من الصعب في مقال مثل هذا أن نتناول العلاقة بين الرقابة والأدب. ليس لأنه تاريخ طويل فحسب، وإنما لأن العلاقة بينهما أكثر تركيبًا وتعقيدًا مما يبدو على السّطح.. ولا بأس هنا من هذا المدخل الذاتي الذي يكشف لنا أبعاد مفهوم الرقابة:

كنتُ طالبًا في «دار العلوم» أوائل تسعينيات القرن الماضي، وكان بعض الأساتذة الذين يحاضرون في الشعر القديم يحرصون على حذف بعض المفردات من قصائد الغزل والهجاء، ويضعون عدة نقاط على السطر مكان اللفظ المحذوف.. وبالتأكيد لا يوجد قانون يلزم الأستاذ بذلك، بل إن تقاليد العلم وأعرافه توجب عليه تقديم النص كما هو دون حذف أو تحريف، ولكن الأساتذة يتجاهلون ذلك العرف ويمارسون هذا القدر القاسي من الرقابة الذاتية على نصوص شعرية.. وقد نفسر هذا السلوك بالخوف من انتقاد المجتمع، باعتباره – أي الأستاذ – مربيًّا ومؤتمنًا على طلابه، ولا يجوز له أن يقدّم مادة يراها المجتمع تنتهك أخلاقه.. وقد تكون هذه قناعة الأستاذ الشخصية ونظرته إلى الشعر، وهذا – إن صحّ – يعني أننا إزاء معضلة كبيرة، تتجاوز فكرة الرقابة ذاتها إلى الطريقة التي يتكون بها الباحث ووعيه بمفهوم الشعر والفن عامة!

هذه إحدى صور الرقابة الأخلاقية التي تطول الأدب. وهي كما ترى رقابة صامته، لا صخب فيها، وتكاد تمر دون أن يشعر بها أحد، وربما بدا الأمر طبيعيًا بالنسبة لشرائح واسعة من  الناس.. وإذا كان القارئ (حالة الأستاذ هنا) هو من يقوم بهذه الرقابة الذاتية على مادة يختارها بنفسه، فإن الرقابة الذاتية كثيرًا ما تسبق فعل القراءة أو عملية التلقي ذاتها، وذلك حين يمارسها المبدع نفسه على نصوصه قبل الدفع بها إلى النشر، وهذا يعرفه المختصون جيدًا حين يقارنون بين مسودات العمل الأدبي قبل طرحها للنشر وما استقرت عليه نسختها الأخيرة بعد ذلك..!

هذا يعني أننا إزاء تاريخ طويل من التلازم بين الفعل الإبداعي والفعل الرقابي، حتى ليصعب الحديث عن الأدب دون الحديث عن الرقابة التي تأخذ أشكالاً ومستويات مختلفة، بداية من الرقابة التي يمارسها المبدع أو الأديب على نفسه لحظة الكتابة، مرورًا بالسلطة الدينية والاجتماعية وانتهاء برقابة السلطة السياسية التي تستبعد ما لا ترضى عنه، أو لا يعبر عن إيديولوجيتها.

*

وقد يكون لفظ الرقابة نفسه معاصرًا، ولكن الفعل الرقابي نفسه قديم قدم الأدب، اتخذ تسميات متعددة، على نحو ما نجد في الشعر الجاهلي الذي ينقسم إلى شعر رسمي ترضى عنه القبيلة وتفتخر به، وشعر آخر مستبْعَد كتبه شعراء صعاليك، رفضوا قيم القبيلة وتمردوا عليها، وأبوا أن يدوروا في فلكها، ولم تستبعد القبيلة الشعر (المُتَصعلك) من مروياتها ومآثرها فحسب، وإنما نفت شعراءه خارج حماها الجغرافي، ليقضوا حياتهم في البراري، دون حماية أو روابط تصلهم بها، فهم (الصعاليك) أو الهامش الشعري المُسْتَبعد مقابل المتن الراسخ المستقر.

ومع الدولة العربية والإسلامية الأموية والعباسية، ومع ترسخ الحكم الاستبدادي تحديدًا، وكراهية المستبدين لكل رأي مخالف، لاسيما لو كان يدعو إلى رفض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وينفي فكرة الطاعة، مع هذه الدول سوف نشاهد أشكالاً من الرقابة أكثر حدة، مثل حرق كتب الفلاسفة، ومنع إعادة نسخها، وهذا الخوف جعل بعض الكتّاب يحذر من نسبة الكتاب إليه، ويفضل أن يطرحه دون أن يدلّ عليه، على نحو ما نجد في تراث “أخوان الصفا” الذين كانت لهم تفسيرات دينية لا ترضي التوجه الفقهي المحافظ، وكانت لهم أيضًا آراء سياسية لا ترضي نظرية الحكم القائمة، واحتالوا على بعض هذه الآراء بإيرادها على ألسنة الطير كما في رسالة الحيوان التي وجهوا فيها نقدًا لاذعة لاستبداد الخلفاء على لسان «زعيم الجوارح».

