عزيزتي ماريانا*

شعرت بالحيرة والأسف، لأنني لم أعد متفاعلا مع ما يدور حولي، لم تعد عندي رغبة في الكتابة المواكبة للمرحلة، ولا في النقاش القسري الذي تفرضه قوة غامضة تلون أيامنا وكلامنا بلون كالح كريه الرائحة..

لذلك تعمدت الخروج من كل العناوين المطروحة للكتابة والنقاش، تعمدت الاحتجاج على الوجبة الفاسدة التي يرمونها إلينا عبر جنودهم الأوغاد المستلبين، قد يكون في  سلوكي درجة من الهروب، لكنه (في تقديري المرتاب) مجرد “هروب مؤقت”، كما كنت تتهربين من حرس الديكتاتور في زمانك.

أحوالنا هذه الأيام صعبة وحزينة.. ضعنا في المتاهة الكبيرة يا عزيزتي، لم نفقد الطريق فقط، لكن فقدنا أشياء كثيرة أخرى، أخشى يا ماريانا أن تكون “الحقيقة” ضمن ما فقدناه، وأخشى أكثر أن نكون فقدنا ذواتنا، وهويتنا، ودوافع خروجنا من المتاهة، أخشى يا عزيزتي أن يكون كلامنا، وبحثنا، وعراكنا، وكل شيء نفعله، ليس إلا علامات رضا على أن هذا التيه العظيم هو حياتنا، وأن كل ما نفعله، هو ببساطة السلوك الملائم لتقضية الأيام في هذه الحياة..

عزيزتي: هل قتلونا فعلاً؟

كثيراً ما أشعر أني مت بين خيط من الصواب وخيط من الخطأ، حسب تعبير شاعر مصري مات بعدي، أو بدقة أفضل “أُغتيل مثلي” لكن بنوع آخر من الرصاص، يقول المشككون إن قوات الجنرال لم تعدمني، ولم تكن هناك أسباب سياسية تدعو للتخلص من صوتي، ويجتهدون في إثبات قتلي نتيجة صراعات العائلات الحاقدة على أبي، لا تصدقيهم يا عزيزتي، فليس مهما على الإطلاق أن يشد الجنرال الزناد ويطلق الرصاص بنفسه، يكفي أنه يمنح للقتل (وللقتلة) مكانة وطنية وأخلاقية في زمانه، أنا أعيب على المرحلة يا ماريانا وليس على أشخاص، أعيب على القيم السائدة فيها، على أصحاب الأوامر و”الفرامل”، أما الضاغطون على الزناد فهم في الغالب ليسوا أكثر من ضحايا مستلبين أو مجرد آلات صماء كالبنادق التي يحملونها.

عزيزتي   

يظن الأولاد هنا أنك زوجتي، وينشرون الصور والكلمات عن علاقتنا الغرامية، إنهم لا يعرفون أنك أكثر من زوجة، وأكثر من حبية، لا يعرفون أنك “طريقي” و”دليلي” و”منتهاي”، وهذا ما حاولت أن أقوله قبل أن يطلقوا الرصاص على أشعاري، لقد كتبته في أوبريت مسرحي كامل باسمك (ماريانا بنيدا).. ورسمت صورتك فيها بطيفك الذي يملأ خيالي منذ كنت صبيا في العاشرة: ملاكا بشريا يرفل في ثياب بيضاء ناصعة، الوجه منير، والثغر باسم، والعيون زرقاء كالسماء لامعة كالنهار، والشعر ينسدل حراً، كأنه يعلن هتافه في وجه الديكتاتور: حرية.. حرية

أعترف أنني أحببتك كثيراً في وهج الطفولة والتكوين، ألم يخبرك “ألماجرو” عن حبي لك؟، لقد حكيت له كثيراً عن طيفك الذي قاد طريقي إلى “اللحظة الفاصلة”؟، وأنا عندما أقول “اللحظة الفاصلة” يا عزيزتي لا أقصد الموت، ولا أقصد الهزيمة، ولا أقصد النهاية، لكن أقصد الخلود، أقصد التمسك أكثر بالحرية، أقصد بداية جديدة، فنحن “لن نموت، إلا إذا ماتت غرناطة كلها”..

