لعل أبلغ وصف للنزاعات الحدودية التي نشهدها بين دول مرحلة ما بعد الاستعمار هو ما أورده أستاذنا العلامة عز الدين فودة في تقديمه لكتاب حدود مصر الدولية عام 1993 حيث ذكر قصة الشاعر الأموي ذو الرمة الذي كان يقف في منازل محبوبته المهجورة لا يجد ما يفعله سوى أن يلقط الحصى مرة، ويَخُطُّ على التراب ثم يمحو الخط ثم يخط من جديد والغربان على المنازل واقعات لا يفعل لها شيئا.. يتضح ذلك بجلاء حينما ينشد قائلا: عشيةَ مالي حيلة غير أنني ** بلَقط الحصى والخط في الترب مولع/ أَخط وأمحو الخط ثم أعيده ** بكفي والغربان في الدار وقع.

ولازلت أذكر وأنا في مرحلة الطفولة عندما كانت تثور المنازعات على ترسيم الحدود الفاصلة بين أراضي الفلاحيين في قرانا المصرية بشأن بضعة سنتيمترات لا تتعدى حجم الكف الواحدة في نفس الوقت الذي كانت مساحات كبيرة من الأرض تعاني الإهمال والبوار.

لعل هذه الحالة العبثية في تعيين الحدود تنطبق على الغالبية العظمى من الحدود في أفريقيا حيث أنها مليئة بالثغرات وإن كانت لا تشكل عقبة حقيقية أمام مجتمعات المناطق الحدودية. على أن الحدود في منطقة القرن الأفريقي لها معان رمزية بحيث تُفضي إلى النزاع والصدام. ففي حين أن 20% فقط من الحدود الأفريقية تم ترسيمها (أي وضع علامات على الأرض وتحديدها فنيا)، وهي لا تسبب صراعًا، فإن الحدود في القرن الأفريقي هي سبب شائع للصراع والتفاعلات الدولية البينية العنيفة. على سبيل المثال كانت الحرب بين إريتريا وإثيوبيا تدور حول قرية بادمي الحدودية الصغيرة ذات الأهمية الاستراتيجية المحدودة ولكنها ذات قيمة معنوية ورمزية عالية. وقد حصدت الحرب بسبب هذه القرية الصغيرة أرواح أكثر من 70 ألف شخص. كما أن الصراع في أبيي قد يكون مجرد جانب واحد من نزاع حدودي عميق بين السودان وجنوب السودان ولاسيما منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. بينما تتم مراقبة أبيي من قبل بعثة الأمم المتحدة لا تبدو هناك نهاية تفاوضية لهذه الأزمة في الأفق. في كلتا الحالتين، أصدرت محكمة التحكيم الدولية في بادمي وأبيي حكمًا، لكن سبب النزاع يتجاوز ترسيم الحدود.

على الرغم من أن الحدود بين إثيوبيا والصومال وحدود كينيا والصومال ليست محل نزاع فقط من منظور حلم الصومال الكبير، فإن الحدود غير آمنة تمامًا. تُظهر المبادرات الأخيرة من قبل البلدين لإقامة منطقة عازلة داخل الصومال – من أجل الحد من خطر عبور جماعة الشباب المجاهدين – شدة انعدام الأمن على الحدود في المنطقة. ومن اللافت أن الكيانات الحكومية المستقرة والتي تمارس وظائف الدولة بكل ما تحمله من معان ودلالات باستثناء الاعتراف الدولي مثل صوماليلاند، وبونتلاند تنخرط أيضًا في مناوشات حدودية في منطقتي سول وسناج.

