على النقيض من سلفه دونالد ترامب، أعلن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن منذ اليوم الأول لتنصيبه احترامه للصحافة وحريتها واستقلالها، واعدا بإعادة تدفق المعلومات والأخبار من البيت الأبيض.

السياسي المخضرم الذي قضى نحو نصف قرن في مؤسسات السلطة الأمريكية تعهد في يناير الماضي بنزع فتيل الاحتقان بين وسائل الإعلام ومؤسسة الرئاسة، بعد 4 سنوات ناصب فيها رئيس الولايات المتحدة السابق الصحافة العداء ودخل مع منصات الإعلام في حرب شرسة ووصفها بـ«الكاذبة والمضللة»، ما دعا وسائل الإعلام إلى التربص به وتصيد أخطائه والتفتيش في تاريخه بحثا عن فضائحه وآثامه.

وفي أول إفادة لها تعهدت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي بمشاركة الصحفيين الحقائق والمعلومات الدقيقة والتحلي بالشفافية، ووعدت بالتعاون المهني المتحضر مع وسائل الإعلام، وقالت إنها تكن «احتراما عميقا لدور الصحافة الحرة والمستقلة في النظام الديمقراطي».

لم يتعكر صفو العلاقة بين إدارة بايدن والإعلام سوى بعد سيطرة حركة طالبان الدينية المتشددة على العاصمة الأفغانية كابول والانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من أفغانستان في أغسطس الماضي، حينها وجهت الصحف انتقادات لاذعة إلى بايدن ووصفت قراره بإنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان على النحو الذي جرى بـ«المهين والفوضوي والمخيب لآمال الشعب الأفغاني».

في أول لقاء له بالصحفيين بعد مشاهد سقوط كابل وخروج القوات الأمريكية، تجاهل بايدن الرد على أسئلة الصحفيين بشأن الوضع في أفغانستان، والتزم بالحديث فقط عن القضايا التي تعرض لها في خطابه، وهو ما أزعج الصحفيين ودفعهم إلى التركيز في تقاريرهم على «تجاهل الرئيس الرد على الانتقادات التي وجهت إلى إدارته بسبب ما جرى في أفغانستان».

بعدها تحدث بايدن ووزير دفاعه ورئيس أركان الجيش الأمريكي عما جرى وحاولوا الدفاع عن قرارهم لكن ردودهم لم تقنع الرأي العام الذي شاهد وتابع على الهواء مباشرة مشاهد إجلاء المدنيين الأمريكيين والمتعاملين مع القوات الأمريكية من المواطنين الأفغان من مطار كابول بشكل مس كرامة الشعب الأمريكي وذكره بصور انسحاب الأمريكيين من سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية عام 1975.

ومع تصاعد الجدل داخل الكونجرس الأمريكي عن الأوضاع في أفغانستان وعن تجربة 20 عاما قضاها الأمريكان في تلك البلاد التي احتلوها كي يخلصوها من التشدد والاستبداد ويؤهلوها للديمقراطية والتحضر، وبعد اعتراف قادة عسكريين أمريكيين بأن هناك أخطاء في التقدير أدت بهم إلى هذا الفشل، في هذا التوقيت فكرت الزميلة ياسمين سعد الصحفية الشابة بجريدة «الشروق» في أن تراسل الرئيس الأمريكي، لتحصل منه على إجابات على أسئلة كانت محل اهتمام الرأي العام بالعالم آنذاك.

تواصلت ياسمين مع البيت الأبيض عبر البريد الإلكتروني في نهاية سبتمبر الماضي لسؤال بايدن عما إذا ما كان يرى -بعد هذه الاعترافات بالتقصير العسكري والاستراتيجي- أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهذه الطريقة كان قرارا صائبا، وعن الرعايا الأجانب والأفغان الذين وجدوا أنفسهم تحت رحمة طالبان، بالرغم من وعد أمريكا بمساعدتهم وإجلائهم، وكيف ستتعامل واشنطن مع التهديدات الموجهة للنساء تحت حكم طالبان.

وبعد مراسلة الصحفية الشابة للرئيس الأمريكي، مضت في عملها بالجريدة تقدم محتوى صحفيا عن ذات الملف أثار اهتمام القراء والمتابعين، حتى تفاجأت الأسبوع الماضي برد من الرئيس الأمريكي على أسئلتها عبر إيميل رسمي ممهور بتوقيعه.

هذا الرد وإن جاء متأخرا بعض الشيء إلا أنه يثبت أن احترام بايدن وفريقه لمهنة الصحافة لم يكن محض شعارات جوفاء كالتي يرددها زعماء وقادة دول العالم الثالث، هذا الاحترام الذي قد يصل إلى درجة التقديس لـ«السلطة الرابعة» في الولايات المتحدة جزء لا يتجزأ من عقيدة المجتمع الأمريكي المؤمن بأن الصحافة الحرة هي أساس الديمقراطية التي يتمتع بها، فهي التي تمنحه حق مراقبة وتقييم ومساءلة المسئولين أيا كانت مراكزهم، وهي التي توفر له الخبر الصحيح والمعلومة المدققة والرأي الحر ما يساعده على الاختيار بين المتنافسين السياسيين في أي استحقاق انتخابي، لذا خاض هذا المجتمع بمؤسساته عشرات المعارك انتصارا لحرية الصحافة، آخر تلك المعارك كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سقط فيها دونالد ترامب، وكان أحد أبرز أسباب هذا السقوط معاداته للصحافة وتعامله معها باعتباره قائدا عربيا أو زعيما شرق أوسطي يزدري الإعلام الحر ويسعى إلى تهميشه، وهو ما رفضه الشعب الأمريكي.