أذكر أنك قلت شيئا قريبا من هذا المعنى لحارس الديكتاتور عندما استخدم معك لغة التهديد، أذكر أنك قلت له أيضاً بتحدٍ وكبرياء: “أنا الحرية”، كأنك تردين على جارنا الفرنسي المتغطرس (لويس الرابع عشر) الذي قال: “أنا الدولة”.

عزيزتي ماريانا

قد تسألين، بما أنك اعترفت الآن بأنك أحببتني منذ طفولتك، فلماذا تخاطبني “عزيزتي”، وليس “حبيبتي”؟

كيف لي أن أحبك يا ماريانا إن لم أكن حراً؟، كيف لي أن أعيش وأتكلم وأعرف نفسي إن لم أكن حراً؟… ما الإنسان يا ماريانا بدون حرية؟!

أذكر يوم صعودك إلى المقصلة، لأنك رفضت الاعتراف بأسماء الثوار..

أوووه.. ياله من يومٍ حزينٍ في غرناطة/ يومٌ بكى فيه الحجر/ وبكت البلاد لرؤية ماريانا تحت المقصلة/ ليس لأنها ارتكبت جرماً/ لكن لأنها لم تشي بالأحرار/ ولم تخن الحرية..

آآآه يا عزيزتي.. كم تمنيت يوماً كهذا، ولا أعرف حتى الآن هل أحصل عليه أو أموت كما تموت الأرقام التي ترميها في وجوهنا منظمات الأوبئة؟

هل شاهدت فيلم “كوكو” يا عزيزتي؟*

أنا عالق في البرزخ مثل “هيكتور”، لن أنجو من هذا المصير إلا إذا ظهر “ميخائيل”، وأخلص للفكرة التي يعيش الناس عادة من أجلها: الحرية والذاكرة التي تربط الأسلاف بالأحفاد، لابد أن ينجح ميخائيل في إنعاش الذاكرة وإعادة “صورتي” إلى بيت العائلة.

لا تتعجبي من مصيري يا ماريانا، ففي المتاهة التي ندور فيها، لا ننتمي إلى عالم الأحياء، ولا ننتهي إلى الموت، نعيش حياة ليست كالحياة، ونظل عالقين بانتظار جهود الأحفاد من أجل تحريرنا ورد اعتبارنا، نظل غائبين وغير مرئيين بدون إخلاص الذاكرة واحترام التاريخ، نظل نهفو إلى محاربة الزيف وإدانة الوشاية وكشف لصوص المهرجانات الكاذبة، ولا سبيل آخر للتحرر إلا بهذا، فالحرية يصنعها دمك يا ماريانا، وتحفظها أجيال لا تهدر التاريخ، ولا تهمل تضحيات الأحرار.

عودة إلى حديث المتاهة

أشد ما يؤلم الإنسان الحر يا عزيزتي، أن ينقسم الناس إلى قرابين ومحتفلين، أناس يطلبون الحرية فيأخذونهم إلى مذبح القرابين، وأناس يحتفلون بالأضاحي التي تحول دمها إلى فداء للجنرال، وليس ثمنا للحرية، بينما الجموع منهمكة في طقوسها، إما بالاحتفال وإما بالاستنكار.

كلامي غامض!.. أليس كذلك؟

لأن عصرنا صار أكثر غموضا من حسابات زمانك في مطلع القرن التاسع عشر، حيث كانت المطالب واضحة، والاختيارات محدودة، والصراعات بين ظالم ومظلوم، حاكم ومحكوم، أما اليوم فلدينا اختيارات فضفاضة وهائلة، ولدينا “مضخة خرافية” تجمع الأكاذيب مع الحقائق في سلة واحدة، لا أتحدث عن منشور سياسي أو واعظ في كنيسة، أو حتى “راديو” يشق طريقه ببطء نحو امتلاك آذان الناس، أتحدث عن وحش مخيف يهيمن على حياتنا، عن أخطبوط إعلامي بألف ذراع، استطاع أن يسلب الناس عقولهم وذواتهم، حتى صار الكثير من المظلومين جنداً في جيش ظالمهم، صار الفقراء يتصارعون ويتقاتلون مع بعضهم البعض لنصرة مواقف ومعارك اللصوص الذين يسرقونهم..

