ترددت بين عنوانين لهذا المقال، كان العنوان الذي فرض نفسه بحكم جوهر الموضوع هو: «الناصريون والمراجعات الفكرية المطلوبة»، وقبل أن أنتهي من كتابة المقال كنت عدلت إلى اختيار عنوان آخر، يكون أكثر حميمية، فاخترت العنوان الذي سبقني إليه أستاذنا المفكر الكبير الدكتور «عصمت سيف الدولة» في كتيب شهير في أوساط القوميين، عنوانه «عن الناصريين وإليهم»، رأيت أنه ربما يُخفف من وقع بعض الأفكار الواردة في المقال، أو ربما يصنع مناخا أكثر تقبلا لما ورد فيه، ليساعد في أن يلقى المقال (من ذوي الشأن) قبولا حسنًا كما سعيت، وكما تمنيت، واعتبرته مقدمة طبيعية للحديث عن «المراجعات الفكرية المطلوبة» التي نُفرد لها مقالنا المقبل إن شاء الله.

**

أول خطوة ضرورية في الطريق إلى المراجعات المطلوبة من الناصريين، تبدأ بالخروج السريع والواعي من عباءة تقديس التجربة، والفكاك من فكرة الخوف من الخوض في نقدها، ومغادرة كهوف التموضع وراء متاريس الدفاع المستميت عن كل شيء، وكل فعل، وكل حركة، وكل إجراء، وكل سياسة جرت في عهد الزعيم الراحل «جمال عبد الناصر».

لقد ورث الناصريون عن شيوخهم سلوك الدفاع عن التجربة، وحَالَ وجودُهم في صدارة المشهد الناصري طويلا دون الخروج الواعي من عباءة الشخص وعبء التجربة، إلى رحابة الفكرة وعمق الفهم.

في السابق، في ظروف «الردة» على التجربة الناصرية في بدايات السبعينيات، كان يكفي الانحياز للبطولة التي مثلها «جمال عبد الناصر»، وكان يكفي رفع صورته، وترديد أغاني الثورة، والدفاع عن تجربته، كان ذلك ساعتئذٍ كافيا لتجميع «التيار الناصري» تحت راية واحدة، هي راية «عبد الناصر البطل»، قائد التجربة الفذة في التاريخ المصري، وصاحب الإنجازات المعجزة في فترة زمنية قصيرة، استطاع عبرها أن يغير وجه الحياة على أرض مصر، وأن يترك وراءه مصر أخرى غير التي استلمها، مصر القادرة على أن يتطلع شعبها بثقة أكبر إلى مستقبل أفضل.

ولكن الأمور جرت في مسارات معاكسة، ومناقضة ومنقلبة على كل تلك الآمال. ما طرح السؤال: لماذا انقطعت التجربة، وارتدت السياسة، بآليات النظام نفسه، بل برجال منه كانوا قادة فيه، وجزءا من تركيبته؟

**

الآن، وبعد مرور كل هذه السنين، وبالنظر إلى كل تلك المياه العكرة التي جرت في النهر، وبعد كل ما حدث من متغيرات وتطورات، وبعد تراجع أدوار القوى السياسية كلها، بما فيها التيار الناصري، لم يعد يكفي أن تقوم «صورة» بجمع الناصريين، حتى ولو كانت صورة «عبد الناصر»، ولم تعد تكفي مشاعر الحنين إلى عصر وعهد وتجربة حتى ولو كانت «التجربة الناصرية».

ضريح عبدالناصر
ضريح عبدالناصر

لا ننكر أن «الناصريين» وعوا مبكرا فكرة أن يتحول الانتماء إلى الناصرية من «الشخص»، نحو الانتماء إلى «الموضوع»، وإن ظلت فكرة الانتماء إلى «عبد الناصر» بكل ما يمثله في وعي الناصريين ووجدانهم تُلقي بظلالها حتى اليوم على فكرة الانتماء إلى الموضوع الذي كان «ناصر» يمثله في ظروف وملابسات ومعارك وأحوال لم تعد قائمة اليوم.

هذه الأحوال المتغيرة تلقي بمهمة ثقيلة على كاهل هذا «الجيل» الذي ما زال يحمل على كاهله الفكرة الناصرية، هذه المهمة هي تقديم مراجعات فكرية ضرورية ومطلوبة وملحة، تتضح من خلالها «الناصرية» وتتبلور أكثر فأكثر، لتصبح نظرية يقدمها الناصريون للشعب العربي في ظروف متغيرة، ومتغيرات هائلة في الواقع العربي الراهن.

