عشاق كرة القدم، ممن يتابعون باهتمام شديد مباريات الدوري الإنجليزي عبر شاشة قناة «بي إن سبورت»، ويحبون بصفة خاصة الاستوديو التحليلي الذي يشارك فيه نجم الكرة المصري، محمد أبو تريكة، في أغلب الظن، لا يتوقع أي منهم أن يفاجئهم نجمهم المحبوب بالحديث عن قضية اجتماعية، أو ربما كما يراها هو نفسه، دينية. المؤكد أن المشاركين في الاستوديو التحليلي نفسه لم يكونوا يتوقعون ذلك من أبو تريكة، الذي طالبهم فجأة قبل أن يتحدث عن المباراة التي كانت موضوع الاستوديو، بأن يستمعوا إلى أمر رأى أنه شديد اﻷهمية ولا يقبل التأجيل. هذا اﻷمر العاجل هو حملة تشارك فيها الهيئة المنظمة للدوري الإنجليزي الممتاز هدفها رفع الوعي تجاه قضية استيعاب المثليين والترانس وغيرهم من اﻷقليات الجنسية والجندرية في المجتمع، بما في ذلك المجتمع الرياضي. ومن المثير للاهتمام أن الحملة التي وجد أبو تريكة أن عليه ألا يفوت فرصة اﻹعراب عن رفضها بشكل عاجل، تبلغ من العمر ثمانية أعوام، فقد بدأت في عام 2013 وتتكرر في نفس الوقت من كل عام منذ ذلك الحين.

ما نبه أبو تريكة إلى اﻷمر، كما يمكننا أن نفهم من حديثه، هو أن ابنته التي كانت تشاهد معه إحدى مباريات الدوري لاحظت شارات يرتديها قادة الفرق ملونة بألوان قوس قزح فسألته عن معنى الشارات وعن سبب ارتداء اللاعبين لها، وفيما يبدو أن الكابتن قد استشعر الحرج وكره اضطراره ﻷن يشرح لابنته ما ترمز إليه ألوان قوس قزح، ومن ثم فقد صب جام غضبه على هيئة الدوري (اﻹنجليزية) التي تشارك في دخول مثل هذه الصور الدخيلة على «ثقافتنا ومعتقدنا وديننا» إلى بيوتنا، لتفتح أعين أبنائنا على أمور يعرف العالم كله بوجودها، ولكننا نفضل ادعاء عدم وجودها، فإذا تعذر ذلك، فإننا مثل أبو تريكة، ندعو إلى اختفائها، ﻷن مشاعرنا المرهفة بشدة، تفضل القتل على قلة اﻷدب. وحيث إننا شعب الله المختار، الذي يتحمل مسؤولية هداية العالم كله إلى اﻷخلاق الحميدة، فعلينا أن نتصدى لهذه الظاهرة (الغريبة عن الطبيعة اﻹنسانية) بدليل أن 10% على اﻷقل من سكان عالمنا منذ وجد البشر على كوكبنا وحتى اليوم يمثلونها.

حديث الكابتن المحبوب محمد أبو تريكة يندرج -وفق القانون الدولي لحقوق اﻹنسان- تحت توصيف خطاب الكراهية والتحريض على العنف ضد إحدى فئات المجتمع، وهذان الخطابان هما من بين الحالات الاستثنائية المعدودة التي يجوز فيها تقييد الحق في حرية التعبير، والذي على عكس الحق في حرية الرأي (وهو حق مطلق ﻷن محله هو ضمائر اﻷشخاص)، يجوز تقييده عندما يمكن توقع أن تؤدي إساءة ممارسته إلى التعدي على حقوق اﻵخرين، أو إلى تهديد حياتهم أو سلامتهم. وذلك ما قد يحدث تحديدًا عندما يدعو نجم محبوب الملايين من متابعيه وعشاقه إلى التصدي (لظاهرة) حتى «نتخلص منها إن شاء الله». في حين أن هذه الظاهرة هي مجموعة من البشر، ومن ثم فسبيل الخلاص الوحيد منها هو إبادتها.

