المطالبات المتكررة، الموسمية وغير الموسمية، لتفعيل الدور الرقابي لمؤسسات الدولة، لمواجهة ما يراه البعض خطرا تمثله بعض اﻷعمال الفنية على قيم المجتمع وثوابته، تعيد طرح أسئلة تقليدية حول الرقابة واﻹبداع، ولكنني أظن أن أي مناقشة جادة اليوم لهذه العلاقة الشائكة ينبغي أن توجه نظرها إلى الصورة الأشمل للمجتمع ومصالحه، وإذا ما كان اختياره ﻷولوياته يعكس سعيا جادا لتحقيق هذه المصالح. وفي مثل هذه المناقشة ينبغي أن نبدأ بطرح أسئلة عامة مثل: ما هي أولويات مجتمعنا؟ وبصفة خاصة علينا أن نتساءل عما إذا كانت أولوية مجتمعنا هي السعي لمستقبل أفضل، أم أن أولويته هي التشبث العنيد بماض لم يعد له وجود، حتى وإن أدى هذا التشبث العبثي إلى تقويض فرصه في الدخول إلى المستقبل في مكانة ووضع أفضل مما هو متاح له اليوم؟ كيف يتصل ذلك بالحديث عن الرقابة والإبداع؟ الصلة في اعتقادي وثيقة للغاية، فاﻹبداع هو أحد تلك اﻷدوات الضرورية التي بها يمكن ﻷي مجتمع أن يستخدمها في سعيه لمستقبل أفضل. بدون إبداع، لا مستقبل، فالمستقبل لا يكون كذلك دون تغيير، وبعبارة أخرى، لا مستقبل لمجتمع يعيد إنتاج حاضره، أو أسوأ، يحاول جاهدا إعادة إنتاج ماضيه، أو ما يظن أنه ماضيه، تلك الصورة الرومانسية، المشرقة (فقط ﻷنها خيالية)، والكاذبة (ﻷنها لا تنطبق على الحقيقة) لماض لم يكن له وجود أصلا. والإبداع هو ذلك النشاط اﻹنساني الذي يستشرف التغيير في المجتمع، بإضاءة حاضره وماضيه، بطرح تصورات خارج الصناديق الضيقة لما يمكن أن يكون عليه الواقع، مقارنة بما هو عليه بالفعل. اﻹبداع هو حلم دائم بالتغيير، أداة لنشر الأحلام، بل وللقدرة على الحلم في حد ذاتها، وهو لذلك محفز فعال للرغبة للتغيير، وللعمل على تحقيقه.
ما تمثله الرقابة هو الرغبة المعلنة للمجتمع في حماية “ثوابته”، أو في الحقيقة رغبته في أن يبدو أمام نفسه وكأنه يعمل على حماية هذه الثوابت. في جميع الحالات ما تعنيه “ثوابت المجتمع” أيا كانت، هو ماض مستمر في الحاضر، وحماية الثوابت هي على وجه التحديد محاولة الحفاظ على استمرارية ذلك الماضي في المستقبل أيضا. ويفترض بالرقابة أن تحقق هذا الهدف بأن تحول دون أن تمس العملية اﻹبداعية بالثوابت. والمقصود بالمس هنا يعني صورا عديدة للتعرض للثوابت، فقد يكون بوضعها موضع التساؤل بشكل مباشر أو غير مباشر، أو يكون بإضاءة آثارها العملية في الواقع، أو يكون بطرح بدائل عنها. في أكثر الأحوال، يتوسع مفهوم المس بالثوابت ليشمل عرض الصورة الحقيقية لواقع يتناقض مع الثوابت المفترضة للمجتمع، والحقيقة أن هذا هو أكثر أشكال “المس بالثوابت” إثارة لفزع الجمهور العادي، وهو فزع إنتقل حتى إلى أروقة البحث اﻷكاديمي. هذا التوسع خارج نطاق ما هو معلن من أهداف الرقابة يوضح حقيقة أنها بالنسبة للمجتمع تتعلق بصورته أمام نفسه أكثر مما تتعلق بالثوابت التي يرغب في استمراريتها، على العكس يدرك الجميع تقريبا أن الثوابت، ليست كذلك، ولكن الجميع تقريبا يهتم فقط بأن تبدو الثوابت، ثابتة، على خلاف الواقع.