في الحقيقة أن هذا «الجيل من الناصريين» يحمل على عاتقه مهمة مزدوجة، أن يترك وراءه ـ أولا ـ تجربته النضالية، بإخفاقاتها قبل نجاحاتها، ودروسها والعبر المستفادة منها، وأن يقدم ـ ثانيًا ـ قراءة نقدية (تتحلى بالموضوعية والتعمق) لتاريخ ثورة يوليو، وفي القلب منها التجربة الناصرية، وهو مؤهل لأن يجترح هذه القراءة النقدية التحليلية، المهمومة بأن تنير مصابيح للمستقبل وآماله، أكثر من اهتمامها بتبرير الماضي وأخطائه.

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

**

يُفاجئ الناصريون باتساع رقعة الهجوم (الموسمي) الشرس الذي يتصاعد مع كل مناسبة لها علاقة بثورة يوليو أو تمت بصلة إلى «عبد الناصر»، ولعل أكثر ما يفاجئهم أن يجدوا بعض شباب ثورة يناير المغدورة، يفتعلون تناقضا بين ثورتي يوليو ويناير، وهي لا شك نظرة سطحية، ربما يذكيها البعض من الاتجاهات السياسية والفكرية المتخاصمة مع الثورة «الناصرية» كتجربة وكمفهوم وكنظرية، ولكن يبقى أن هذا الهجوم المتواصل والمتصاعد يحمل في طياته الأمرين معا:

الأول سلبي: يتبدى فيه أن هناك كثيرين (من الشباب خاصة) ينحاز ـ بدون وعي معمق ـ إلى موجات الهجوم (التهجم) على «عبد الناصر» وثورته وتجربته، ما يترك التجربة عرضةً للاستباحة غير الواعية، في ظل غياب القدرة على اقناع هذا الجيل، وهو اقناع يحتاج أول ما يحتاج إلى امتلاك رؤية نقدية مقنعة للأجيال الجديدة.

والثاني الإيجابي يتمثل في أن استمرارية الهجوم على مدار أكثر من ستة عقود يعني ـ على الحقيقة ـ أننا أمام أفكار حية وحاضرة في المستقبل، أكثر منها تجربة قابعة في الماضي.

ومن هنا تشرس تلك الحملات مع مرور الأيام، وتشتد تلك الهجمات، في محاولات مستميتة لإزاحة أي إمكانية لعودة جديدة للناصرية كمفهوم، ومبادئ، وانحيازات، في المستقبل.

**

بعض الرفاق الذين أثق في صدق انتمائهم إلى التجربة الناصرية، وأعرف دوره في تاريخ الحركة الناصرية، حدثني معترضا ولائمًا على فقرة في مقالي المنشور هنا على مصر 360 تحت عنوان «في انتظار الجمهورية الجديدة» وهي الفقرة التي ذكرت فيها: «لو أننا وضعنا معيار ثبات الأسس الدستورية واستمرار نظام الحكم نفسه مع تغير أشخاص الحاكمين، فإننا أمام جمهورية مستمرة تأسست مع دستور سنة 1956 وما تزال قائمة حتى اليوم، حيث يقوم نظام الحكم على مركزية «رأس النظام»، ودوران كل أجهزة الحكم وأدواته ومؤسساته حول إرادة وقرارات «الرئيس» الذي هو رئيس السلطة التنفيذية والمتحكم في باقي السلطات، بدرجات متفاوتة تحددها شخصية الحاكم والظروف السياسية المصاحبة لفترة حكمه».

كان رأي صديقي أن «جمهورية عبد الناصر» انتهت مع «انقلاب السادات» على مبادئ الثورة وانتهاجه نهجا مُغايرا للسياسات والانحيازات والتوجهات التي سارت عليها الفترة الناصرية، (وهذا صحيح من وجه)، ولكن الصحيح أيضا، وهذا ما كتبته في المقال المذكور، أن الأسس النظامية والدستورية التي قامت عليها «جمهورية يوليو» ما تزال قائمة رغم التعديلات التي جرت على الصيغ الدستورية المتعاقبة، تلك التي ظهرت في دستور «السادات» 1971 بتعديلاته، ثم تعديلات «مبارك» عليه، ثم دستور 2013 في ظل حكم الاخوان، وأخيرا دستور 2014 بالتعديلات التي جرت عليه.