وبرغم أن مثل هذا المسعى هو عبثي تمامًا، ﻷن بين كل 100 طفل يولد في عالمنا ثمة 10 سيكبرون لتكون لهم ميول جنسية مثلية أو ثنوية (الميل لكلا الجنسين) بخلاف العابرين جنسيًا وجندريًا، إلا أن استجابة واحد من بين كل ألف متابع للكابتن لما دعا له، كفيلة نظريًا بتعريض حياة اﻵلاف للخطر. عمليًا، ما أدى إليه حديث الكابتن إلى اﻵن هو أن موجة ضخمة من خطاب الكراهية ضد المثلية والمثليين قد اجتاحت الدوائر العربية من مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلامية مختلفة. وما يخشى منه هو أن تؤدي هذه الموجة إلى وقائع عنف ضد المثليين، أو إلى تجدد الحملات التي تقوم بها اﻷجهزة اﻷمنية العربية من حين إلى آخر لملاحقتهم والتنكيل بهم بصور مختلفة، منها تقديمهم إلى المحاكمة سواء كانت قوانين الدولة تجرم الممارسات المثلية صراحة أو بشكل ملتف وملتو، كما هو الحال في مصر.

في جميع اﻷحوال، ثمة فرصة كبيرة ﻷن يعاقب أبرياء لم يؤذوا أحد بسبب هويتهم، وبسبب أن نجم كرة قدم، أثارت شارات تضامن إنسانية حفيظته وغيرته الدينية في غير محلهما.

أعلم تمامًا أن ما أقوله هنا لن يعجب غالبية القراء الذين يظنون مثل أبو تريكة أن عقيدتهم تملي عليهم «التصدي لظاهرة المثلية». ولكنهم في ذلك سيكونون مخطئين في فهمهم لعقائدهم، قبل أن يكونوا مخطئين في فهم ما تمليه قواعد التعايش في مجتمع حديث تعددي. فليس ثمة في أي عقيدة مطالبة بإشاعة كراهية فئة من الناس لمجرد أنهم مختلفين عن غيرهم في أي شيء. أما أي عقوبات ترتبها الشرائع الدينية فهي دائمًا تتعلق بالأفعال وليس بالهوية. وإلا لجاز معاقبة غير المثليين والحض على كراهيتهم ﻷن ميولهم الجنسية قد تؤدي إلى ارتكاب فعل الزنا، أو بعبارة أخرى، يمكن قياسًا تحريم كل الهويات الجنسية ما دامت قد تؤدي إلى ممارسات جنسية محرمة. سواء كانت غيرية خارج إطار الزواج أو مثلية.

وبرغم من أنه ليس ثمة عقوبة ثابتة بنص صحيح للممارسات الجنسية المثلية في الشريعة اﻹسلامية، فحتى إن كان يجوز العقاب عليها قياسًا على الزنا، فهي في إطار المجتمع الحديث، وفي ظل الدولة الحديثة، يجري عليها ما يجري على المعاقبة على الممارسة الرضائية للجنس بين فردين كلاهما بالغ، خارج إطار الزواج. وهو تعليق العقوبة ﻷنها أصبحت تدخل في إطار المجال الخاص والحياة الشخصية للأفراد التي لا يجوز للدولة الحديثة التدخل فيها.

الحقيقة، أن العقائد الدينية المختلفة ليست بذاتها مصدر الكراهية المتأصلة في المجتمعات للمختلفين في ميولهم الجنسية عن الغالبية، فمصدر هذه الكراهية يتعلق باﻷساس بحماية الهوية الذكورية وامتيازاتها، والتقسيم الوظيفي للأدوار بين الجنسين، والذي يتطلب حصر الغرض من الممارسة الجنسية في اﻹنجاب، تكريسًا لكون المرأة أداة تفريخ. ومن ثم ينبغي تنظيم حيازتها، ونقلها بين الذكور.

