بعد مشاهدة فيلم “إمبيارو“، ضمن المسابقة، التي تضم العمل الأول أو الثاني على الأكثر لصانعه، بدا على وجه المخرج سيمون سوتا التوتر في حديثه إلى “مصر 360″، مؤكدا في بدايته الصعوبة الشديدة التي يواجهها أي فنان يريد صنع فيلمه الأول.
“إمبيارو” تأجل عرضه لأواخر أيام مهرجان القاهرة السينمائي في الدورة الثالثة والأربعين. وربما كان الفيلم شبه الوحيد، الذي يضع السلطة العسكرية في قلب قصته وحبكته من داخل كولومبيا، بلد صانعه.
“كنت أريد صناعة الفيلم كسيرة ذاتية مصوّرة لما عايشته في فترة مراهقتي، ثم اكتشفت أن هناك كثيرين على شاكلتي، وشاكلة والدتي، التي استلهمتُ منها شخصية البطلة في الفيلم، وصنعتُه أساسًا من أجلها… كانت أيامًا قاسية. وكانت أمي مصدر الإلهام الأكبر في كل ذلك”..
هكذا استهل المخرج الكولومبي حواره مع “مصر 360”.
قبل وضع الفيلم في سياق التاريخ الأوسع لكولومبيا التسعينيات، علينا أولا الإشارة الجانبية للجزء الذاتي من السرد البصري أو المكتوب من خلال المجلد الكبير، الذي يحمل عنوان “في طفولتي.. دراسة في السيرة الذاتية العربية”.
وفيه كتب الباحث تيتز رووكي، رسالته للدكتوراه، التي ترجمها طلعت الشايب عن المركز القومي للترجمة، ونقل فيها عن الباحث روي باسكال أن السير الذاتية العظيمة هي التي تدرك قيمتها دون الرجوع إلى الحياة الفعلية لأصحابها.. وأن القول بأن حياة الفرد ذات مغزى جماعي قول صحيح.
وهو الرأي، الذي أخذت به دار الهلال المصرية، عندما طلبت من عدد من الكتّاب والفنانين كتابة سيرتهم الذاتية في طفولتهم وجمعتها في كتاب.
هنا لا زمن يختلف ولا إدراك يحتاج إلى أن ينضج أكثر.. إمّا أن تتذكر ما حدث أو لا.
كولومبيا التسعينيات
هذا الفيلم يحمل من سيرة صانعه القدْر ذاته، الذي يحمله من بلده كلها في تلك الفترة، أواخر تسعينيات القرن العشرين.
هناك حيث عاش شباب كولومبيا، التي اشتهرت منذ ذلك الوقت باعتبارها بلدة “بابلو سكوبار”، أحد أشهر تجار المخدرات في التاريخ. ذلك في واحدة من أسوأ فتراتها على الإطلاق.. المخدرات تُباع على النواصي، والاحتكاكات العسكرية على الحدود، والبطالة في كل مكان، والمراهقون يُخطفون من الشوارع للتجنيد الإجباري: “كانت الأفظع بين البلدان التي عرفتها بعد ذلك على الإطلاق”، بحسب “سوتا”.
كولومبيا، البلدة سيئة السمعة، لم يختبرها العرب مثلًا ضمن نقاشات ما بعد الفيلم إلّا على اعتبارها بلدة التهريب، مصدّرة الحوادث شديدة الغرابة، التي كان آخرها القصة التي سعى بعض صناع السينما لتحويلها إلى فيلم سينمائي بعد أن تصدرت عناوين الأخبار لشهور.
كانت القصة أن تظاهر يتيم كولومبي طوال ثلاثين عاما بأنه ينتمي إلى العائلة المالكة السعودية، وأن اسمه الأمير خالد آل سعود.
لم يكن أحد يتوقع أن مظهره الدال على الثراء هو مجرد أداة يستخدمها لخداع رجال الأعمال، إلى أن تم إلقاء القبض عليه العام الماضي بمطار “جيه إف كينيدي” بتهم الاحتيال وانتحال صفة مسؤول أجنبي.
إمبيارو وجيجناك.. وقصة أمير محتال
بعد ذلك وُجد أن هذا “الأمير السعودي” ما هو إلا يتيم كولومبي يدعى أنثوني إنريك جيجناك تبنّته أسرة أمريكية وهو في سن الخامسة، وانتحل في سن السابعة عشرة شخصية التاجر السعودي عدنان خاشقجي، الذي أصبح بعد ذلك الأكثر ثراء في العالم.
