تشهد بلاد العالم صور مختلفة من النقاش العام (Public Debate) تتفاوت بين النظم الديمقراطية وغير الديمقراطية، إلا أن هناك “مساحة آمنه” يتحاور داخلها الناس في إطار القواعد والقوانين القائمة.
صحيح أن هذه القواعد تختلف من نظم إلى أخرى، فمثلا النظم السياسية الديمقراطية يناقش الناس برامج الأحزاب والقوى السياسية التي يجري بينها تداول سلمي للسلطة محكوم بقواعد ومؤسسات دولة القانون، وهناك النقاش حول “القضايا الصغرى” أو قضايا السياسات العامة من صحة وتعليم ومواصلات وخدمات وإدارة محلية، وهي القضايا المسموح بمناقشتها في نظم الحزب الواحد مثل الصين وكوبا مثلما تناقش في النظم الديمقراطية الليبرالية.
والحقيقة أن مصر تحتاج إلى فتح باب “النقاش العام” حول قضايا السياسيات العامة ومشاكل المحليات حتى تستطيع مع نهايات هذا العقد إعداد المجتمع لمناقشة القضايا السياسية الكبرى وبناء دولة القانون والديمقراطية، وذلك بدعم المشاركة الشعبية حول قضايا يمثل إصلاحها وتطوير الأداء فيها خدمه للمجتمع والنظام السياسي معا.
إن قضايا السياسات العامة من صحة وتعليم وخدمات وإدارة محلية صار لها أولوية قصوى مع جائحة كورونا ومتحوارتها كما أن ما يجري في كثير من أحياء القاهرة من “تطوير” دون أخذ رأي سكانها فتح باب أزمات كان يمكن تلافيها لو كانت هناك إدارة محلية تمثل همزه وصل بين الحكومة والناس.
ولعل تجربة بلد مثل الصين، والتي يعيش فيها حوالي مليار ونصف المليار نسمة، ويحكمها منفردا الحزب الشيوعي الصيني منذ ثورة 1949 التي قادها الزعيم “ماو تسي تونج” ونجح في نقل البلد من البؤس والفقر والتخلف والحروب الأهلية إلى واحدة من أقوي دول العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
ويضم الحزب الشيوعي الصيني حاليا حوالي 90 مليون عضو، أي أكثر من 5% من عدد السكان، وهو بذلك يعد أكبر حزب سياسي في العالم، وعقيدة الحزب الاشتراكية بطبعة صينية، وتقوم على أربعة مبادئ أساسية أولها التمسك بخط الحزب الشيوعي، والثاني وهي نقطة في غاية الأهمية تقوم على “تحرير الأفكار وطلب الحقيقة من الواقع”، والثالث التمسك بخدمة الشعب بكل أمانة وإخلاص (لا إهانته صباحا ومساء باعتباره جاهل وقاصر)، وأخيرا التمسك بنظام المركزية الديمقراطية أي بعد إجراء نقاش حقيقي داخل كل وحدة حزبية صغير ولو في قرية نائية، يتم الالتزام بالقرار النهائي لقيادة الحزب.
والحقيقة أن الصين وكوبا ربما تكونان آخر قلاع نظام الحزب الواحد في العالم كله اللذان قدما نماذج ناجحة في مجال التنمية الاقتصادية والثقافية والمشاركة الشعبية المحلية، فهي بلاد لا يقبل فيها نقاش عام مفتوح في كل القضايا أو معظمها كما يجري في الدول الديمقراطية، إنما نقاش في إطار المبادئ والقيود التي وضعها النظام القائم.
والحقيقة أن هناك عشرات التقارير والأبحاث والكتب التي تحدثت عن النقاش العام على مستوى القواعد داخل الحزب الشيوعي الصيني وخاصة في الريف وأن هذا النقاش مرتبط بمشاكل الناس الحياتية واليومية ومن خلاله ترسخت قوة الحزب الشيوعي الصيني على الأرض وخاصة في الريف وكانت أحد أسباب نهضة البلد وتقدمه.
والمعروف أن الحزب الشيوعي الصيني لا تقرر قواعده (التي تقدر بالملايين) اختيار الرئيس كما يحدث في النظم الديمقراطية، إنما دوائر ضيقة تتوافق على هذا الاختيار، ولكن في نفس الوقت فإن هذه القواعد تناقش قضايا السياسات العامة من صحة وتعليم وتشتبك مع مشاكل الريف والأحياء والمدن الصغيرة.
