على عكس إدارة ترامب، يتخذ الرئيس الأمريكي جو بايدن شعار «إنهاء الحروب الأبدية» سياسة تعامل مع أزمات الشرق الأوسط. وهو ينشغل أكثر بالتحدي الذي تفرضه الصين. وفي سبيل ذلك يقلل وجوده ونفقاته العسكرية بالمنطقة. إلا أن فك الارتباط هذا يهدد بترك فراغ سياسي تملأه الخصومات الطائفية. ما يمهد الطريق لمنطقة أكثر عنفًا وغير مستقرة.
في قراءته لمآلات هذه السياسة الأمريكية الجديدة، يقول فالي نصر الخبير الإيراني الأمريكي في الشرق الأوسط، إن الولايات المتحدة التي سمحت في البداية لإيران بتوسيع نفوذها الجيوسياسي في المنطقة بغزو العراق في 2003، وإنهاء حكم الأقلية السنية بالبلاد، هي نفسها التي قد تصبح سببًا في تفاقم الصراع الطائفي بالمنطقة العربية.
لقد باتت الدول العربية السنية أقل ثقة – من أي وقت مضى- بشأن الضمانات الأمنية الأمريكية. خاصة مع ازدياد النفوذ الإقليمي لإيران. وذلك يأتي في وقت تميل فيه الصين وروسيا إلى المنطقة. ما يحتم على الولايات المتحدة أن تمهد الطريق لنظام إقليمي أكثر استقرارًا. ولن يكون ذلك -وفق فالي- إلا بالبدء في إبرام صفقة بشأن برنامج إيران النووي.
كيف استفادت إيران من سياسة أوباما بالشرق الأوسط؟
يقول فالي في تقريره المنشور بـ«فورين آفيرز»، إنه رغم انخفاض حدة الاقتتال الطائفي بالشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، بقيت الطائفية في سياسات المنطقة على حدتها. كما لم يختف الصراع بين إيران وخصومها الذين تقودهم الدول السنية. وكان ذلك يصب بشكل أفضل في صالح طهران التي استفادت من غيابات وأخطاء أمريكا بالمنطقة.
لقد كان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 هو الذي سمح لإيران بتوسيع نفوذها بشكل كبير في العالم العربي. فمنذ أن أسقطت الولايات المتحدة النظام الذي ضمن حكم الأقلية السنية في بغداد، لعبت طهران بخبرة على الولاءات الطائفية. وقد مكنت شبكة من الوكلاء المسلحين التي تمتد الآن من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن.
عززت إيران بذلك نفوذها على نفوذ منافسين مثل المملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات.
كذلك، فإن الحكام القلقين على عروشهم في مواجهة رياح الربيع العربي عززوا من وتيرة تسليح الطائفية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، عمد الرئيس السوري بشار الأسد إلى تخويف المجتمع العلوي السوري من السنة في سبيل الاستقواء بهم وبالشيعة ومن ثم إيران على الراغبين في خلعه. كما برر الحكام في البحرين واليمن حملات القمع العنيفة باتهام المحتجين الشيعة بأنهم وكلاء لإيران.
أيضًا، توسعت بصمة إيران الإقليمية بالتوازي مع برنامجها النووي. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كبحت بشكل فعال طموحات إيران النووية في عام 2015 بالاتفاق النووي. إلا أنها لم تتمكن من احتواء طموحاتها الإقليمية. وعلى العكس، أثار إصرار واشنطن -حينها- على عدم إدراج المسائل الإقليمية في المحادثات النووية حفيظة حلفائها العرب. وقد كانوا آنذاك على وشك النهاية الخاسرة للحروب الطائفية بالوكالة في العراق وسوريا واليمن. بينما عزز الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونائبه (بايدن) مخاوفهم بشأن التزام واشنطن بمساعدتهم في هذه الصراعات، عندما نصح بأن الإيرانيين والسعوديين بحاجة إلى «إيجاد طريقة فعالة لمشاركة الجوار».