في السنوات التالية قضى “جيجناك” أوقاتا داخل السجن بتهم تزوير بطاقات ائتمانية والاحتيال على مستثمرين للحصول منهم على أموال مقابل مشاريع وهمية.
يقدم الفيلم، الذي رشحته بلده إلى جوائز مهرجان “كان”، قصته في أواخر التسعينيات، قصة أم عزباء تعول طفليها وحدها.. تدخل في علاقة مع رجل متزوج، ربما لسد حاجتها الجنسية فقط، وترفض بشكلٍ قاطع الرجوع إلى والد أطفالها.
طوال الفيلم نشاهد الأم سيدة جامدة الملامح، تتحرك ربما دون روح بشكلٍ مقصود، دون ضحك أو بكاء، تقضي فتراتٍ طويلة في العمل بينما يتبقى القليل لتقضيه مع ولَدَيها، هكذا يمكن أن تعيش حياتها فقط.. تعود إلى المنزل ذات مرة لتكتشف غياب مراهقِها، ومع بحثها الدؤوب عنه تكتشف أنه تم ضمُّه لقوات الجيش الكولومبي لإرساله على الحدود.
يقف الفيلم أمام معضلة مؤسسة لتفكيك التصور العام إلى البلد في أثناء تلك الحرب بمساومتها على دفع ثلاثة ملايين بيزو، العملة المحلية، لعودة ابنها أو أن تتركه للذهاب، أو مثلما يقول أحد الشرطيين في الفيلم: “على الفقراء فقط أن يخوضوا تلك الحرب!”.
إمبيارو بين سلطة الأم وسلطة الجيش
لا نحتاج إلى سرديات رمزية طويلة نشرح فيها الفساد العسكري، الذي يحرك كل شيء في الاتجاه الذي يريد.. تقف البدلة الميري وحدها كممثل للشر في مواجهة الأم/البطلة، التي تريد استعادة ابنها. وهي تراه مقدمًا للتضحية به ضمن آلاف الفقراء الموتى في الحرب العبثية، بسبب المخدرات والمال الفاسد.
موسيقى تصويرية مكثّفة مع مشاعر بطلة جامدة الملامح تكتم مشاعرها في صدرها، وصورة مظلمة ضيقة للجميع. يقول المخرج بكل شجاعة إنه اضطر للاعتماد على الكادرات الضيقة، لأنه لا يملك المال الكافي لتأجير معدات تصوير عالية الكفاءة.
أعتقد أن الفيلم، رغم استلهامه من سيرة المخرج الذاتية، يقدم دراميًا قصة البلدة الأكبر من خلال تلك الأم. ذلك دون أن يسقط في فخ التسجيلية والسرد التأريخي للبلد أو للشخص.
يصوّر الفيلم من قلب عاصمة تجارة المخدرات في الداخل “مناجين”، بلدة بابلو سكوبار، في هذه الفترة، بعد أن تغيرت الأمور نسبيًا.
قبل سنوات قليلة فقط تم منع خطف الأطفال من الشوارع للتجنيد. لكن لا يزال هناك صعوبة، لا تزال هناك ميليشيات، لكنها قليلة.
الفاينال.. أن يُختم عمل بأكثر المشاهد ملحمية
قصة إنسانية قاسية، في قلبها نشاهد حديثا عن التجنيد الإجباري، الذي نشاهده في أغلب دول العالم، وليس في كولومبيا وحدها. وإنْ كانت هناك أشد قسوة، وربما رمزية يصعب الموافقة على عملها في أغلب دول العالم.
يجلس كل مشاهد في العالم أمام الفيلم، وربما يحمل التساؤل الذي ظهر في رأسي مباشرة: هل يمكن صناعة فيلم محلي يحكي قصة التجنيد الإجباري لصانعه؟
أعتقد أنني أعرف إجابتي الشخصية على أقل تقدير..
ننتظر بعد مشاهدة عشرات الأفلام يومًا بعد آخر.. الأفلام التي تقدم خطابها السياسي بذلك الوضوح والجرأة رغم كل شيء يمكن أن تجعل منتجيها يحذَرون حتى مجرد عرضها فقط.
ثم يأتي فيلم “إمبيارو” كفيلم مميز وشديد الإلهام في مسابقة المهرجان، وربما من بين الأكثر حميمية في أثناء صناعته. لأنه يحمل من تاريخ صانعه الشخصي وذكرياته عن والدته، الأكثر تأثيرًا في حياته على الإطلاق.
نشاهد سلطة الأم تنتصر على السلطة العسكرية الفاسدة في مشهد ختامي ملحمي.. نشاهدها تنام في سريرها إلى جانب طفليها.. تحتمي بهما ويحتميان بها من هذا العالم.