ولعل إلقاء نظرة سريعة على الجمهوريات الفرنسية الخمسة، سنجد لكلٍ منها مقدمات وأسسا تحكم مسارها، تجعلها تختلف مع الجمهورية التي سبقتها أو تلك التي تلتها، وخذ مثالا «الجمهورية الخامسة» المستمرة حتى اليوم، والتي توالى على الحكم فيها تسعة رؤساء، ذوي اتجاهات سياسية مختلفة حد التباين، بينهم اليساري، ومنهم اليمني، وجرى تعديل دستورها 24 مرة، وطالت التعديلات ثلثي الدستور الذي وضعه الرئيس «شارل ديجول» أول رؤساء هذه الجمهورية، ومؤسسها وواضع دستورها، رغم ذلك بقيت الجمهورية قائمة، وما تزال صامدة حتى اليوم.

**

المعنى الحقيقي لأن تكون ناصريًا في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين هو أن تمتلك القدرة على الانتقال السريع وبدون إبطاء، من حالة الانتماء للشخص إلى الانتماء إلى للموضوع، ومن حالة الانتماء إلى تجربة مضت، إلى حالة الانتماء إلى مستقبل يُرتجى.

لقد ورث الناصريون عن شيوخهم سلوك الدفاع عن التجربة، وحَالَ وجودُهم في صدارة المشهد الناصري طويلا دون الخروج الواعي من عباءة الشخص وعبء التجربة، إلى رحابة الفكرة وعمق الفهم.

حتى إن بعضهم يظل يدافع عن أخطاء التجربة كلها، ويرى أن «عبد الناصر» لم يخطئ، واتهمني أحدهم بأني قد صرت إخوانيًا حين كتبت مرة مطالبا بنقد سلوك «دولة عبد الناصر» تجاه حقوق الانسان، رغم أن القائد نفسه راح بعد هزيمة 1967 يفكر بجدية في ضرورة التغيير، وسماها «دولة المخابرات»، وقد جاءت «النكسة» لتوجه أقوى الضربات إلى تجربته «الثورية»، وانشغل في أعقابها كليا بإعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا لإزالة آثار العدوان وتحرير الأرض، وفي تلك الأثناء زادت متاعبه الصحية عن أي وقت مضى.

فريضة الوقت بالنسبة إلى هذا الجيل من الناصريين أن يتنادى ـ اليوم قبل الغد ـ للقيام بعمليتي النقد والمراجعة المطلوبتين، نقد التجربة، والمراجعة الفكرية، نقد يتجاوز حالة الدفاع، والتعميم، والانكار، نقد قادر على تحديد الأخطاء وأن يضع يده على أسبابها، ودروس تلك الفترة الغنية بالأحداث والعبر، لتبقى هذه التجربة حية وقادرة على أن تشارك في صياغة المستقبل.

في تلك الفترة كانت قناعة «عبد الناصر» قد ترسخت بأهمية التغيير خاصة في أعقاب الخروج الجماهيري الكبير لرفض الهزيمة وتحميله مسئولية إزالة آثارها، ثم الخروج الطلابي والشبابي الغاضب رفضا للأحكام العسكرية المخففة على المسئولين العسكريين في حرب 1967، وكما لم يحدث من قبل، أدرك «عبد الناصر» أن نظامه السياسي لم يعد قادرا على الاستمرار بالصورة التي كان عليها، وأن الهزيمة أظهرت عورات هذا النظام مكشوفة أمام الجميع.

**

رغم وعي «عبد الناصر» بأهمية وضرورة التغيير، وإدراكه أن أي تغيير حقيقي لابد أن يتضمن إقامة حزب للثورة يكون قادرا على المشاركة في صناعة القرار في حضوره، ويكون بديلا عنه في حالة غيابه، في إطار تعددي محدود، رغم ذلك، إلا أن قضية بناء الحزب القادر على قيادة الدولة لم تأخذ مساحتها المطلوبة في انشغالات الزعيم.