الفشقة” ومفهوم الاستعمار الفعال

تم تعيين الحدود السودانية الأثيوبية بمقتضى اتفاق 1902 بين الإمبراطور منليك وبريطانيا. ويعد هذا الاتفاق متفردا في تاريخ التسويات الحدودية التي أبرمت في العهد الاستعماري. إنه يمثل انتصارا لإرادة منليك في ضم الأراضي وتوسيع إمبراطوريته في مواجهة الأطماع الأوروبية القائمة على مبدأ الاحتلال الفعال. طبقا لهذا الاتفاق أُجبرت بريطانيا التي كانت تخشى من غزو أثيوبي محتمل لمستعمرتها في السودان على التنازل عن بعض الأراضي السودانية وفقا لمبدأ الاحتلال الفعال، وهو المبدأ الذي رفضته بريطانيا نفسها في تعاملها مع القوى الأوربية المتنافسة في أفريقيا. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال استقر في فقه العلاقات الدولية الأفريقية مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار فأصبح بني شنقول الذي أقيم عليه سد النهضة أرضا أثيوبية اغتصابا وتم تعين الحدود وفقا لذلك بحيث أصبح مثلث الفشقة أرضا سودانية خالصة وإن أثارت أثيوبيا الشكوك حول مسألة ترسيم الحدود على الأرض.

الإمارات ترعى تهدئة النزاع بين إثيوبيا والسودان وسط ترقب مصري

نزاع مسيس طويل الأمد

لعل الناظر إلى تطور المشاكل الإقليمية بين إثيوبيا والسودان يلاحظ أنها ترتبط بطبيعة العلاقات بين البلدين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن السياق العام قد تسمم بالفعل بسبب إثارة نزاع مثلث الفشقة الحدودي من جهة وبسبب السياسة الخارجية التوسعية لإثيوبيا تجاه جيرانها من ناحية أخرى. وعادة ما يتم توظيف المشاكل الحدودية من أجل تحسين وضعها التفاوضي فيما يتعلق بالنزاعات الأخرى مثل قضية سد النهضة. في الواقع يمكن أن تواجه أي دولة إفريقية مشاكل حدودية إن هي أرادت ذلك، لأن مشكلات الحدود هي مشكلات تتعلق بالسياسة. تقرر الدولة المعنية ما إذا كانت تريد المطالبة بالأراضي المتنازع عليها، ثم تقرر كيفية تحقيق أهدافها .

تبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها حوالي 1760 كيلومترًا مربعًا على امتداد الحدود السياسية بين نهر ستيت في الشمال ونهر عطبرة في الجنوب. وهي تنقسم إلى قسمين عن طريق نهر بحر السلام: الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى. على الرغم من أنه قد ثارت نزاعات محدودة في مرحلة ما قبل استقلال السودان عام 1956، لم تكن هناك نزاعات إقليمية أو مطالبات بمثل هذه المناطق الكبرى. طالبت إثيوبيا لأول مرة بوضع يدها على أراضي الفشقة في عام 1965 عندما توترت العلاقات بين البلدين. في وقت لاحق من نفس العام، تقدم عدد كبير من المزارعين الإثيوبيين بحراسة القوات المسلحة الإثيوبية إلى الفشقة الكبرى. كانت عملية أشبه بالغزو الاستيطاني حيث جلبوا معهم الآلات الزراعية الكبيرة التي وفرتها لهم حكومة إثيوبيا. ولعل ما يؤكد استحضار سياسة منليك التوسعية وفرض الأمر الواقع أن عملية الغزو الأثيوبي تلك للأراضي السودانية صاحبتها مصادرة المزيد من المزارع السودانية، كما حذر الجنود الإثيوبيون زعماء القبائل السودانية من أن إثيوبيا منذ ذلك الحين (1965) فصاعدا مصممة على استعادة حدودها القديمة التي امتدت إلى نهر النيل. وأشاروا إلى أنه لا ينبغي دفع أي ضرائب للسلطات المحلية السودانية لأن مكتبًا في إثيوبيا سيكون مسؤولاً عن تحصيل الضرائب لمصلحة الحكومة الإمبراطورية في أديس أبابا.

ولكن لأسباب لم يتم الكشف عنها بعد، يظل الجنود الإثيوبيون فترة طويلة جدًا في المنطقة المحتلة ويتراجعون خلف الحدود السياسية القائمة ويتركون المزارعون في الفشقة يحرثون الأرض ويقومون على رعايتها. لم تتخذ الحكومة السودانية أي رد فعل لطرد هؤلاء المزارعين ولكن حينما جاء موسم الحصاد قامت بمصادرة المحاصيل واعتقال المزارعين الأثيوبيين، عندئذ أرسلت أديس أبابا وفدا رفيع المستوى من أجل التفاوض حيث انتهي الأمر ببيان غامض ينص على احترام الوضع القائم إلى أن يتم التوصل لحل تفاوضي.