في المقابل، فإن أية ممارسات جنسية لا تؤدي إلى إنجاب أطفال في إطار مؤسسة الزواج، التي تضمن نسبتهم إلى أب. وبالتالي امتداد لموارده، وورثة له، تصبح (غير طبيعية)، وتهدد الموقع المهيمن للذكور. خاصة وإن كانت هذه الممارسة لا تهدم التوزيع الوظيفي للأدوار فقط، بل تهدم توزيع اﻷدوار في العملية الجنسية ذاتها. وهي المصدر اﻷول لكافة التعبيرات الثقافية التي تعيد إنتاج تفوق الذكر، ومهانة المرأة ومكانتها اﻷدنى. إضافة إلى ذلك، فعلى المستوى الفردي، يمثل وجود المثلية تهديدًا لاكتمال الرجولة، وهي تضيف مزيدًا من اﻷعباء التي يتحملها الرجال المطالبون طيلة الوقت بإثبات ذكورتهم بصور مختلفة. وبالتالي ففي حين قد يتعلق التحريم الديني باﻷفعال وإثبات وقوعها، فضرورات الذكورية تقتضي نفي الهوية ذاتها ورفض وجودها من اﻷساس تنزيها للذكورة عن المساواة باﻷنوثة بأي شكل.

 

ما سبق ليس محاولة لحثك عزيزي القارئ على حب المثليين أو على التوقف عن كراهيتهم، ففي النهاية مشاعرك الخاصة تجاه أي فرد أو جماعة ﻷي سبب وبأي مبرر هو أمر يخصك وحدك ولا يحق ﻷحد التدخل فيه. كما أنه لا يهدف إلى تعديل تصوراتك عما تأمر عقيدتك به أو تنهى عنه، فتلك أيضًا أمور تخصك وحدك. بل إن إعلانك عن ذلك كله يندرج تحت ممارستك لحقك في حرية التعبير، طالما التزمت في استخدامك لهذا الحق بعدة اشتراطات تحول دون أن يتحول ما تعلنه من تعبير عن رأي أو عقيدة إلى تحريض على العنف. وذلك كله ينطبق على ما يحق لشخصية عامة، مثل أبو تريكة أن يقوم به. فلو أن اﻷخير قد اقتصر حديثه على التعبير عن انزعاجه ﻷن حملة التضامن مع المثليين تطرح أفكارًا تتناقض مع قناعاته الدينية، ومع ما يرغب في تربية أبنائه على الاعتقاد فيه، لما كان ذلك قد خرج عن شروط ممارسة الحق في حرية التعبير، حتى وإن ظل مزعجًا للبعض، ولكن عدم إزعاج الآخرين لم يكن يومًا من بين شروط ممارسة الحق في حرية التعبير، بل إن الحاجة إلى حماية هذا الحق تعني باﻷساس أن ممارسته بالضرورة قد تؤدي إلى إزعاج البعض. إضافة إلى ذلك يحق ﻷبو تريكة حتى أن يطلب من الهيئة المنظمة للدوري اﻹنجليزي وقف الحملة التي أزعجته، أو أن يدعو غيره لمطالبتها بذلك معه، فحتى إن كانت هذه المطالبات عبثية، فهي لا تمثل إساءة لممارسة الحق في حرية التعبير. ما تخطى به حديث أبو تريكة حدود حرية التعبير إلى خطاب الكراهية والتحريض على العنف هو أولاً استخدامه لتعبيرات مهينة تحط من كرامة فئة من فئات المجتمع، ونفيه للإنسانية عنها؛ وثانيًا دعوته إلى التصدي لوجود هذه الفئة على أساس أنه في حد ذاته ظاهرة ينبغي لكل مسلم أن يرفضها.

 

حديث أبو تريكة من جانب آخر هو تعبير عن شعور الاستحقاق الذي يتربى عليه أبناء الأغلبية الدينية أو العرقية في مجتمع تقليدي لا يزال يمارس التمييز ضد اﻷقليات فيه بشكل اعتيادي ودون أي تحفظات. وهذا الشعور نفسه الذي يدعم الخطاب السائد الذي استخدمه غالبية من عبروا عن تأييدهم المتحمس لما قاله أبو تريكة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل اﻹعلام.

