تركت الزيارة التاريخية لوزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس إلى الرباط، وما رافقها من اتفاقيات أمنية، جملة من الأسئلة حول الدلالات والتداعيات المحتملة في أفق التقارب الإسرائيلي المغربي الآخذ في التزايد، في وقت تشهد فيه المنطقة متغيرات على كافة الأصعدة، سواء ما يتعلق بتقارب الخصوم خلال السنوات الأخيرة، أو تلك المتعلقة برسم حدود جديدة للعلاقات مع إيران، الدولة النافذة في المنطقة.
إشارات لفهم سياق الزيارة
يمكن فهم أهمية زيارة أول وزير دفاع إسرائيلي إلى المغرب، الأربعاء الماضي، في ضوء التفاعل الذي أحدثته لدى أطراف، رأت ضررًا في التقارب بين البلدين اللذين وقعا اتفاق سلام في ديسمبر 2020 بوساطة أمريكية. وهنا الحديث يدور حول تعليقات جزائرية اعتبرت أن بلادها هي المستهدفة من هذه الخطوة المربكة للكثير من الملفات.
الأطراف المتضررة
أما المغرب فقد رفعت السقف المتوقع لعلاقاتها مع إسرائيل، حسب قال وزير خارجيتها ناصر بوريطة: “سنذهب إلى أقصى حد ممكن في تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين (المغرب وإسرائيل)”. لكنه سرعان ما رد رئيس مجلس الأمة الجزائري صالح قوجيل، الخميس، بالقول: “عندما يتعلق الأمر بزيارة وزير دفاع هذا الكيان للمغرب فإن الجزائر هي المقصودة (المستهدفة)”.
بعدٌ آخر من الزيارة الأمنية، يتعلق بمسرح جديد للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية، في ضوء أن المغرب أصبح خلال السنوات الأخيرة هدفاً لنشاط إيراني متزايد، برز في دعم طهران لجبهة البوليساريو، التي رأت في الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية في الصحراء خطأ، مهددين بزيادة نشاطها العسكري، وهو ما يمكن معه فهم طبيعة المواجهة المحتملة وإطارها.
لذلك رأت وسائل إعلام إسرائيلية أن تزايد الوجود الإيراني، يشجِّع إسرائيل على مساعدة المغرب لتحسين قدرتها على التعامل مع التهديدات الإيرانيية المتزايدة في شمال أفريقيا، كما يرتبط الأمر بالسياسة الأمريكية الراعية لاتفاق السلام بين دول عربية وإسرائيل، والمعادية للسياسة الإيرانية في المنطقة.
التغيرات الإقليمية
في المقابل، ثمة نظرة تسميها وسائل إعلام مهمة بالحراك الإقليمي الحالي “إيجابية” تتعلق بالجهود الجارية لخلق شرق أوسط جديد، خالٍ من الاضطرابات، باعتبار أن المنطقة مقبلة على مرحلة إعادة ترتيب التوازنات، تعلو فيها المصالح الاقتصادية على الأولويات الأيدولوجية، من خلال خطوات تستهدف تصفير الأزمات، وتضييق الخناق على أهداف معينة راغبة في التصعيد.
في سياق هذه التغيرات، وقعت دول خليجية اتفاقيات سلام مع إسرائيل “اتفاقية أبراهام” في أغسطس 2020 قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي ساعدت في إرساء علاقات تعاون بين الطرفين، وكانت المغرب هي رابع الدول الموقعة على الاتفاقية على خطى الإمارات والبحرين، مما ساعدها في الحصول على الدعم الأمريكي في بعض الملفات. وعلى الجانب الإسرائيلي تفيد هذه الاتفاقيات في الحصول على دعم عربي إسلامي شرق أوسطي بعد عقود من العداء، ويخرج إسرائيل من عزلتها، ويضيف لها بعدًا آخر في المشاركة ببعض قضايا الشرق الأوسط كفاعل رئيسي.
بعدها شهدت العلاقات الخليجية الداخلية بعض التغيرات على وقع طي صفحة القطيعة الخليجية، من خلال “اتفاق العلا” الموقع في يناير 2021 بين دول الرباعية العربية وقطر، تلا ذلك، تخفيف حدة التوترات مع تركيا، وتبادل قادة الخليج الزيارات والاتصالات مع الرئيس التركي رجب أردوغان في محاولة لإعادة هيكلة العلاقات.
وعندما وصل وزير الدفاع الإسرائيلي إلى المغرب، كان ولي العهد أبو ظبي محمد بن زايد في زيارة مهمة إلى تركيا. أثمرت عن اتفاقيات تعاون اقتصادية، لاسيما بين شركة أبوظبي للموانئ وصندوق الثروة السيادية التركي، وهو ما يرسم طبيعة العلاقات المرتقبة بين الطرفين، من حيث التركيز على الصفقات التجارية والتعاون، وفتح آفاق جديدة للعمل المشترك بين أبوظبي وأنقرة.