الصفقة السرية 

ظلت الأوضاع بين شد وجذب ولاسيما قيام مزارعي الأمهرة وعصاباتهم المسلحة بغزو أراضي الفشقة وزراعتها بل ودفع الضرائب لحكومتهم في أديس أبابا إلى أن وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط في عام 2008. اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية على شرط أن يسمح السودان للإثيوبيين بالاستمرار في العيش في الفشقة وزراعة أراضيها دون عائق. لقد كانت حالة كلاسيكية لـمفهوم الحدود الناعمة التي تمت إدارتها بطريقة لا تسمح لقيود الحدود الجامدة بتعطيل سبل عيش الناس في المنطقة الحدودية. ظل الوضع هكذا لعقود، بمعنى السيادة للسودان وعائد الأرض لمن يزرعها، إلى أن طالبت إثيوبيا بترسيم نهائي للحدود. ترأس الوفد الإثيوبي إلى المحادثات التي أدت إلى تسوية عام 2008 المسؤول الكبير في الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، أباي تسيهاي.

بيد أنه بعد الإطاحة بـحكومة التيغراي من السلطة في إثيوبيا في 2018، أدان زعماء جماعة الأمهرة الاتفاق بصفته صفقة سرية وقالوا إنهم لم يتم استشارتهم بشكل صحيح. ولا شك أن تحالف آبي أحمد مع الأمهرة يجعله تحت ضغوط كبرى من أجل التصعيد والمطالبة بأراضي الفشقة. لقد استغلت كل دولة السياق الجغرافي السياسي المتغير وقوتها الداخلية ومدى استقرار الدولة الأخرى لانتزاع التنازلات فيما يتعلق بالمنطقة. لذلك أصبح الخلاف الحدودي مؤشرًا على القوة النسبية لإحداهما مقارنة بالأخرى وطبيعة علاقتهما. في هذه الحالة، أسهمت العلاقات المتوترة بين البلدين بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير مواقفهما المتشددة فيما يتعلق بالحدود. ولعل ذلك يؤكد ما ذكرناه عن مسألة التوظيف السياسي للحدود في السياق الأفريقي العام.

مخاطر التصعيد والحرب الزاحفة

منذ بداية حرب التيغراي في نوفمبر 2020، تصاعدت التوترات بين السودان وإثيوبيا حول منطقة الفشقة الواقعة بين ولاية القضارف في شرق السودان وولاية أمهرة الإقليمية في إثيوبيا. وثمة تعزيزات عسكرية على الجانبين ولاسيما بعد أن تمكن الجيش السوداني من استرداد معظم أراضي الفشقة وطرد مزارعي الأمهرة وميليشياتهم منها. قد تؤدي حرب الحدود المحتملة إلى زعزعة الاستقرار ليس فقط في البلدين ولكن أيضًا في المنطقة بأكملها. بالإضافة إلى ذلك، فإن كيفية التعامل مع القضية ونتائجها سيكون له عواقب وخيمة على التحولات السياسية في كلا البلدين اللذان يمران بمرحلة انتقال متعثر تتسم بوجود تمردات عسكرية على سلطة المركز.