في المجتمعات التي لا يزال مفهوم المواطنة الحديث فيها مشوها بفعل الممارسات اﻷبوية والتمييزية لمؤسسات الدولة نفسها، يعتاد المنتمون إلى اﻷغلبية سواء كانت دينية أو غير ذلك على الاعتقاد بأن الصوابية المطلقة لتصوراتهم المستمدة من عقيدتهم الغالبة في المجتمع، هي أمر مسلم به لا يعتمد على الخيارات العقائدية. بعبارة أخرى، لا يمكن لهؤلاء تصور أنه في المنظور العام تظل هذه التصورات مساوية لغيرها. وهي في الحقيقة ليست قابلة للحكم الحيادي بالصواب أو الخطأ، بل تخضع فقط ﻹيمان اﻷفراد بها، بمعنى أنها صحيحة ﻷن البعض قل أو كثر يؤمنون بصحتها.

ولهذا تحديدًا فإن التصورات والأحكام بالصواب والخطأ المستمدة من العقائد الدينية، في مجتمع حديث تعددي لا يجوز فرضها بالقانون. بل ينبغي على القانون أن يعاقب اﻷفراد أو الجماعات إن حاولت فرضها على اﻵخرين خارج إطاره. وهذا هو اﻷساس الذي يقوم عليه مفهوم المواطنة، وهو الفصل بين ولاء الفرد العقائدي أو العرقي أو غير ذلك، وبين ولائه للوطن الذي يضم فئات مختلفة، من حيث العقيدة والعرق. ففي حين يحق للفرد الحفاظ على ولائه العقائدي قدر ما يشاء، فإن هذا لا ينبغي أن يتناقض مع ولائه للوطن المتمثل في الالتزام بالقوانين، وفي الحفاظ على أن يكون توافق المواطنين، وحتى اختلافهم، في إطار المصلحة العامة المشتركة فيما بينهم، ولا تحكمه التحيزات والأحكام التي يختلفون فيها حسب عقائدهم وأفكارهم الخاصة إلخ.

يعتقد البعض أن حماية حقوق اﻷقليات في المساواة في ظل مبدأ المواطنة، هي أمر يتم كاستجابة لضغوط تحقق المصالح الضيقة لهذه اﻷقليات، على حساب ما يظنون أنه الحق الطبيعي للأغلبية في إدارة شؤون المجتمع ككل بما يتوافق مع رغباتها. ولكن الحقيقة على عكس ذلك، فالمجتمع الحديث هو صاحب المصلحة في التخلص من التمييز ضد اﻷقليات، ﻷن ذلك المجتمع يعتمد في الحفاظ على السلم اﻷهلي والتعاون بين فئاته لتحقيق مصالحه على أولوية الولاء للوطن عما سواه، وكذلك على استقلالية دولته عن الفئات المختلفة بالمجتمع ووقوفها على مسافة واحدة منها جميعا، فهذا وحده ما يسمح لهذه الدولة بالتفرغ لرعاية الصالح العام المشترك بدلاً من إهدار مواردها في الممارسات التمييزية ضد اﻷقليات لمجرد أنها تستجيب لما تمليه المشاعر السائدة للغالبية، ففي النهاية بينما توقع هذه الممارسات ظلمًا ومعاناة غير مبررين على البعض لمجرد أنهم مختلفين عن الأغلبية، فهي لا تحقق أي مصلحة للدولة أو للمجتمع، فلا هي تؤدي إلى تحسين ظروف المجتمع، ولا هي تساعد على تقدمه، ولا هي تحمي المجتمع من مخاطر حقيقية تهدده، مهما كانت خيالات عشاق نظريات المؤامرة.

إن ما يمثله أبو تريكة ومن هم مثله، هو أحد أسوأ مظاهر انكفاء مجتمعنا على الذات والذي يعميه عن رؤية مصالحه الحقيقية، ويبقيه محبوسًا داخل الصناديق المظلمة لأوهامه ومخاوفه غير الواقعية. والتحرر من الكراهية غير المبررة للآخر المختلف هو في حقيقته تحرر من المخاوف المرضية، وعودة إلى نور الواقع المنفتح على الاحتمالات اللانهائية لمستقبل مختلف للأفضل.