كانت هناك محاولات جادة في إعادة بناء «الاتحاد الاشتراكي» إلا أن نشأته في أحضان النظام كانت قد أضرت بقدرته على أن يكون هو الحزب البديل عن وجود «عبد الناصر»، فضلا عن أن فكرة الحزب الواحد الحاكم فشلت في تحقيق الديمقراطية السلمية التي كانت وعدا قطعته ثورة يوليو على نفسها في بداياتها، ثم جاءت مفاجأة رحيل «عبد الناصر» التي وضعت مصر في مهب رياح التغيير، ولكن على الطريق العكسي لمسار الناصرية، وانتهى إلى هزيمتها وخلعها نهائيا من السلطة.

**

«عبد الناصر» نفسه انتقد نظامه، وهذا ثابت في محاضر جلسات منشورة اليوم وتحت يد الجميع، والحق أن مشكلة «عبد الناصر» أنه كان يعي الكثير من الأخطار المحدقة بتجربته الثورية من ناحية، وكان يدرك الكثير من المخاطر التي تهدد إمكانية استمرار نظامه بعده من ناحية أخرى، فراح يواجه الأخطار التي أحدقت بالتجربة الثورية على طول مسيرة الثورة، ولم يمهله الزمن، وتجوز المجازفة بالقول إنه «تراخى» في مواجهة المخاطر التي تهدد استمرار سياساته، وهي المخاطر التي لم يكن يجهلها، بل كان يتحسب لها، ويتحسس وجودها، يحكي الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أن جلسةً ضمته هو و«أنور السادات»، طرح عليهما «عبد الناصر» سؤالا، وتولي هو بنفسه الإجابة عليه، قال:

«هل يتصور عاقل أن الأمريكان سوف يتركون مصر في حالها عندما أذهب».

لم يكن «عبد الناصر» يسأل، كان يفكر بصوت مسموع، ولذلك تابع حديثه ليؤكد: «مش ممكن طبعا»، ثم استطرد يقول: (من يدري أنهم لا يقومون الآن بإعداد رجل مثل «سوهارتو» في مكانٍ ما من صفوف الجيش)، والغريب أن «السادات» هو الذي بادر بالقول: «لو أن أحدا يدلني على مثل هذا الرجل، وأين هو؟، لقطمت رقبته بإيديا دول».

**

لا أحد ينكر الدور الهائل الذي قام به «جيل السبعينيات» على مدار العقود الخمس الماضية، والأثمان الباهظة التي دفعها الكثير من قياداتهم، وهم الآن عليهم دور طليعي ـ في وجهة نظري ـ يتمثل في استنهاض «العقل الناصري» للخروج من وهدة «سلفنة الناصرية» يبدأ بالضرورة بتقديم رؤية نقدية من موقع الانتماء إلى الثورة، وهو أمر لو تم بصورة حقيقية سوف ينزع ورقة النقد والانتقاد والتهجم من أيدي القوة التي عادت الثورة قديما، وما تزال تنفخ في أتون العداوة نارا يريدونها لا تنطفئ ليحولوا دون عودة «عبد الناصر» جديد، ويبنوا سدودا تحجب إمكانية استعادة مضمون الثورة التحرري والاجتماعي والوحدوي.

فريضة الوقت بالنسبة إلى هذا الجيل من الناصريين أن يتنادى ـ اليوم قبل الغد ـ للقيام بعمليتي النقد والمراجعة المطلوبتين، نقد التجربة، والمراجعة الفكرية، نقد يتجاوز حالة الدفاع، والتعميم، والانكار، نقد قادر على تحديد الأخطاء وأن يضع يده على أسبابها، ودروس تلك الفترة الغنية بالأحداث والعبر، لتبقى هذه التجربة حية وقادرة على أن تشارك في صياغة المستقبل.

**

الحنين الى الماضي فعل العجائز، والتيار الناصري ما يزال قادرًا على أن يُجدد شبابه، وهي مهمة لن يستطيع إنجازها بدون امتلاك رؤية نقدية لمسار ثورة يوليو وتجربتها الناصرية، وبالتوازي مع تلك المهمة فعلى هذا الجيل من الناصريين مهمة أن يقدم نقدا ذاتيا لمسار الحركة الناصرية ومسيرتها، وهل استطاعت أن تضيف إلى رصيد «عبد الناصر» الفكري والسياسي أم سحبت منه على المكشوف دون أن يودعوا فيه رصيدا جديدا.

باختصار: نحن في حاجة ملحة إلى إبداع سياسي جديد، وقبل ذلك ومعه، نحن أحوج إلى «نفضة» فكرية صارت ملحة وضرورية.

(المقال المقبل عن المراجعات الفكرية المطلوبة)