون بالسينما مشاهدة فيلم واحد أو اثنين من بانوراما الفيلم الأوروبي، لاستيعاب الرسائل الأساسية والثيمة التي اعتمد عليها مبرمجو البانوراما هذا الموسم، فكان جليا محاولة أنسنة تصرفات الأبطال، وعرضهم دون شيطنة أو ملائكية، فشاهدنا استطرادات متعددة للإجابة على سؤال: لماذا يقدم الأبطال على التصرفات غير الأخلاقية؟ وهو ما تحقق بخوض الأبطال رحلاتهم الصعبة التي تجبرهم على تصرفاتهم السيئة.

الدورة التي واجهت تصديا نسبيا بمنع بعض أفلامها من قبل الرقابة، كان من ضمنها أفلام تفتح قضايا كالإرهاب والإجهاض التي تتعرض له النساء على نطاق واسع من العالم دون رادع قوي من القوانين. 

“لا أريد أن أرقص”

إلى جانب ذلك كانت بعض القصص حقيقية؛ مجرد سرد روائي بصري لحقائق عانى منها أبطالها، مثل فيلم “لا أريد أن أرقص” المبني على قصة حقيقية يسردها ويمثلها الفتى الذي عاشها بنفسه.

يقول مخرج “لا أريد أن أرقص” فلين ڨون كليستد لـ”مصر 360″ إن قصة الفيلم بدأت عندما رأى البطل في 2016 أثناء العمل على فيلم تسجيلي عن الموسيقى وعرف قصته وصنع فيلم قصير عن القصة ذاتها عن حياة أسرته. 

 المشاهدة الأولى للمهرجان لذلك الفيلم الهولندي الذي يحكي مخرجه فلين كلايست قصة طفلين عاشا مع خالتهما لأكثر من عامين ثم انتقالهما (جوي) البالغ من العمر خمسة عشر عام وأخاه الأصغر ليعيشا مع والدتهما ممتلآن سعادةً لذلك.

يسير كل شيء على ما يرام، المنزل منظم مهندم، وثلاجة ممتلئة بالغذاء، الوالدة في وظيفة ثابتة، ويجد (جوي) مكانًا له في فرقة للرقص. يبدو أنهما على مشارف صيف جميل؛ بينما تقع الأسرة تحت ضغط شديد حين تنجرف (دافني) من جديد تجاه إدمانها. يفعل (جوي) كل ما بوسعه لإبعاد إدراة خدمات الأطفال عن التدخل في شؤون أسرته، ولكن إلى متى سيستطيع الاشتراك في تلك الرقصة الهدامة مع أمه على حساب سعادته الخاصة؟ 

إدمان الأم لتعاطي المخدرات لا يأتي دون سياق، لا يبرر ذلك الإدمان، لكنه يمنطقه أكثر؛ نحن نشاهد سيدة تعيش وحيدة، تعمل على مدار النهار دون حماية تذكر، وحياة لا يكسر روتينها أي شيء وطريق وعرة تمامًا أمام أي فرصة للترقي الاجتماعي، إلى جانب كل ذلك خوف يومي عميق من جميعة الرعاية التي لا تزال تراقب تصرفات الأسرة كلها في فترة اختبار صلاحية الأم لرعاية الأبناء من عدمها. 

إلى جانبها شاب في مقتبل العمر غاضب على كل شيء دون وعي لأسباب واضحة لذلك، يسعى للعيش وأخيه الصغير في أسرته الحقيقية رغم قلة حيلته التي تجعله يسرق أموال فرقته الموسيقية التي يتدرب لصالحها لتسديد ديون والدته المتأخرة، كلاهما نشاهد مبررات تصرفاتهما نتيجة ضعف وقلة حيلة تعيشها الأسرة نتيجة نقص المال. 

على مدار ساعات الفيلم نشاهد تصور المخرج الشخصي لقصة بطلة في المعايشة في المجتمع أو استحالتها، ننظر إلى أنسنة الأبطال الذين نراهم دون تنزيه أو ملائكية. وهي النقطة ذاتها التي سنختتم منها آخر أفلام المهرجان.  

“لوزو”.. الإنسان مقابل العالم الفسيح في بانورما الفيلم الأوروبي

 

فيلم آخر من البانورما يؤكد لنا ما خلصنا إليه بأن الاختيارات اعتمدت على الرحلات الشاقة والمغامرات، مثل الفيلم المالطي لوزو” للمخرج الصاعد الذي يقدم أول أفلامه ألكس كاميليريي.

الفيلم حاصل على جائزة أفضل فيلم بمهرجان صوفيا السينمائي الدولي ٢٠٢١، يروي من خلاله قصة صياد مكافح يعيش في جزيرة مالطا، يضطر إلى ترك عادات ترجع ممارستها إلى العديد من الأجيال، ويضطر إلى المخاطرة بكل شيء حين يلجأ إلى دخول سوق الصيد السوداء بغرض توفير قوت العيش لامرأته وطفله حديث الولادة. خلال رحلته من أجل تحسين أحوال أسرته، يتخلى (جِسمارك) عن التقاليد ويكتشف اقتصادًا تحتيًا قائم على التهريب والتخريب. 