إزاء ما سبق، يمكن فهم سياق الزيارة الأمنية التاريخية لوزير الدفاع الإسرائيلي إلى المغرب، في ضوء تغيرات إقليمية ليست بعيدة عن إعادة هندسة الشرق الأوسط، وفق مصالح بعضها اقتصادي وبعضها الآخر يستند إلى نبذ التوترات التي أرهقت المنطقة.
دلالات التقارب
بينما تركت الزيارة بعدًا عسكريًا وأمنيًا رئيسيًا لكن ثمة دلالات أخرى تتراوح درجة أهمية وتتباعد حسب التغيرات المستقبلية بالمنطقة على النحو التالي:
التعاون العسكري
يمكن تصنيف الزيارة في إطار السباق العسكري التي تحاول إسرائيل إظهار إمكانياتها فيه، خاصة في محيط الشرق الأوسط، لذلك يبعث إرسال القائد العسكري رسالة هامة، يؤكدها الاتفاق الذي أبرمه الطرفان، ومن خلاله يعمق التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي. لذلك ذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، أن اتفاقيات التعاون الدفاعي بين المغرب وإسرائيل تستهدف برامج لتطوير صناعة إنتاج طائرات الدرونز لتعزيز سلاح الجو المغربي.
تجدر الإشارة إلى أن ثمة تعاون بالفعل في مجال الأسلحة بين الطرفين. ففي العام الماضي، حصل الجيش المغربي على 3 طائرات استطلاع غير مأهولة إسرائيلية من طراز “هيرون” بقيمة 48 مليون دولار. كذلك في مجال التكنولوجيا العسكرية، حيث كانت المغرب ضمن قائمة الدول المستوردة لتطبيق بيغاسوس الإسرائيلي.
أهمية المغرب إزاء المشروع الإسرائيلي
تمثل المغرب أهمية لدى المشروع الإسرائيلي بالمنطقة، سواء ما تروِّج له تل أبيب من منطلقات سلام، أو حتى النفوذ العسكري. ظهر ذلك من خلال دوافع مشتركة للبلدين نحو ترسيخ التعاون في مختلف المجالات، وهوما يبرز عبر حجم الاتفاقيات التي وقعها إسرائيل والمغرب منذ اتفاق أبراهام في ديسمبر 2020.
منذ الاتفاق، تبادل البلدان فتح مكاتب الاتصال، كما وقعا مذكرات تفاهم بشأن الطيران المدني واستكشاف الموارد الاستخراجية. كذلك أدرجت التاريخ والثقافة اليهودية في مناهج المدارس الابتدائية، وبلغ عدد الزوار الإسرائيليين في المغرب نحو 70 ألفًا خلال عام 2020. كما وقعت المغرب مع إسرائيل اتفاق تعاون في مجال الأمن السيبراني والدفاع الإلكتروني في يوليو الماضي.
وفي أعقاب زيارة وزير خارجية إسرائيل “يائير لبيد” إلى المغرب في أغسطس الماضي، استبدلت مكاتب الاتصال الدبلوماسي بينهما بسفارتين. كذلك وقعت شركة راتيو بيتروليوم الإسرائيلية اتفاق تعاون في مجال التنقيب عن الغاز على الساحل المغربي، ومؤخرًا جرى إطلاق خط جوي مباشر بين الدار البيضاء وتل أبيب.
البعد الجزائري
كانت إسرائيل سببًا رئيسًا ضمن مبررات قيام الجزائر قطع علاقاتها مع المغرب في أواخر أغسطس الماضي. وذلك، على خلفية اتهامات من بينها ضلوع المنظمتين الإرهابيتين المدعوين “ماك” و”رشاد” بالتعاون مع المغرب وإسرائيل في حرائق الغابات التي دمرت بعض المناطق في الجزائر. وكذلك قيام الأجهزة المغربية بالتجسس على الهواتف الخاصة ببعض المسؤولين في الجزائر باستخدام برنامج “بيجاسوس” الإسرائيلي. كذلك التطبيع بين إسرائيل والمغرب الذي وصفته الجزائر بأنها في مواجهة حملة اعتداءات ممنهجة من جانب الشريكين.
كما عارضت الجزائر قرار الولايات المتحدة بإعلان سيادة المغرب على الصحراء في مواجهة جبهة البوليساريو التي تدعمها الجزائر. وأعلنت تصميمها على موقفها الداعم “لحرية الشعوب في تحديد مصيرها”، لذلك كان وجيهًا أن تعبر الجزائر عن امتعاضها من زيارة جانتس، وتعتبر أنها تستهدفها.