من وجهة نظر القادة العرب، أدت سياسة أمريكا في عهد أوباما إلى قلب ميزان القوى الإقليمي بشكل قاطع لصالح طهران. إذ أدى الفشل في الإطاحة بالأسد إلى تمكين حلفاء طهران الشيعة في دول أخرى. بينما فشل الاتفاق النووي في كبح تدخل إيران الإقليمي. وكأن الولايات المتحدة -حينها- باركت الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط.
ترامب الذي حاول كبح النفوذ الإيراني
على عكس أوباما، اتخذ الرئيس السابق دونالد ترامب سياسة عنيفة تجاه إيران. إذ انسحب من الاتفاق النووي في 2018. وقال إن الاتفاق الجديد يجب أن يعالج دور إيران الإقليمي. بينما فرضت حملته «الضغط الأقصى» عقوبات قاسية على طهران. ذلك إلى جانب عدة خطوات أخرى لكبح جماحها. بما في ذلك تنفيذ غارة جوية بطائرة بدون طيار في عام 2020 أسفرت عن مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، وأبو مهدي المهندس القيادي البارز قائد مليشيا شيعية عراقية.
لقد نجحت إدارة ترامب في ضرب الاقتصاد الإيراني، وزيادة البؤس الاجتماعي والاستياء السياسي داخل البلاد. لكن محاولتها لفرض انسحاب إيراني أوسع نطاقًا من العالم العربي فشلت فشلاً ذريعًا، كما يوضح فالي في تقريره.
وعلى العكس من ذلك، ردت إيران على سياسة إدارة ترامب ببتصعيد التوترات الإقليمية. فهاجمت ناقلات في الخليج العربي. كما استهدفت منشآت نفطية في السعودية، وشنت ضربة صاروخية جريئة على القواعد الجوية العراقية التي تأوي القوات الأمريكية.
يقول فالي إن إيران خرجت من عهد ترامب أكثر عدوانية وفتكًا. وقد زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب، ووسعت بنيتها التحتية النووية. كما اكتسبت الدراية النووية الهامة، وهي الآن قريبة بشكل خطير من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية. وهو أمر يعزز بدوره نفوذ إيران بشكل أكبر. فكلما كانت المظلة النووية أكثر اتساعًا ومرونة، زادت فعالية الوكلاء الذين يعملون تحت حمايتها. وهكذا خرجت إيران من عهد ترامب عازمة على مواصلة برنامجها النووي وتعزيز مكانتها في المنطقة.
ليست طهران وحدها.. أسباب أخرى لتصاعد الطائفية بالشرق الأوسط
يرى فالي أن إيران ليست الطرف الوحيد الذي يقف وراء تصاعد الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. إذ دعمت قطر والسعودية وتركيا والإمارات الفصائل السنية في العالم العربي. ومولت تركيا ورجال الأعمال السنة الأثرياء في الخليج العربي بعض الفصائل السنية الأكثر تطرفًا التي سعت للإطاحة بالأسد في سوريا – بما في ذلك داعش.
أيضًا، انجذبت إسرائيل إلى دوامة الصراع السوري. وهي غير مرتاحة بشكل متزايد لتوسع الوجود العسكري الإيراني هناك. وفي الوقت نفسه، فإن غالبية السكان السنة في المناطق التي دمرتها الحرب لا يزالون محرومين من حقوقهم وفقراء. وكل هذا يمثل ظروفًا جيدة لتأجيج الصراع الطائفي في المنطقة.
كذلك الوضع في العراق. خصوصًا بعد نتائج الانتخابات الأخيرة التي شهدت عزوفًا كبيرًا من قبل المواطنين. يقول فالي إن صعود مقتدى الصدر -كتلته فازت بانتخابات العراق- لا يبشر بالخير للسلام الطائفي في العراق. فعلى الرغم من أن مقتدى قومي. إلا أنه يساوي المصالح الوطنية للعراق مع حق طائفته الشيعية في حكم البلاد.