في دراسة للباحث الأنثروبولوجي صامولي شيلكه يقول: أن يعيش المرء بمقتضى موقف أخلاقي، يعني أن يشتبك في حالة من التأمل  -وحده أو مع الغير غالبًا- إزاء ما هو الفعل الصحيح، ما هو المهم، وما الواجب عمله. على المرء أن يزرع تلك التأملات في سياق من الأفعال والسلوكيات. لكن هذه التأملات الأخلاقية تتطلب أيضًا نسيانًا أخلاقيًا، أن يكون لديك إيمانًا بشيء، فهذا يعني أن تتشكك في الأشياء التي قد تتعرض لهذا الإيمان وتقوّضه. الأفضل حتى ألا يفكر المرء في هذه الأشياء بالمرة. على المرء أن يطور إحساسه وسلوكياته التي تجعله ساخرًا أو متساميًا أو غاضبًا تجاه الأعمال والادعاءات التي يمكن أن تنافس إحساسه بالحق والخير، على المرء أن يستعين بمعايير مزدوجة دون أن يلاحظ أنه يفعل هذا، باختصار، على المرء أن يحصّن نفسه من الآراء وسبل العيش التي تزعج إحساسه بالحق والخير. 

مشهد من فيلم لوزو

منذ المشاهد الروتينية الأولى نتابع أسرة صغيرة (شاب وزجة ورضيع) ترتبك حياتهم في اللحظة التي تخبرهم فيها الطبيبة بخطورة معيشة الطفل نتيجة الحياة الكادحة التي يعيشها أبواه والفقر الذي لا يمكنه توفير طعام وشراب مخصص للرضيع. 

تهرب الفتاة إلى والدتها لمساعدتها ماديًا في حل تلك الأزمة لطفلها، ويواجه البطل حياته منفردًا، يعمل طوال اليوم مقابل لقيمات لا تسد رمق أحد. 

كسياق عام للتحول الدرامي في حياة البطل، نشاهد رغبته في جني المال من أي شيء حوله دون انتظار لدوافع أخلاقية كانت تحركه في البداية، تلك النقطة التي خللها الباحث صامولي شيلكه بشكل نظري يمارسها البطل على الأرض: يغير مبادئ تصوراته عن العالم تبريرًا للنجاة ودعم أسرته المحتاجة. 

المعضلة المؤسسة للتحول الذي يمكن بناء الفيلم عليه هي مساحة صيد بعض الأسماك غير المسموح بصيدها في مالطا أساسًا، الأمر الذي يجعلها الأغلى بين الأسماك، في كل مرة يذهب لصيدها يضطر إلى رميها في البحر مرة أخرى، حتى في المرة التي يتنازل فيها عن مبادئة نتيجة مرض طفله يضطره مديره إلى رميها في البحر مرة أخرى. 

تصاعدات تدريجية في الموسيقى مع انفعال البطل ضد العالم ندركها مع المونتاج الذي تزداد حدته مشهدا تلو الآخر، في أحد مشاهد الفيلم شديدة الأهمية بعد أن يقرر العمل ضمن عصابة كبيرة يصطاد فيها الأسماك المحرمة ليلًا، يدرك أن مديره الذي كان يأمره برمي الأسماك في البحر مرة أخرى بعد اصطيادها تطبيقًا للقوانين، يترك علامة مميزة للعصابة الليلية التي تذهب هي لاصطيادها ودفع المقابل له. 

“هل تعلم كم سمكة من هذه اصطدت على مدار السنوات السابقة؟” كان ذلك التساؤل الذي يطرحه البطل على زميله الهندي هو ذروة الوعي الذي يصل إليه، وربما الذي يؤنسن تصرفاته مرة أخرى ويضعها في سياق حتى لو كان غير مبرر، يتذكر البطل كل تلك المرات التي ذهب لبيته مديونًا نتيجة التزامه بالقوانين.

ربما يضعنا فيلم أوزو مثلما وضعنا فيلم لا أريد أن أرقص أمام بديهية أن الإنسان قبل أي شيء، ما يسد حاجته الأساسية يمكن أن يمارس الإنسان كل شيطنته ليحصل عليه، يتركنا الفيلم الأخير أمام تساؤل مفتوح بتوبة البطل أو الاستمرار أبديًا في ممارسة تصرف يظل يمثل بالنسبة له مادة خام تذكره بخداعه وطيبته التي تسببت في خسارة سنوات عديدة من عمره لم يجن فيها المال الكافي. 

 

اقرأ أيضا:

فيلم عالم آخر.. العمل كفعل قاتل للحياة

“ثلاثية” كريستوف كيشلوفسكي.. تأملات فلسفية للخيانة