إلى كنداكات السودان.. ومصر وتونس ولبنان والعالم كله

رسالة أم مطوية بعناية وملقاة على عتبة قصر الحاكم…

وأصبحت سيرة تحكى، صورة تنشر، خبر يكتب. حبيبتي، صغيرتي، طفلتي، أصبحت أنشودة للحرية ونغم يشدو للأحزان. أصبحت قصة تقول أنها كانت. ومهما كانت، تبقى قصة تقول إنها كانت. هل لهذا معنى عندي؟ أيفضل أن تكون شيء وترحل، أم أن تكون لا شيء وتبقى..

 أفناها الوطن، ليته نفاها ولم يفنها، قضى في البداية على أحلامها ثم بدأت تموت على أجزاء، كل يوم كان يمر، كل هزيمة، كل فجيعة. جنازات زملائها، غربتها. كل مرة هاجموها. كانت تموت على أجزاء. تفقد أوراق. حتى رحلت. 

رأيتها تغتصب مرارا بكل صباح ومساء وكانت تقاوم، كانت جيلاً، حلماً، كانت أمرا مختلفا وجميلا لا يشبهني. لكن كانت تُطفأ، بالعمد. شعلة قوية ولكن رياح عاتية كانت تصر على أن تطفئها. رأيت لمعة عيونها تختفي، احتفاءها بالحياة ينقضي، انبهارها بالأشياء يموت. لاحظت التجاعيد الصغيرة بجانب عينيها، علمت أنه من أثر البكاء الطويل ليلا، ولكني لم أستطع أن أفعل شيئا. رأيت الشعر الأبيض الذي توج رأسها وهي لم تتزوج. لم تلد ولم تحمل.. لم تحمل سوى الخوف والمطاردة والحزن.

مشاركة المرأة في الربيع العربي
مشاركة المرأة في الربيع العربي

 

لاحقتها الهموم حينما لاحقت الحرية، ليتني لم أربيها سوى جاهلة لا تعي معنى لنفسها ليس فقط لكل الأشياء، ليتني ما علمتها الأسماء. علمتها الأسماء وما كانت من الملائكة بل من بني البشر. كانت ابنة آدم ولكن آدم ونسله من الأنبياء قد ماتوا.

ما أكلت التفاحة، فعادت مقبولة للجنة.

كانت صغيرة تسألني ما هذا وما هذا؟ لا تصمت للحظة، فضول تجاه كل شيء ولا تكتفي بالرد، فإن قلت لها هذا مصباح.. تقول ومن صنعه؟ وكيف صنعه؟ وما أشكاله الأخرى؟ ولماذا اخترتم هذا الشكل؟ وبكم سعره؟ ومن أين؟ وهل هذا غال ثمنه؟ وما معنى أن ثمنه غال؟

ما معنى أن ثمنه غال؟ الحرية ثمنها الدم، كنت بجوارها لما كانت تهتف بعلو صوتها وكفها في يدي مع زملائها هذا الهتاف، انقبض قلبي، وجدت نفسي أدعو ربي بأحقر دعوة يمكن أن يدعوها إنسان، قلت عساه ألا يكون دم ابنتي ياربي، تمنها الدم، فليكن. لكن ليس دم ابنتي.

لم أكن الأم الوحيدة في المسيرة، ولم يكن كل المشاركين في المسيرة سواء أبناء لأمهات أخريات، ترى كم أم رددت دعوتي؟ لما يستجب لهن ولم يستجب لي؟ هل هن مؤمنات عني؟ وما الإيمان حين أكفر بنفسي وبالوطن وبتلك الحياة؟ 

مشاركة المرأة في الثورة المصرية
مشاركة المرأة في الثورة المصرية

وما الإيمان يا أمي؟ إذا صليت وزكيت وقرأت القرآن ولم أصل الله بتزكية نفسي وإيثار الآخرين وأنفذ تعليمات القرآن بنصرة المظلوم؟ ألا نصوم عن الشهوات ونمتنع عن الدنيا لتأديب نفوسنا؟، فلم نشتهي الحياة في صمت المكلوم المذلول الخاضع؟ أليس الله الكبير له وحده الملك قد قلتم؟ 

فما الإيمان يا أمي؟

سألت أمي ذات السؤال يوما، فقالت لي طاعة الزوج من طاعة الله، كنت متزوجة حديثا، كان أبوها ليس زوجا جيدا، لكني حافظت على طاعته لطاعة الله، ثم أني حملت بها، فقلت كفى ذاك نصيبي من الدنيا، سأحيا لها وتكن وطني.