تستخدم لغة الرقابة كثيرا مصطلح “قيم المجتمع“، وهي تخلط بينه وبين مفهوم “ثوابت المجتمع”، وهذا امتداد للصورة الرومانسية للماضي. ففي الخيال السائد تنتمي القيم الحقيقية للمجتمع إلى ماضيه، ولكن الحقيقة أن القيم اﻷخلاقية لمجتمع تنتمي دائما إلى حاضره، فهي ببساطة إنعكاس لممارساته اليومية، بعبارة أخرى، القيم السائدة في مجتمع هي مجموعة القواعد اﻷخلاقية التي يمكننا أن نستشفها من المعاملات اليومية بين أفراد هذا المجتمع. أما ما يسمى بالثوابت، فهي مجموعة القيم المثالية التي يظن المجتمع أنها كانت سائدة فيه في الماضي، ويحاول إيهام نفسه أنها ما زالت قائمة في الحاضر، ويبرر عدم تعبير المعاملات اليومية ﻷفراده عنها إما بسوء الظروف، أو التعرض لقيم نقيضة دخيلة على المجتمع، وتغزوه من خارجه. ويعين انتشار مثل هذه القيم الدخيلة على المجتمع، أفراد مارقون، هم في الحقيقة عملاء للخارج الذي يستهدف المجتمع سعيا لتقويض قيمه، ﻷن هذه القيم هي مصدر قوة المجتمع، وسبيله لاستعادة مجده القديم، وهو ما لا يريد الخارج (شرير الرواية) له أن يتحقق. هذه الرواية الخيالية الساذجة التي لا تمثل إلا محاولة للتنصل الجماعي من المسؤولية عن سيادة أنماط للتعامل اليومي غير اﻷخلاقي، وازدياد التوتر وتصاعد الصراع الاجتماعي، تحتاج حتى تكتمل حبكتها إلى إدعاء أن أفراد المجتمع عرضة للسقوط في فخ وسائل التأثير على عقولهم، والصور المختلفة للأعمال اﻹبداعية مرشح مثالي لاعتبارها بين هذه الوسائل. ومن ثم فهي هدف دائم للاتهام بالترويج للقيم الدخيلة على المجتمع.
تجتمع العناصر السابقة لترسم صورة المجتمع المحافظ، والذي يدعي حماية قيمه الأصيلة، في الوقت الذي يتنصل فيه من مسؤوليته عن القيم السائدة فيه في الواقع، ويلقي بهذه المسؤولية على عاتق المؤثرات الخارجية وعملائها الداخليين، ويجد في صناعة اﻹبداع مرشحا مثاليا ليكون المتهم الدائم بأنه أداة هذه المؤثرات، ويرضي نفسه بالدعم المستمر للرقابة كسلاحه في مواجهة عملاء الخارج الذين يعملون على تقويض قيمه (الخيالية)، في حين أنه في الحقيقة يرفض دائما من اﻷعمال الإبداعية ما يكشف صورته الحقيقية أمام عينيه، ما يوضح أن القيم السائدة في المجتمع، هي أولا وقبل أي شيء من صنع يديه، ومنتج مباشر لظروفه التي لا يسعى إلى تغييرها. تقوم تصورات المجتمع المحافظ دائما على أن حلول مشاكله تكمن في العودة إلى ماضيه، الذي يتخيل أنه كان مجيدا وسعيدا، وفي المجمل أفضل دائما من حاضره، ومن ثم يعادي المجتمع المحافظ فكرة التغيير، ﻷن التغيير في تصوره هو ذلك الذي انتقل به من ماضيه المجيد إلى حاضره البائس. ومرة أخرى، لا يعترف المجتمع المحافظ بمسؤوليته عن التغيير، بل ينسبه دائما إلى القوى الخارجية وعملائها. الواقع بالطبع أن التغيير المستمر هو صفة أساسية ﻷي مجتمع حي، وفي حين أن أي مجتمع سيتأثر باحتكاكه المستمر والذي يستحيل تجنبه بغيره من المجتمعات، إلا أنه في النهاية المسؤول عن اتجاه تغييره وعن القيم السائدة فيه. وهو مسؤول بصفة خاصة عن اختيار أن يستخدم اﻷدوات المتاحة له للعمل على أن يكون التغيير نحو ما هو أفضل، بدلا من أن ينتقل به من أسوأ إلى أسوأ. وبصفة خاصة، المجتمع المحافظ المؤمن بضرورة استخدام الرقابة لتقييد العملية اﻹبداعية فيه، هو المسؤول عن عرقلة الدور الحقيقي لهذه العملية، وهو اﻹسهام في توجيه التغيير الحتمي نحو أن يكون أكثر وعيا، أكثر انتقائية، ويبتغي تحقيق المصالح الحقيقية للمجتمع.
