أطرح سؤالًا افتراضيًا في محاولة لتنشيط العقل الناصري: لو أن «جمال عبد الناصر» موجود اليوم في السلطة، فمؤكد أنه سوف يجد على مكتبه بالمنشية ملفا يحوي تقرير أحوال، وعلى مغلفه الرئيسي سوف يجد أمامه العديد من الأسئلة التي تنتظر قراره بشأنها وكيفية التصرف حيالها، وهي تتضمن بالضرورة ما أسميه «أسئلة الناصرية السبعة»:
ـ ماذا نفعل تجاه الأسس التي بُني عليها نظام «ثورة يوليو» في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ـ ما رأيه فيما جرى من دمج لكل السلطات في السلطة التنفيذية منذ أول إعلان دستوري في ظل «جمهورية يوليو» سنة 1953 إلى آخر تعديلات دستورية جرت على دستور العام 2013؟
ـ هل يعيد الكرة مرة أخرى، أم تُراه استفاد من مآلات تجربته من بعده؟
ـ ما الموقف من التعددية السياسية، وما الإبداع الذي سيقدمه حول صيغة «تحالف قوى الشعب العامل» في ظل التعددية السياسية؟، وما هي الصياغات الجديدة التي سيدخلها على باب «الديمقراطية السليمة» التي وعد بها «الميثاق الوطني»، وقبله وعدت بها «ثورة يوليو» نفسها؟
ـ هل سيكون مع تركيز ومركزية كل السلطات في يد واحدة، حتى لو كانت هذه اليد هي يده، وحتى لو كل السلطات في جعبته؟
ـ كيف يمكن أن تتحقق حرية المواطن بجناحيها: الاجتماعي والسياسي، من دون أن يتقدم واحد منها على الآخر، أو يكسره، ويعوقه؟
ـ هل يمكن أن نتوقع من «عبد الناصر» أن يطرح «الجمهورية البرلمانية» بديلا عن «جمهورية رئاسية» فشلت، وتكرر فشلها عبر العهود المتتالية من عمر «جمهورية يوليو»؟
**
تقديري النابع من تقديري لثورية «جمال عبد الناصر»، وهو تقديرٌ مؤسس على فهمي لتجربته الوطنية الكبرى، ودوره التاريخي الفذ، أن «عبد الناصر» سيكون على رأس الذين وعوْا «درس النكسة» الحقيقية، التي طالت نظامه، وانقلبت على سياساته، ووضعت البلاد في نهاية المطاف في جعبة الأمريكان، وتحت تأثيرات الصهاينة العرب والإسرائيليين على حد سواء.
«جمال عبد الناصر» الذي كان تلميذا نجيبا في مدرسة «التجربة والخطأ» قاد التجربة باقتدار، وتعلم من الأخطاء بتواضع، لا أشك لحظة في أن إجابته على ما أسميته بأسئلة الناصرية السبعة، ستأتي في مصلحة إعادة تكوين الجمهورية التي أسسها لتصبح «جمهورية العدالة والديمقراطية» التي تقوم على أسس وتنظيمات وبُنى وأفكار تحقق العدالة الاجتماعية، وفي نفس الوقت (وعلى نفس القدر من الأهمية) تعمل على تعظيم المشاركة الشعبية في القرار السياسي، عبر كل الأدوات والوسائل والوسائط التي تضمن تفعيل وتحصين تلك المشاركة واستمرارها.
**
ليست هناك لأحدٍ حجة بعد اليوم في المطالبة بحصر النقاش حول نقد تجربة «عبد الناصر» في الإطار الناصري وحده، أولا: لأنها صارت الآن جزءًا من التاريخ المصري وتاريخ المنطقة والعالم، وهي بالفعل مطروحة للنقاش العام مع كل مناسبة من مناسبات ذلك التاريخ، وثانيا: لأن «عبد الناصر» نفسه سبق الجميع، كما هي عادته دائمًا، وقام هو بنقد نظامه، (ونصوص محاضر الجلسات السياسية التي تحوي تفاصيل ذلك النقد منشورة، وصارت في أيدي الناس كلها)، وأكتفي هنا بذكر ما جرى في واحدٍ من أهم الاجتماعات التي أعقبت هزيمة يونيو سنة 1967، وحسب نصوص محضر جلسة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، المنعقدة في المقر الرئيسي بكورنيش النيل ـ القاعة الرئيسية بالدور الحادي عشر، الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الخميس 3 أغسطس1967.