البدايات الخاطئة لإثيوبيا

حتى اليوم، فشلت المحاولات الدبلوماسية لنزع فتيل التوترات، وتم تكريس الوضع الراهن المتوتر حول الحدود، مع مناوشات متفرقة وإن كانت عنيفة تؤدي إلى إزهاق الأرواح كما شهدنا في الأيام الماضية عندما استشهد عدد من الجنود السودانيين نتيجة هجوم غادر من القوات الأثيوبية. بينما يدعي كلا البلدين أنهما يريدان حل القضية سلميا، لم يبد أي منهما إشارات على التسوية في شروطه لبدء المفاوضات. تصر إثيوبيا –بلا استحياء- على الوضع السابق أي إضفاء الشرعية على استعمارها الاستيطاني التوسعي، والذي سيتطلب من السودان الانسحاب من أراضيه قبل الدخول في مفاوضات. بالطبع يرفض الجيش السوداني بدوره الانسحاب على أساس أن الفشقة أرض سودانية تاريخيا. يريد السياسيون السودانيون بدء المفاوضات وفقًا للوضع الراهن الجديد، وهم على ما يبدو على استعداد لقبول وسطاء من طرف ثالث. يرى السودان أن الحدود قد تم ترسيمها بالفعل في عام 1903 وأن هناك حاجة إلى مفاوضات فنية فقط لتحديد وضع علامات الحدود على الأرض، كما تؤكد الخرطوم أن الحكومات الإثيوبية المتعاقبة قد اعترفت بالفشقة كأراض سودانية. وطبقا للرؤية السودانية، فقد سُمح فقط للمزارعين الإثيوبيين بزراعة الأرض للحفاظ على علاقات جيدة مع الحكومة الإثيوبية السابقة في عهد ميليس زناوي وخليفته ديسالين.

من الواضح أن ثمة توظيفا سياسيا للنزاع بحيث أنها حملت دلالات رمزية ووطنية عليا. ففي السودان، أصبحت القضية صرخة استنفار من أجل الوحدة الوطنية. لقد وحدت أطرافا فاعلة سياسية مختلفة وخلقت حالة نادرة من الاتفاق بين الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية التي قدمت نفسها على أنها الدرع والسيف الذي يحمي الأمة. أما بالنسبة لإثيوبيا، تتمتع الفشقة بأهمية سياسية واقتصادية كبرى في المخيال الإمبراطوري الأمهري. الفشقة خصبة، وتحدها أنهار رئيسية. من الناحية السياسية، كان للنزاع الحدودي تأثير سلبي على استقرار البلاد حيث اتهم مزارعي الأمهرة الحكومات المتعاقبة بالفشل في حماية سبل عيشهم وحقوقهم التاريخية في الأرض خلال المفاوضات بشأن الفشقة مع السودان. وبالتالي، فإن حكومة إقليم أمهرة تتعرض لضغوط هائلة من السكان المحليين للاحتفاظ بالسيادة على المنطقة. وهي بدورها تمارس ضغوطا سياسية على الحكومة الفيدرالية، مع احتمال إحداث انشقاق خطير في حزب الازدهار الحاكم بزعامة آبي أحمد، إن تم التفريط في الفشقة. ولعل ذلك كله ينذر بالتصعيد في المواقف.

لن يكون حل النزاع المعقد سهلاً. ومع ذلك، من الأهمية بمكان تهدئة الموقف قبل بدء المفاوضات، ويجب أن يكون ذلك أولوية لكلا البلدين. وثمة آليات متعددة يمكن لإثيوبيا والسودان استخدامها لحل النزاع الحدودي دون اللجوء إلى الصراع أو الحرب بالوكالة. يمكنهم مواصلة المفاوضات الثنائية، وإشراك وسطاء أو طرف ثالث، أو الاستفادة من التحكيم الدولي إذا فشلت جميع السبل الأخرى. بيد أن حالة الفشقة –من وجهة نظرنا- تستدعي المبدأ القائل بأنه لا تحكيم في سيادة. إنها أرض سودانية وإن ادعت أثيوبيا غير ذلك فعليها إعادة إقليم بني شنقول إلى أهله في السودان لأنه نتاج اتفاق صادر عن “من لا يملك لمن لا يستحق”. على المدى القصير في ظل الحرب الدائرة في أثيوبيا والاضطراب السياسي في السودان قد يكون من المفيد العمل من أجل تهدئة الموقف والحيلولة دون أن يصبح عاملاً آخر من عوامل زعزعة الاستقرار في أي من البلدين.

 

اقرأ أيضا

سد النهضة: ورقة إقليم بني شنقول بين الخرطوم وأديس أبابا

على مسرح سد النهضة.. كيف تلعب الأطراف بأوراق الضغط ؟