ولم يقتصر الفعل الرقابي على ذلك المستوى، بل أمعن المستبدون في عقاب مخالفيهم، وعرفت الرقابة آليات القتل أو السجن بين جدران ضيقة لا مكان فيها إلا للخرس والعماء والظلمة، ويطول بنا المقام لو حاولنا سرد مصائر كثير من الكتاب والشعراء وحتى الفقهاء الذين لم تقبل بآرائهم رقابة السلطة: ففي عهد الخليفة العباسي المنصور (136- 158) قُتِل على نحو بشع الكاتب «ابن المقفع»، و«سديف» الشاعر، كما سُجن الفقيه المؤثر «أبو حنيفة النعمان»، وفي عهد الخليفة المهدي (158- 159) قتل الشاعر «بشار بن برد» و«حمّاد عجرد»، و«عبد الكريم بن أبي العوجاء»، وفي خلافة الرشيد (170- 193) قتل «صالح بن عبد القدوس»، و«مروان بن أبي حفصة»، وقتل «دعبل» في عهد المعتصم.. إلخ.

*

المصير المخيف حاول الكُتّاب والمبدعون أن يتحاشوه، ومن هنا تحديدًا عرف الأدب فكرة القناع والرمز والتعبير الكنائي، وكثيرًا من التقنيات التي تجعل للنص ظاهرًا ليس هو المقصود، وباطنًا هو عين المراد.. بمعنى آخر، حاول الكُتّاب البحث عن حِيَل كتابية وفنية تمكنهم من تمرير وجهات نظرهم دون أن يقعوا تحت مقصلة الرقابة.

واللافت أنه مع الوقت نسي قرّاء الأدب والأدباء أنفسهم الأسباب التي جعلتهم يوظفون هذه التقنيات، لتصبح جزءًا من نسيج الأدب، تمنحه هوية مميزة، فالأدب – بطبيعته – استخدام خاص للغة، استخدام مكثف، لا يقول ما يريد بطريقة مباشرة، ولا ينشغل قراؤه بما قيل بقدر انشغالهم بالطريقة التي قيل بها.. وهذا ما جعل الأدب لا يخلو من غموض، وكل غموض في حاجة إلى بيان وتفسير، وما يميز الأدب عن غيره من أشكال التعبير الأخرى هو كثافته الدلالية التي تجعله يقبل أكثر من تفسير، بل إنها منحته القدرة على الحياة المتجددة، فكل تفسير إحياء له، ولا زلنا حتى اليوم نقرأ الأدب القديم ونقدّم له تفاسير معاصرة تثريها هذه التقنيات وتلك الحِيَل الرمزية التي هي في الأصل محاولة للهروب من متابعة السلطة وقسوتها.

يتحدث جابر عصفور في مقالة شهيرة له عن «بلاغة المقموعين»، ويقصد بها تلك التقنيات التي أنتجها الكتاب والمبدعون الذين وقفوا في صفوف المعارضة السياسية والاجتماعية للسلطة الزمنية، وما امتازت به هذه البلاغة من خصائص محددة، يأتي التمرد والتجديد على رأسها، وذلك مقابل بلاغة أخرى أنتجها المبدعون والكتاب الذين عاشوا في وفاق مع الدولة والسلطة، وهي بلاغة تمتاز بالثبات والمحافظة والاجترار. أنتج المقموعون بلاغة تقوم على «التلطف» و«التعريض» و«التلميح» و«التورية» وكل ما من شأنه أن يمرر خطابهم بعيدًا عن رقابة السلطة.

لقد عرف شعرنا المعاصر – على سبيل المثال – تقنية القناع، حيث يستدعي المبدع شخصية تراثية شهيرة كالمتنبي أو صلاح الدين مثلاً، يقول على لسانها ما يريد أن ينتقده في عصره وزمانه بشكل غير مباشر، ودون أن تتمكن السلطة من اتهامه بشيء محدد، وانتشرت هذه التقنية في حقبة الستينيات وما بعدها، ولم تقتصر على الشعر وحده وإنما شملت الرواية والمسرح أيضًا، وبدت ذات جماليات خاصة، ليس هنا مجال الوقوف عندها، فقط نشير إلى أن التفكير في هذه التقنية ما كان له أن يوجد لولا الخوف من الرقابة والرغبة في قول وجهة النظر الخاصة أو المبدعة دون أن تنتبه الرقابة لذلك، وهذا ما صرّح به أكثر من كاتب، وعلى سبيل المثال، يصرّح الشاعر العراقي “بدر شاكر السياب” في حوار له، حين سئل عن سبب لجوئه إلى تقنية القناع، قائلاً:

«كان الواقع السياسي هو أول ما دفعني لذلك؛ فحين أردت مقاومة الحكم السعيديّ بالشعر، اتخذتُ من الأساطير – التي ما كان لزبانية نوري السعدي أن يفهموها – ستارًا لأغراضي تلك، كما استعملتها للغرض ذاته في عهد قاسم…”. ولعل ما قاله السياب كان تطبيقًا فنيًا لوصية أبي نواس حين قال، قبل قرون بعيدة:

                  إنّ في التعريضِ للعَا ** قِـلِ تفسيرَ البيانِ

**

ومما يؤسف له عصرنا لم يتقدم كثيرًا عن هذه الأجواء التي عرفتها العصور الوسطى، رغم حديثنا عن الدستور والقانون والحريات والمؤسسات المستقلة.. فالواقع يؤكد – كل يومٍ- أن الرقابة في عصرنا تعرف كل هذه الصور السابقة من القمع والاستبعاد والسجن والقتل، ففي أوائل القرن وتحديدا عام1926م يضع طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي”، ومعه تبدأ معركة هائلة تتهم الرجل في دينه، وتدعو إلى سحب الكتاب من المطابع والتحقيق مع صاحبه، ورغم تبرئته من قبل النيابة العامة وقتها، فقد أعاد طبع الكتاب بعد تغيير الفقرات التي كانت مثار سخط وغضب، وقبله بعام واحد كنا على موعد مع معركة الشيخ «على عبد الرزق» مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهو الكتاب الذي قوبل بانتقاد عنيف من الأزهر والسلطة الملكية معًا، وهو ما انتهى بهيئة «كبار العلماء» إلى إصدار حكمها بالإجماع بإسقاط درجة “العالَمية” عن المؤلف، ومن ثم عزله عن وظيفته بالقضاء الشّرعي.

لقد صار الأزهر منذ ذلك الزمن مؤسسة رقابية تقف بالمرصاد للكتاب والمبدعين، وأنت بالتأكيد تتذكر موقف الأزهر من رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، بعد أن نشرت مسلسلة في الأهرام، ورغم أن السلطة السياسية لم تعترض وقتها على الرواية، إلا أن صوت الأزهر ظل قويًّا مهيمنًا، وطبعت الرواية في لبنان، وظلت من الكتب المحظور طباعتها في مصر حتى أوائل الألفية، وبسبب هذا المنع، وما أثير حول الرواية وصاحبها من تهم تصل إلى حد التكفير، كان ذلك سببًا مباشرًا في محاولة اغتيال نجيب محفوظ فيما بعد على يد أحد شباب الإسلاميين..!

وقد يحتشد الأزهر ليواجه عملاً روائيًا بعد صدروه، على نحو ما حدث أواخر تسعينيات القرن الماضي مع رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري «حيدر حيدر»، فقد سحبت نسخها من الأسواق والمكتبات بعد طباعتها في الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة.

ومع ثورة التواصل والحضور البارز لوسائل التواصل الاجتماعي، ازدادت هيمنة الرقابة الاجتماعية والسياسية، بل بات الأمر أكثر صعوبة؛ فلم نعد إزاء مؤسسات دينية يمكن التحاور معها حتى لو اختلفنا معها، وإنما صارت الرقابة فعلًا متشظيًّا، يقوم به بعض الأفراد من النشطاء، بصرف النظر عن حظهم من الثقافة أو قدرتهم على تقييم الموضوع من عدمه؛ إنهم يتحركون حماية لما يرونه عدوانًا من قِبَل الكتاب على قيم المجتمع، وما ينتهي إليه ذلك من سجن البعض وتخويف للبعض الآخر، وقبل أيام قليلة قضت محكمة أمن الدولة بسجن الأستاذ “أحمد عبده ماهر” خمس سنوات، بعد بلاغ قدمه أحد المحامين الذين لم يعجبهم بعض ما قاله الكاتب..!

وهكذا تمضي حياتنا، وكأننا – ونحن نعيش بأجسادنا في العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين – لا نزال نعيش بعقولنا ووعينا أجواء القرن الثاني والثالث الهجريين، وكأنّ أكثر من ألف عام مضت لم تغير شيًئا: فلم ندرك قيمة الحرية، ولم نبنِ مؤسسات دستورية وتنفيذية مستقلة، ولم ندرك قيمة الاختلاف وأهميته في إثراء الأفراد وتنوير المجتمعات.