الدور الأمريكي
واقعيًا لا يمكن إغفال الدور الأمريكي في هكذا تطورات. إذ عقدت تسوية غير رسمية بين المغرب والولايات المتحدة تشمل التطبيع مع إسرائيل مقابل الاعتراف الأمريكي بسيادة والضم الفعلي للصحراء الغربية. لذلك كانت المغرب أكثر الدول المتحمسة لفتح العلاقات مع إسرائيل، من خلال التحرك السريع لتفعيل التعاون في مجالات مختلفة، على رأسها التعاون العسكري. وهي بذلك تستهدف الحصول على الدعم الدولي والأمريكي المستدام في مختلف الملفات.
مساحات إسرائيلية في أفريقيا
تطمح إسرائيل لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا، والذي يفتح المجال أمامها للتحرك نحو الساحل وإيجاد موطئ قدم بين القوى المتنافسة. إضافة إلى مواجهة إيران التي نشرت أذرعها في غينيا ونيجيريا. كذلك حاولت إسرائيل الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي حتى تكتسب مهام مؤسسية للمشاركة في مصير القارة. وهو ما يشير إلى أن ثمة المزيد من الاتفاقات العسكرية بين إسرائيل والدول الأفريقية.
جبهة ضد إيران
تعتبر إيران عدوًا مشتركًا لإسرائيل والمغرب، خاصة أن الأخيرة تندد باستمرار بمحاولة إيران تهديد وحدة الأراضي المغربية وأمنها. وذلك من خلال دعم جبهة البوليساريو، وتدريب عناصرها ومنحها السلاح من خلال أذرع حزب الله في غرب أفريقيا. لذلك عبّرت إيران عن استيائها إزاء اتفاقية أبراهام بين المغرب وإسرائيل.
وعلى الجانب الآخر، تحاول الإسرائيل الحد من نفوذ إيران الممتد في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وكذلك في شمال أفريقيا. لذلك ندد وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد بالعلاقة بين الجزائر وإيران في زيارته الأخيرة للمغرب. حين قال: “نتشارك بعض القلق بشأن دور الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربًا من إيران”. كما دعا وزير الدفاع في مؤتمر أمني بجامعة رايخمان بضرورة التحرك الدولي لتحجيم الانتشار النووي الإيراني.
لذلك إذا ما وُضعت هذه التطورات في سياق تفاعلات إقليمية أخرى، فإن ثمة محاولات من دول الخليج وإسرائيل وتركيا لبناء إطار تعاوني أمني، وبناء دائرة إقليمية تفاعلية في مواجهات الأخطار الخارجية. من جانب آخر تعتبر إيران في موقف هش أمام هذه الكتلة الإقليمية. مما يحد من خياراتها، فإما تقديم التنازلات أو اندلاع صراع مترامي الأطراف.
تداعيات محتملة
بالتأكيد، ستخلق هذه التطورات تفاعلات على صعيد ملفات أمنية وسياسية بالمنطقة، سواء بدافع بعض الأطراف حماية مصالحها أمام تكتلات آخذة في التشكل أو من قبيل المبادرة لاختبار قدرات الآخرين.
– جبهة البوليساريو: قد تكون خطوة التقارب المغربية الإسرائيلية على الصعيد الأمني دافعًا لتوجيه مقاتلي الجبهة ضربات استباقية، تخوفًا من أن تسبب “اتفاقية الدرونز” قلق الصحراء من احتمالية شن هجوم ضدها.
– التوترات مع الجزائر: باعتبار أن الجزائر الخصم المشترك للمغرب وإسرائيل، فإنها قد لا تقف مكتوفة الأيادي أمام تنامي التقارب بين الدولتين، وهو ما يهدد تماسك شمال أفريقيا. بدا ذلك من تهديد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون: “سنهاجم كل من يتجرأ على مهاجمتنا، العين بالعين والسن بالسن”.
– مواجهة أفريقية: بدت ملامح جبهة في إطار التنافس الإقليمي، إذ يتوحد الموقف المغرب مع دول الخليج العربية في التعاون في إسرائيل. وبالتالي تصبح أفريقيا ساحة مواجهة بين الخليج وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى.
– تحركات إيرانية: كنتيجة طبيعية لهذه التطورات، ليس مستبعدًا عن تكثف إيران تحركاتها في المنطقة، وذلك من خلال التواصل ودعم جماعات وحركات تمرد أو معارضة، لاسيما الجبهات المغربية التي شكلت حراكا لرفض التطبيع مع إسرائيل.
للمزيد..
اقرأ أيضًا| تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل.. دوافع ترامب وبراجماتية محمد السادس
اقرأ أيضًا| التطبيع يؤجج صراع الصحراء بين المغرب والجزائر
اقرأ أيضًا| العلاقات الجزائرية المغربية.. تاريخ من الخلافات أشعلته نار الغابات