أجاب الرئيس الأمريكي على أسئلة صحفية «الشروق»، بعد أن تقصى عن الجريدة من قنواته الخاصة، وما أن تلقت الزميلة ياسمين الإجابات ونُشرت تصريحات بايدن، حتى ثارت عاصفة من الجدل بين العاملين في بلاط صاحبة الجلالة الذين عانوا الأمرين خلال السنوات الأخيرة التي شهدت فيها مهنة الصحافة حالة من الجدب والتجريف غير المسبوق منذ أن عرفت مصر صناعة الصحف قبل قرن ونصف تقريبا، وذلك إثر تقييد حريتها والإصرار على تطويعها وتوجيهها، ليتحول المحتوى المعروض على منصاتها إلى صدى صوت لمن فرض عليها هذه الحالة.

وكشفت تغريدات الصحفيين في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بعد نشر «الشروق» لتصريحات بايدن، عن حالة من الحسرة على ما وصلوا إليه ووصلت إليه مهنتهم، ففي الوقت الذي يرد فيه رئيس أكبر دولة في العالم على صحفية (مجهولة بالنسبة له) تعمل في صحيفة بالشرق الأوسط -أعتقد أنه لم يسمع بها من قبل- يتجاهل مسؤولو بلادنا أيا كان موقعهم الصحفيين، وصار الاستثناء أن يرد هؤلاء على استفسارت المحرريين خاصة في القضايا الشائكة، ولو ردوا بمعلومات وحقائق لا ترضى عنها السلطة فلن تنشرها الصحف في أغلب الأحوال، حتى لا يقع المسؤول والصحفي في المنطقة المحظورة، ليقتصر العمل الصحفي غالبا على نشر البيانات أو نقل كلمات المسؤولين كما هي، حتى التغطيات والجولات ينتظر الصحفيون الإفادة الرسمية لنشرها.

بفعل الحصار والتقييد، فقدت الصحافة المصرية خلال السنوات الأخيرة بريقها، وبريق الصحف يأتي من الانفراد بنشر ما يدور في كواليس مؤسسات الدولة، والاشتباك مع المسؤولين وتفنيد ما يطرحونه ويعلنونه في مؤتمراتهم وبياناتهم، والبحث عن التناقضات وإجراء مقاربات ومقارنات بين ما يصرح به المسؤول وما سبق أن أعلنه وبين ما يعد به وما تحقق على الأرض، ونقل ردود فعل الناس على القرارات والتوجهات والسياسات.

لذلك فقد الجمهور المصري شغفه ورغبته في متابعة وسائل إعلامنا، بعد أن أدرك أن ما تقدمه ليس إلا رسائل معلبة يراد بها توجيهه إلى سبيل الرشاد التي رسمته السلطة، ومل من تكرار المحتوى، وأصبح من السهل عليه أن يتنبأ بما ستتناوله الصحف والمواقع الإخبارية والقنوات التلفزيونية من أخبار وتقارير وفقرات، وتلك لو تعلمون كارثة. فتوقع المتلقي لما يمكن أن تقدمه له المنصات الإعلامية يجعله زاهدا في متابعتها ويدفعه إلى البحث عن منصات بديلة بغض النظر عن مدى مصداقية ما تقدمه له.

توقفت الصحافة المصرية عن القيام بمهامها الأساسية، وفقدت بريقها، لذا قرر الجمهور هجرها وتوجه إلى فضاء «السوشيال ميديا» أو إلى منصات إعلامية تقليدية أخرى تبث من خارج مصر ولا تخضع لذات القيود ولا لقوائم المحظورات وتقدم مضمون ومحتوى مختلف عما يقدمه إعلامنا.

ما فعلته محررة «الشروق» أنها فاجأت المتلقي وخالفت توقعاته وأتاحت له الفرصة لمعرفة رأي الرئيس الأمريكي في قضية مثيرة شغلت تفكيره، حصلت ياسمين على خبطة صحفية مثيرة، في وقت انحسرت فيه الإثارة على إبراز أخبار شطا وحمو بيكا ومجدي سوستة وبطته شيماء وحشيش وتمور عمر كمال ومعركتهم هؤلاء وأشابههم مع نقيب الموسيقيين، ورصد ملابس زائرات مهرجان الجونة، ومتابعة معركة الإعلاميين مع رجل الأعمال نجيب ساويرس بعدما أدلى برأيه في قضية منافسة الدولة للقطاع الخاص، وغيرها من الملفات المسفة والموضوعات ذات البريق الزائف.

الإيجابي في خبطة ياسمين أنها دفعت أهل المهنة إلى التفكير مجددا في كيفية إعادة الاعتبار إلى مهنتهم، كما أنها جددت مشاعر الغيرة والمنافسة والرغبة في الوصول إلى سبق صحفي أو خبطة مهنية، لكن أخشى أن تصطدم تلك الرغبات بسقف حرية منخفض مفروض على الصحف ووسائل الإعلام خلال السنوات الأخيرة، أو بمقص الرقيب المتربص بأي محتوى صحفي يشتبك مع قضايا الناس وهمومهم.

احترام الصحافة وحريتها واستقلالها في الدولة الديمقراطية هو احترام للمواطن صاحب السيادة والولاية الحقيقية واحترام لحقه في أن يعرف فيقيم ويساءل ويحاسب ويغير. فالصحافة وجِدت لخدمة المحكومين وليس الحُكّام، على ما قضت المحكمة الدستورية الأمريكية العليا التي سمحت لجريدتي «واشنطن بوست» و«نيو يورك تايمز» بنشر وثائق سرية للبنتاجون عن حرب فيتنام في مطلع سبعينيات القرن الماضي تثبت تورط 4 رؤساء أمريكيين في الكذب على الشعب الأمريكي بشأن هذه الحرب.