وقد شاهدت مؤخرا فيلم وثائقي مميز عرضته قناة بي بي سي البريطانية تحت عنوان “دفتر أحوال رئيس بلدية” وتعرض فيه ليوميات عمدة أحد المدن الصغيرة وهي “داتونغ” وكيف تظاهر أهالي بلدته رفضا لقرار نقله إلى قيادة الحزب في بكين وترك المدينة، كما عرض شكل علاقته اليومية بأهالي بلدته وكيف تحدث عن الثقافة والتراث أو كما قال: “العالم ينظر إلى الثقافة العريقة في روما وباريس قبل الناتج القومي”. ولو تغيرت وجوه الناس في هذا الفيلم ولم يذكر أن الأحداث تجري في الصين لكان من الوارد اعتبار هذا النقاش يجري في أي بلد ديمقراطي غربي.
والحقيقة أن هناك عشرات التقارير والأبحاث والكتب التي تحدثت عن النقاش العام على مستوى القواعد داخل الحزب الشيوعي الصيني وخاصة في الريف وأن هذا النقاش مرتبط بمشاكل الناس الحياتية واليومية ومن خلاله ترسخت قوة الحزب الشيوعي الصيني على الأرض وخاصة في الريف وكانت أحد أسباب نهضة البلد وتقدمه.
والحقيقة أن دور المحليات حاضر بقوة في كل النظم السياسية الديمقراطية، وحتى في نظم الحزب الواحد التي تقدمت أو نظم التعددية المقيدة التي لم تتراجع، فهي تسمح للمجتمع أن يبادر وينتقد في كل ما يتعلق بالإدارة المحلية والسياسات العامة في الصحة والتعليم والخدمات، في ظل قيود معروفة على القضايا السياسية الكبرى الخاصة بجوهر النظام القائم. والمؤسف أن هذه صيغة لازالت غير موجودة في مصر مع غياب المحليات وتراجع المبادرات الأهلية. فما جري مؤخرا في بعض أحياء القاهرة ومنها على سبيل المثال مصر الجديدة من تغيير جذري في طبيعتها وشكلها وهدم جانب من تراثها وسحرها، هو نتيجة غياب النقاش العام مع الخبراء المختصين بتنوعاتهم أو مع سكان هذه الأحياء.
واللافت أن الكباري التي انتشرت بسرعة البرق في كثير من أحياء القاهرة ونالت مصر الجديدة نصيب الأسد منها تسببت في حوادث مؤلمة ومميته لمئات البشر نتيجة عدم وجود أماكن آمنه لعبور المشاة، صحيح أن الدولة راجعت الموقف في بعض التقاطعات، وبنت كباري للمشاة ووضعت بعض الإشارات (لازالت غير كافية)، بما يعني أن نظرية السيولة المرورية من خلال الكباري غير صحيحة في الأحياء السكنية (صحيحة على الطرق السريعة)، وإن الدوران الحرU turn) ) يرحل المشكلة من الميدان المنظم والمنضبط بإشارات مرور إلي تكدس مروري عند “اللفة العشوائية”.
والسؤال ألم يكن أفضل للجميع أن تستمع الدولة لآراء خبراء ممن يحملون رأي مختلف في “تطوير” الأحياء، وأن يشركوا الأهالي أيضا في نقاش عام حقيقي حول أولياتهم وما يرونه مناسب لتطوير أماكن سكنهم؟؟ الإجابة بالقطع كان أفضل.
لقد قرر كثير من الناس أن يبتعدوا عن مناقشة القضايا السياسية أو ينخرطوا في أحزاب، فعلي الأقل لا يجب أن يحرموا من مناقشة مشاكل أبناءهم في المدارس والجامعات، ومشاكلهم مع المنظومة الصحية، والأشجار التي قطعت والرصيف الذي اختفي والمباني الأثرية التي هدمت والأحياء التي شوهت.
قضايا النقاش العام ليست ترفا ولا هي “مكياج” إنما هي في جورها من أجل الحفاظ على استقرار هذا البلد، لأنها ستشعر الناس إنهم شركاء وقادرين على التأثير ولو في قضايا المحليات، وستضمن انتقال تدريجي منظم نحو بناء دولة القانون القادرة دون غيرها على حماية الأمن والاستقرار والتنمية.