كانت وقائع الهزيمة وما جرى بعدها تلقي بظلالها المعتمة على كل شيء في مصر، وكان «عبد الناصر» في أصدق لحظاته مع نفسه، ومع المحيطين به عند قمة السلطة السياسية، وراح يشخص الأمراض التي أصابت الدولة، وبدا أنه يركز على فكرة الحاجة إلى «مجتمع مفتوح».
ومن الحاجة إلى هذا المجتمع المفتوح ينتقل للحديث عن «الديمقراطية»، فأكد «عبد الناصر» على «فشل التنظيم السياسي الوحيد في بناء جبهة داخلية متماسكة، علاوة على عجزه عن تقديم نموذج عملي للمشاركة السياسية»، وراح يقترح على المجتمعين ضرورة تعديل النظام السياسي، والانتقال للتعددية، والسماح بوجود حزب معارض بجانب «الاتحاد الاشتراكي» الذي يتحول بدوره إلى حزب.
**
في هذه الجلسة تحدث «عبد الناصر» عما جرى في أعقاب النكسة، وتناول تصرفات كل من «عبد الحكيم عامر» و«شمس بدران»، ونظرتهما القاصرة إلى حقائق الأمور، وحكى وقائع ما جرى بينه وبينهما بعد إعلان تنحيه عن السلطة، ثم دخل في الموضوع الذي أراد طرحه على «اللجنة التنفيذية العليا» في اجتماع بجدول أعمال أراده أن يكون مفتوحا.
وقال: (سبب عرضي لهذه الوقائع بالتفصيل هو أنى أريد أن أبرز موضوع في غاية الأهمية، وهو إذا كان جميع هذه التصرفات قد صدرت عن ومن أقرب الناس إلىّ، وأقرب القيادات إلى النظام، فماذا يحدث من غيره؟
ما حدث يحتاج فعلًا إلى بحث وتفكير عميقين، ليه؟ ده أنا و«عبد الحكيم» كنا أكثر الناس ارتباطًا ببعض، ورغم كده «عبد الحكيم» تصرف تلك التصرفات، مجموعة «شمس بدران» (من دفعة 48)، وغيرهم، كانوا يجهزون نفسهم لاستلام البلد، نطلع من القصة كلها أن «النظام المقفول» سيؤدى بنا في النهاية إلى «نظام توريث».
ربما يكون «عبد الناصر» هو أول من تنبأ بأن «النظام المقفول» سوف يؤدي بالنتيجة إلى «توريث الحكم»، الأمر الذي جرى بعده بالفعل بطرق مختلفة، بدأت رحلة «قطار التوريث» الذي كان يتم في إطار المتنفذين عند قمة السلطة مع وراثة الرئيس «أنور السادات» للحكم بعد «عبد الناصر»، وكادت تنتهي بتوريثه لجمال نجل الرئيس حسني مبارك.
ختم «عبد الناصر» حديثه الصريح جدا، بتحديد واجبين (: الأول هو أن نبحث عن نظام System جديد لنا، والثاني هو أن نحدد الأخطاء الرئيسية الموجودة في البلد ونشوف كيف نصلحها) وعاد ليؤكد على أن نظام «الحزب الواحد» تحدث فيه دايمًا صراعات عند القمة على السلطة، وضرب مثالًا لما يجري في الصين وقتها داخل قمة «الحزب الشيوعي».
**
بدا كأن الرئيس «عبد الناصر» ينظر بعمق إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل، فراح يؤكد على ضرورة التغيير، وقال بالحرف: (لم يبق في عمر معظمنا أكثر من عشر سنين، وخصوصًا لي مع المرض ومع الضغط والجهد الذي أتعرّض له، لذلك أنا شايف ضرورة تغيير نظامنا، بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخصٍ واحد، أو لشلةٍ غير واعية، أو جاهلة سياسيًا أن تحكم البلد، هذا البلد الذي أعطانا ثقته المطلقة بلا حدود). وحتى لا يفهم كلامه بشكل خاطئ، استدرك «عبد الناصر» ليقول: (طبعًا التغيير الذي أقصده لا يمس اتجاهنا الاشتراكي).
