ديموقراطية جبرية ينتهجها حاليًا الجيش السوداني، الذي يعمل بكامل طاقته على تأكيد قبضته على السلطة. بينما يراوغ رافضي الانقلاب، بتعيين رئيس وزراء مدني لحكومته العسكرية. وهو أمر أكد محاولة الجيش لتجميل صورته محليًا ودوليًا. في سبيل تجاوز العزلة الدولية التي فُرضت عليه، والأزمات الاقتصادية التي يعاني منه البلد.

قدم مركز أفريقيا للدراسات قراءة حول الوضع الحالي في السودان، وآفاق مستقبله في ظل اتفاقية ما بعد الانقلاب، والتي أبرمت في 21 نوفمبر/تشرين الثاني. فذكر أن الجيش لم يعد قادرًا على تحمل تبعات الانقلاب السياسية أو الاقتصادية. ما جعله يبحث عن مخرج لأزمته. فيما كان الحل الأمثل يكمن في التمسح بالثوب المدني.

اتفاق لحفظ الدم أم ديموقراطية جبرية لتجميل الانقلاب؟

عقب الانقلاب، كان على رأس المرشحين لهذا الدور رئيس الوزراء الانتقالي الحالي، عبد الله حمدوك. الرجل نفسه الذي وضعه الجيش رهن الإقامة الجبرية في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأوَّل. بينما ظل معظم أعضاء مجلسه الوزاري ومئات المسؤولين الحكوميين المدنيين الآخرين رهن الاحتجاز.

يقول تقرير مركز أفريقيا، إن الجيش حاول تتويج جهوده باتفاق 21 نوفمبر الماضي، بين البرهان وحمدوك. بينما أُجبر الأخير على تبرير هذا الاتفاق (الصفقة)، بأنها جاءت من أجل نزع فتيل الأزمة السياسية، وحماية للمواطنين. وأنه محاولة لمنع سقوط مزيد من الأرواح مستقبلاً. لكن المختصون بالشأن السوداني يؤكدون أن الاتفاقية تأتي داعمة ومؤكدة للانقلاب العسكري. بل أنها تستهدف «تبييض وجه وصفحة الجيش المدان محليًا وعالميًا». خاصة بعد ما بدا عليه عزلة دولية، وصلت حد التهديد بوقف المساعدات. وهو أمر لا يحتمله السودان، إذا ما وضعنا في الاعتبار أيضًا قضية الديون العالقة.

ما وراء اتفاق «التمسح بالثوب المدني»

وفق تقرير مركز أفريقيا للدراسات، فإن هناك مجموعة من المخاوف تلاحق الاتفاق الأخير بين البرهان وحمدوك. وهي تؤثر على معايير الحكم في السودان مستقبلاً. إذ انقلب الوضع رأسًا على عقب. وبدلاً من تقديم تنازلات سياسية عقابًا على الانقلاب، ستتم مكافأة الجيش باعتباره متعاونا في التحول الديموقراطي. بل إن الجيش بدأ يشعر بحقه الكامل في إدارة شؤون البلاد. وبذلك يصبح الاتفاق معززًا للعقبات التي تعيق التحول الديمقراطي في السودان وتؤجله.

أيضًا، لم يعد هناك مجال للحديث عن حسن النية. إذ واجه الجيش المتظاهرين بالقوة المميتة. وبدا ذلك في إحصائية قتلى الأحداث الأخيرة، الذين أصيب أغلبهم برصاصات في الرأس أو الصدر. الأمر الذي يؤكد شراسة القمع ورغبة في إبادة المحتجين. ما يعزز كذلك كره الجيش للمدنيين، وبالتبعية، تعمقت كراهية المدنيين لهم. كما كان الحال قائمًا منذ بداية التحول الديموقراطي في 2019.