قد تقولين: كلام شعراء، وتطلبين وضوحا أكثر للحقائق..

المؤسف يا عزيزتي أننا صرنا بعيدين جدا عن “الحقائق”، لأن كل شيء ضاع في صحراء الشك والتيه والانقسام والجدال العقيم، وهذا المناخ جعل الحقائق تنكمش، وجعل الباقي منها مفزع وقبيح جدا، لم يعد لدينا فردوس أو حلم نسعى إليه، صارت الحقائق التي تسيطر على حياتنا هي جهنم وحكم الديكتاتور، وفيما عدا ذلك نختلف على ما أسميتموه “الحقائق”، وأقصد ذلك المثلث الذي اخترتموه شعارا لثورتكم: (الحرية، المساواة، القانون)… كل الثورات تقريبا لا تطلب أكثر من هذا المثلث بصياغات مختلفة، لكن المؤسف أنه كلما اندلعت ثورة، وخرج الناس من المتاهة لتحقيق شعارات ثورتهم المستحقة، سرعان ما تصيبهم اللعنة، وينقلبون إلى كائنات متنافرة ومتصارعة، لتذهب الثورة (كوجبة غذاء للوحش) تقوي فرناندو وأحفاده، ليصبحوا أكثر بطشاً، وأكثر ظلماً، وأكثر معاداة للحرية..

عزيزتي الحرية

كان بودي أن أحكي لك عن تفاصيل وأمثلة من زمان القهر، لكن هذا يضع الرسالة الرمزية المشفرة تحت طائلة الحجب، ويضع محتواها وفحواها تحت المقصلة، والمحزن يا عزيزتي (كما ألمحت لك من قبل) أن المقصلة في زماننا لا تحفظ قضية ضحاياها من الأحرار، ولا تضع “حكايات الحرية” كأغنيات على ألسنة الناس، تحيي السيرة وتنشط الذاكرة، لأن ميخائيل في زماننا صار يستنكر الموسيقي وينهمك في صناعة الأحذية*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش وإشارات:

* لوركا شاعر أسبانيا العظيم الذي اغتيل في بدايات الحرب الأهلية الأسبانية التي انتهت بالحكم الفاشي للجنرال فرانكو.

*  “ماريانا دي بينيدا” مناضلة أسبانية من القرن التاسع عشر، جعلت من بيتها مركزا للثورة الليبرالية ضد دكتاتورية فرناندو السابع، تم القبض عليها وإعدامها، بعد أن وجدوا عندها وثائق الثورة وعلم للدولة الجديدة عبارة عن مثلث أخضر يشبه رأس سهم لأعلى على خلفية بلون البنفسج وشعار ثلاثي (الحرية، المساواة، والقانون) قريب من  شعار الثورة الفرنسية، لكن ماريانا لم تمت في الذاكرة الشعبية، وإنما تحولت إلى رمز للحرية، وسيرة ملحمية وأغنيات شعبية يحفظها الناس في أنحاء البلاد.

* Coco فيلم رسوم شهير من إنتاج بيكسار يتناول موضوع الذاكرة وتأثير الموتى في حياة الأجيال اللاحقة عن طريق الترابط واحترام تاريخ العائلات، فمن تضيع صورته من جدران بيته، يختفي من الحياة ويعيش غريبا معذبا في موته، والفيلم متوفر للمشاهدة على إنترنت، كما تتوفر معلومات تفصيلية عن قصته ورمزيته.

* إشارة إلى العقدة الأساسية في فيلم “كوكو”