وكانت مليشياته في طليعة الحرب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العراق عام 2006. وهو لا ينوي التنازل عن السلطة لتهدئة السنة. وفي الأخير، على الرغم من أن مقتدى الصدر يريد الحكم الذاتي والانفصال عن إيران. إلا أنه سيواجه الفصائل المتنافسة في الداخل ومناورات السنة الذين عارضوا سيطرة الشيعة على العراق، ربما بالاعتماد على طهران.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في لبنان. إذ أن الفاعل السياسي المهيمن في البلاد هو حزب الله، الذي يحظى بدعم إيراني سخي. وهذا الحزب لن يتخلى عن السلطة بدون قتال. وحتى إن زاد السخط اللبناني (مسيحي وسني) عليه، فإنه لا يزال ذو قبضة قوية. كما أن إيران ملتزمة بدعمه. ووفق ذلك، فإن الأحداث الجارية على المسرح اللبناني تؤجج أيضًا لنوبة أخرى من الصراع الطائفي بالشرق الأوسط، وفق فالي، الذي يرى وضعًا ممثالاً لاستمرار الصراع السني الشيعي في اليمن حتى إذا ما انتهت الحرب التي لم تتمكن من إنهاء النفوذ الحوثي بالبلاد. ومن ثم النفوذ الإيراني.
إسرائيل في وسط الصراعات الطائفية بالشرق الأوسط
مع انخفاض الدعم الأمريكي للصراع السني ضد إيران في المنطقة، اتجهت الدول العربية السنية إلى حليف قوي آخر هو إسرائيل. وقد ساعد ذلك أن وضعت إسرائيل نفسها بشكل مباشر في وسط الصراع. ذلك بشن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق وسوريا. فضلاً عن تنفيذ الاغتيالات والهجمات الإلكترونية والتخريب الصناعي لإبطاء البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.
حتى الآن، قصرت طهران ردودها ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في الخليج العربي. لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة -ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل- ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان وسوريا والهجمات الإيرانية ضد حلفاء إسرائيل الجدد، وفق فالي.
كيف تتجنب واشنطن انفجار الشرق الأوسط؟
يقول فالي إن الدول العربية السنية فشلت في كبح جماح القوة الإيرانية. وجاء استثمارهم في المعارضة السورية بلا فائدة. كما تخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن. ومع ذلك، تواصل الدول العربية السنية ممارسة نفوذها في واشنطن. وهي تعزز هذا العمق الاستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل. لكن على الأرض، يمكنهم فقط أن يأملوا في إبطاء تقدم إيران، وليس عكسه.
وهو يرى أن الولايات المتحدة لا تستطيع التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في الأفق في الشرق الأوسط. لكن يجب عليها تجنب جعل الأمور أسوأ.
ويشير فالي إلى أنه لا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة، وظلت قائمة لأكثر من أربعة عقود بمثابة بنية أمنية فعلية في المنطقة. ولذلك، فإن أفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية عن تكثيفها. ذلك على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة. ولهذا يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة للتراجع عن فرض الاحتواء جنبًا إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي لتقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.
هنا، يظل الاتفاق النووي مع إيران أهم رادع لمزيد من عدم الاستقرار الإقليمي.
وفق فال، هناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015. إذ تقول الإدارة الأمريكية إنها تريد صفقة «أطول وأقوى». بينما إيران ليست مهتمة سوى باستعادة اتفاق 2015 – لكن هذه المرة بضمانات أمريكية بأن الإدارة القادمة لن تقلب الصفقة مرة أخرى. هذا الجمود – أو الأسوأ من ذلك، انهيار المحادثات – من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل حتمًا العالم العربي وتؤجج الطائفية.
شجعت إدارة بايدن الجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها البعض. لكن هذه الحوارات لن تستمر إذا تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي. الضحية الأولى سيكون الاستقرار في العراق ولبنان.
يختتم فالي، بإنه لكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنها بحاجة إلى تحقيق قدر ضئيل من الاستقرار الإقليمي – ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة إيران والولايات المتحدة إلى الامتثال المتبادل لاتفاق 2015.