خطوات تكشف انحياز الجيش لنظام البشير

هناك مجموعة من الخطوات أقدم عليها الجيش، تؤكد انحيازه لنظام البشير
هناك مجموعة من الخطوات أقدم عليها الجيش، تؤكد انحيازه لنظام البشير

، وميله لنظام الحكم الاستبدادي، على حساب التحول الديموقراطي. وكان في مقدمتها العمل الدؤوب على استبدال المسؤولين المدنيين بأعوان النظام البائد. ولم يقتصر الأمر على الاستبدال الخفي. بل أنه ظهر جليًا في استخدام الإسلاميين أنفسهم كبدلاء، وكشفت أغلب تحركات عناصر الجيش عن افتقاره لأي التزام بالتحول الديمقراطي.

وقد أقال الجيش نائب رئيس البنك المركزي، فاروق حسين، ومجموعة من القيادات المصرفية، من بينهم مديري مصرف إدخار النيل، وبنك التنمية الصناعية، بالتزامن مع الضغط الذي تمت ممارسته على «المركزي»، من أجل تحويل الأموال لحسابات تخضع لسيطرته. وهو نمط أقرب لما كانت تقوم به حكومة البشير، وفق ما يشير إليه تقرير مركز أفريقيا للدراسات.

 

فوهة البندقية تطلب السلطة والدستور بيانات عسكرية

اُختصر الدستور في الفترة التي تلت الانقلاب على ما يُصدر عن قيادة الجيش. وأصبح السودان يقف على أرضية قانونية متزعزعة. وهو ما يحدثه عادة الانقلاب أيًا كان البلد الذي ينشأ به، لتصبح المطالبة بالسلطة آتية من فوهة بندقية.

وتشير أغلب الدلالات إلى أن الجيش لم يكن جادًا للحظة واحدة في حديثه عن الانتقال الحقيقي للسلطة المدنية. لأنه يعمل على إظهار توجهه المحافظ دائمًا على دوره كحاكم رئيسي في السودان. ورغم إعادة حمدوك لمنصب رئيس الوزراء، إلا أن الموقف لم يحسم بعد، نظرًا لرفض الجمهور هذا الترتيب الجديد في الحكم. الناس تعلم أن هذه الديمقراطية جبرية بأمر الجيش.

صدام المدنيين بالديموقراطية الجبرية

إلى الآن، يُظهر الجمهور السوداني رفضًا تامًا لترتيب الحكم الذي يتم برعاية الجيش. وهو يرى المؤسسة العسكرية راغبةً في الحفاظ على مسيرتها المسيطرة على البلاد، بنمط النظام الذي أنهته الثورة.

لذا، فإن الجيش لا يزال يواجه احتمال استمرار الاحتجاجات والإضرابات وغيرها من أشكال العصيان المدني، التي يمكن أن تشل قدرة الجيش على الحكم. وعلى عكس البلدان الأفريقية الأخرى التي تشهد انقلابات، فإن للجمهور السوداني تقليد طويل من الاحتجاج السلمي. كما أنه يمتلك هياكل تنظيمية تسمح للمحتجين بمواصلة نشاطهم لوقت أطول.

ظن البرهان أنه قد يتمكن من جذب الاستثمار الأجنبي، والقروض والمساعدات، اعتمادًا على ما حققه من مصداقية دولية في أعقاب إطاحة البشير. لكنه تفسير خاطئ لتدفق الدعم وتخفيف عبء الديون عقب ثورة 2019. فلا يوجد أمل للخروج من المأزق الاقتصادي الحالي إلا من خلال تشكيل حكومة مدنية. كما يشير تقرير مركز أفريقيا للدراسات.

إذ أن السودان يعانى من تضخم وصل لنحو 400%، وانكماش اقتصادي وزيادة في عدد المتعطلين عن العمل، بينما من المتوقع أن يصل حجم الديون المتصاعدة لنحو 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2025.

الاتفاقية الأخيرة وخيبة أمل المحتجين

شعر المحتجون السودانيون بخيبة أمل كبيرة بعد الاتفاقية الأخيرة بين البرهان وحمدوك. ذلك لأنها تجاهلت مطالبهم الأساسية، وعلى رأسها استعادة مجلس الوزراء المدني المعترف به دوليًا قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول. فلا سبيل لدى المحتجين سوى تحول السلطة من قبضة الجيش للمدنيين. إضافة إلى الإفراج عن جميع السجناء السياسيين المحتجزين منذ الانقلاب.