على جانب آخر، ماكينة الرقابة، التي يدعم استمرار وجودها قبول مجتمع يعتقد أنها تحقق أغراضه، هي عباءة مثالية تتخفى فيها المصلحة الرئيسية لأصحاب النقوذ وهي استمرار الوضع القائم الذي يضمن أن تظل مصادر نفوذهم بين أيديهم. وتتلاقى رغبة المجتمع في تجنب رؤية صورته الحقيقية في مرآة الأعمال اﻹبداعية، مع رغبه أصحاب النفوذ فيه في إخفاء حقيقة أن استئثارهم بموارد المجتمع ومصادر النفوذ فيه هو العامل الرئيسي وراء الظروف البائسة الضاغطة عليه. وتلتقي الرغبتان أيضا في إزاحة الضوء بعيدا عن المعاملات اليومية الواقعية الكاشفة للقيم السائدة في المجتمع ومسؤولية ظروفه الموضوعية عنها إلى الجوانب اﻷخلاقية التقليدية التي تنسب سوء ظروف المجتمع إلى علاقة سحرية لها بالانحراف اﻷخلاقي ﻷفراده في حياتهم الخاصة عن الأنماط المثالية المتخيلة، سواء كانت مستمدة من الفهم السائد للدين، أو من العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة. النموذج الفج لهذا الميل إلى إلقاء المسؤولية عن مشاكل المجتمع على السلوكيات الشخصية ﻷفراده هو العبارة الساذجة التي شاع استخدامها لبعض الوقت وهي “ينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء”! فغلاء اﻷسعار الذي هو واقع مادي له بالضرورة أسبابه الموضوعية، يمكن لخيال مجتمع محافظ أن ينحي جانبا أي محاولة جادة للبحث في أسبابه الموضوعية، ويتصور بدلا عن ذلك علاقة سحرية تربطه باختيار النساء ﻷن يغطين رؤوسهن أو أن يكشفنها. نموذج أحدث للنمط ذاته من التفكير، هو تعبير كثيرين عن تصورهم لعلاقة سحرية بين فساتين الفنانات على السجادة الحمراء لمهرجان سينمائي وبين حدث مادي له أسبابه الموضوعية وهو اندلاع حريق بأحد المباني المستخدمة لاستضافة وقائع هذا المهرجان.
إزاحة المسؤولية عن سوء اﻷوضاع إلى السلوكيات الشخصية للأفراد يخدم هدفين أولهما تجنب مواجهة اﻷسباب الموضوعية الحقيقية له، والتي تستتبع عملا جادا لتغييرها والدخول في صدام مع من هم في الحقيقة وراء تردي اﻷوضاع، والهدف الثاني هو استخدام هدف بديل لتنفيس الغضب ومرارة اﻹحباطات اليومية، بشرط أن يكون هدفا لا يخشى الصدام معه، ولذلك ففي أغلب اﻷحيان يكون الهدف من بين الفئات الأكثر ضعفا في تركيبة توزيع الفوى بالمجتمع، مثل النساء، واﻷقليات الدينية والجنسية. ويكشف التركيز على الجوانب اﻷخلاقية السلوكية الشخصية، التي لا أثر لها في الواقع العملي على مصالح المجتمع، أولا أن الغاية من أدوات الرقابة ليست حقا خدمة هذه المصالح، وثانيا أن هدف حماية ثوابت المجتمع وقيمه اﻷصيلة (سواء كانت متخيلة ووهمية أم لا) هو أيضا فارغ من مضمونه، ففي النهاية تتسع الثوابت والقيم المتخيلة لتشمل أنماطا للتعامل بين اﻷفراد وبين المجتمع ومؤسسات السلطة فيه لا تتعلق بالسلوك الشخصي في الحياة الخاضة، ولكن هذا الجانب من الثوابت والقيم يتم تجنبه طيلة الوقت.
لقد تجنبت عمدا في هذا المقال التعرض للسؤال التقليدي حول الحدود (المقبولة) أو (الضرورية) لحرية اﻹبداع، ليس فقط ﻷن هذا السؤال متكرر ولا جديد فيه، ولكن ﻷنه في الحقيقة سؤال خاطئ ومغرض، فهو ينطوي على عدد من المسلمات الخاطئة، ويخفي الأسئلة الحقيقية التي ينبغي أن نواجهها ونبحث عن إجابات حقيقية لها وفي مقدمتها، هل أولوية مجتمعنا هي السعي لمستقبل أفضل، وبالتالي لا يكون ثمة شك في أن دعم اﻹبداع الحر من القيود المعرقلة ﻷداء دوره في هذا المسعى هو أحد أهدافه الرئيسية؟ أم أن هذا المجتمع يخفي وراء إدعائه المستمر للتمسك بثوابته وقيمه الموروثة رغبة دائمة في نفاق الذات والتنصل من المسؤولية عن واقعه وعن مستقبله، وهو يدعم الرقابة بدعوى أنها ضرورية لحماية مصالحه، في حين أنها ضرورية فقط لإخفاء عوراته التي يتجنب أن يراها في مرآة إبداع حر صادق؟ لا يحتاج مجتمع يتطلع إلى مستقبله بمسؤولية وثقة في الذات إلى فرض أي نوع من الرقابة على اﻹبداع، فهو في النهاية لا يرى أفراده أطفالا لا يملكون من الوعي ما يمكنهم من اختيار ما يتبنونه من أفكار وممارسات وما ينبذونه على أساس مبادئهم وتقييمهم لمصالحهم. ليس لدى مثل هذا المجتمع ما يخشى أن يكون لعمل إبداعي أثرا ضارا عليه، فهو يدرك أنه يتغير باستمرار ويعيد إنتاج قيمه بحيث تتوافق مع مصالحه بما في ذلك مصلحته في تجانس عناصره مع اختلافها وتعايشها السلمي والودي في إطار تحقيق مصالح عامة مشتركة تشترط حماية حقوق اﻷفراد وحرياتهم إدراكا ﻷن الفرد الحر المتمتع بحقوقه هو وحده القادر على أن يكون عضوا نافعا لنفسه ولمجتمعه.