لم أشارك في المسيرة لأجل الوطن، بل من أجلها، فما الوطن؟

سألتني مرة ما الوطن يا أمي؟ كانت تبكي بحرقة بعدما ضربوها في المسيرة وقتلوا زميلهم، كانت تخسر أحلامها، وترى زهور ربيعهم يحترق بخريفا قاسيا. كنت أتشمم منذ اليوم الأول الهزيمة، لكنها أصرت أن تكمل.

لم أجب، وسألتها وأنا أضع زهرة على قبرها، ما الوطن يا أمي؟ كانت أمي قد فارقتني منذ عدة أعوام. لم أسألها يوما عن الوطن، وكنا نحتفل بأعياد الوطن كلها، نحتفي بقادتنا ونسمع خطاباتهم ونصفق ثم نجتمع عشياً لنشكو صعوبة الحياة ونأكل الحلويات ونتفرق لنتنهد من حمل المصاريف ومرارة المرض وترددنا من فتح أفواهنا بالشكوى، نندم على ما قلنا وعلما فعلنا، ونتحسر على وجودنا ونلوم غياب من لم يحضر. ثم نخلد للنوم. وبليلة العيد كنا نحلم. وكان هذا الحلم هو الوطن.

حينما كنت أحضن ابنتي ونضحك في زروع خضراء بأمان ومعنا ما يكفينا للغد من مال ولسنا خائفين من مرض ولا يشغل بالنا سوى التخطيط لغدٍ بلا قلق ولا يد عليا قادرة على هدم لذاتنا لصالح لذاتهم. كنا في الحلم موجودات. أنا وابنتي.

كيف انحدر بنا طريق الحياة إلى الموت؟ أم تلك طبيعته؟ خدعته ابنتي. لم تسر طريق الحياة. سارت إلى الموت مباشرة ولاقته. 

يا أمي تزداد صعوبة الحياة بكل خطوة نحو المستقبل، أريدها بسيطة كيف أضحت معقدة إلى هذا الحد. ما أردت سوى حياة بسيطة. كيف انتهى بي الحال في تلك الحرب؟ 

كيف كل قرار صغير يحملنا إلى بحار صخمة، وما تمنيت سوى شاطئ أرسو عليه بقاربي الخشبي الصغير، أضفر شعر ابنتي، كانت تحبه مجعد هائما، وكنت اغتاظ منها، فلنتفق على الضفيرة حلا وسطا يا صغيرتي.. ما رأيك؟ كان الجميع يعلقون ويتغامزون على شعرها. كنت أشعر بالحرج والضيق منها. 

أتساءل وقد رحلت: لماذا تخوض حروبا لتسريحة شعرها؟ 

كيف أصبحت حياتها صعبة هكذا بمثل هذا العالم.

تقول لي يا أمي أنا أحارب كي أتكلم كي ألبس كي أسرح شعري، يا أمي أنا أحارب كي أكتب، كي أعمل، كي أسير في الطرقات، يا أمي أنا محارب بلا سيف ولا درع، أدمتني الحروب وأنهكتني. لم أقرأ ما كتبته في مقالها إلا بعد أن صارت كانت..

كانت ابنتي، لم تكن فقط شهيدة الثورة، لم تكن فقط ناشطة حقوقية، لم تكن فقط ثائرة، لم تكن كاتبة نسوية. لم تكن كل تلك الصفات بالنسبة لي.. كانت طفلتي، ابنتي، كانت هي الوطن، كانت هي ثورتي، قد كانت الوطن لم يكن يفترض أن تقتلوها.