وزاد من خيبة الأمل تلك، استجابة حمدوك لاتفاقية البرهان، بتشكيل حكومة مرنة، من أجل ضمان مصالح الجيش. وهو أمر فاقم إشكالية التحول الديمقراطي في السودان، وجعل الجيش يشعر بالاستحقاق، على عكس المتوقع في بداية الانقلاب، مع تصاعد الاحتجاجات والمواجهات.

شعر المحتجون السودانيون بخيبة أمل كبيرة بعد الاتفاقية الأخيرة بين البرهان وحمدوك
شعر المحتجون السودانيون بخيبة أمل كبيرة بعد الاتفاقية الأخيرة بين البرهان وحمدوك

كذلك، كانت تبعات الاتفاقية أكثر سوءًا باستقالة نحو 12 وزيرًا مدنيًا من قوى «الحرية والتغيير» من مناصبهم. وتلا ذلك استقالة جميع الوزراء باستثناء اثنين فقط، هما رهن الاعتقال، فيما رفضت غالبية أعضاء اللجنة المركزية لقوى الحرية والتغيير لقاء حمدوك. ما يوضح موقف الجمهور المحلي الرافض لصفقته مع الجيش.

العوامل اللازمة للمرحلة المقبلة

لا يزال الموقف بالسودان موضع شك. فرغم أن اليد العليا للجيش الآن. إلا أنه يفتقر للدعم المحلي والدولي من أجل الاستمرار في سلطته المرجوة. وبناءً على ذلك يطرح مركز أفريقيا للدراسات عددًا من العوامل يمكن بتوافرها التوجه نحو التحول الديمقراطي المأمون، رغم المشهد الحالي المرتبك.

في مقدمة هذه العوامل تأتي ضرورة استدامة المقاومة المحلية من أجل تحقيق مزيد من المكاسب والأهداف التي ينشدها المحتجون. فضلاً عن ضمان التزام المجتمع الدولي بعملية الانتقال الديمقراطي في السودان.

وتحتاج المرحلة الحالية في تاريخ السودان، قراءة أوضح للمشهد. فرغم أن اتفاقية (برهان / حمدوك) لم تشمل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، لكن هناك بعض حالات الإفراج قد تمت بالفعل. وعلى الجانب الآخر، لا تزال عجلة الاعتقالات مستمرة في الدوران. وكلها أدوات تستخدم لدعم الترتيب الجديد دوليًا، ودق أسافين في صفوف المدنيين.

إن الحاجة تقضي بوضع جداول زمنية دقيقة، لأن حالة الغموض في القرارات قد أفسدت عملية الانتقال منذ عام 2019، ولذلك فإن العمل على وضع توقيتات واضحة تؤمن عملية التحول الديمقراطي ضرورية، سواء على صعيد تولي المدنيون قيادة مجلس السيادة أو إصلاح المؤسسات أو إصلاح قطاع الأمن والخدمة المدنية أو مراجعة الدستور أو حتى ضمان حرية الصحافة. كل ذلك يجب أن يتم تحديده بوقت لضمان نجاحه.

وإجمالاً، فإن السودان في حاجة لتحول ديمقراطي حقيقي، كما طالب سكانه خلال الفترة الممتدة من 2019 لـ 2021 كأساس للتخلص من معاناته وحدة فقره، ولخلق فرص العمل لمواطنيه، وضمان تجاوزه لمرحلة الفساد والقمع والصراع، التي ظلت لصيقة بنمط الحكم العسكري.

مركز أفريقيا للدراسات مؤسسة أكاديمية داخل وزارة الدفاع الأمريكية أنشأها ويمولها الكونجرس لدراسة القضايا الأمنية المتعلقة بأفريقيا.