وجرت مناقشات تبدو رافضة لفكرة التغيير، أو متحفظة نوعًا ما، فعاد «عبد الناصر» للحديث بوضوح أكثر فقال: (أنا في رأيي إن النظام الحالي استنفذ كل مداه، ولابد من نظام جديد، وأنا شخصيًا اقترح أن نسمح بتكوين حزب معارض، ونسمح له بجريدة تعبر عن رأى الحزب، ومن ناحيتنا إحنا نعيد تنظيم صفوفنا ونعمل حزب الاتحاد الاشتراكي، ثم ننهى الدورة البرلمانية الحالية، وتجرى انتخابات جديدة في شهر ديسمبر هذا العام، على أساس قائمتين للحزبين، ومن يكسب الانتخابات يستلم الحكم، والثاني يشكل المعارضة، على أن يبقى الجيش والبوليس كجهازين محترفين).
بدا «عبد الناصر» مقتنعًا بشده بالقصور الذي تبدى في فكرة التنظيم السياسي الوحيد، بل قالها بوضوح: (أنا ضد نظام الحزب الواحد لأنه يؤدي غالًبا إلى قيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد).
كانت أخطار استمرار «النظام المقفول» ماثلة أمام عينيه، فقال: (آخر كلامي في الموضوع، إذا لم نغير نظامنا الحالي سنسير في طريق مجهول، ولن نعلم من يستلم البلد من بعدنا، وقد وصلنا إلى أننا نستحى من أن نقول الحقيقة أو نقبل النقد، وهذا سيؤدى بنا إلى مستقبل مظلم. ولن يمكننا إصلاح النظام الحالي عن طريق إدخال تعديلات، أو القيام بعمليات ترقيع، وإعطاء مسكنات (أسبرين)، كما أن الناس لن تصدقنا حين نقوم بعملية رتوش).
هنا كتب محرر المحضر: (همهمات، وكلام متداخل من الحضور، بشكل غير واضح).
**
نترك «جمال عبد الناصر» إلى حيث هو في رحمة ربه، وندعو له بأن يجزيه الله خير الجزاء عمَّا قدمه لمصر ولأمته العربية، وندخل في الموضوع مباشرة، بدون مقدمات ولا تمهيد، لأنه بالأصل موضوع طويل، ويحتاج إلى مجهودات جماعية، يشارك فيها القادرون عليه، المؤهلون له، ويمكننا أن نعتبر مقالنا السابق «عن الناصريين وإليهم» هو المقدمة الطبيعية لهذا المقال الذي تقرأونه الآن.
كنا انتهينا في المقال إلى أن «التيار الناصري» يعاني من انعكاسات لحظة تاريخية جعلته ليس في أفضل أحواله، (وفي هذا تفصيل يطول الحديث فيه، ليس هنا مكانه، وليس هذا مجاله)، ولكن الخلاصة تشير إلى أنه في حاجة إلى «نفضة» فكرية شاملة، مثل «النفضة» الدورية التي اعتادت عليها أمهاتنا (وزوجاتنا من بعدهن) في كل سنة مرتان، مرة في العيد الصغير، وأخرى في العيد الكبير، وبعضهن كن يأتونها كل سنة مع دخول المدارس في سبتمبر من كل عام.
**
والحق أننا في مصر، وفي كل ربوع الوطن العربي، وعلى صعيد كافة القوى السياسية (وليس الحركة الناصرية وحدها) في حاجة إلى مثل تلك «النفضة» للبيت من الداخل على الطريقة المصرية التي تحتفل بالحياة، أو على الطريقة «السويدية» التي تسعى إلى عملية فرز لمحتويات البيت، يسمون هذا الفرز «داستادنينج»، ويعود إلى تقليد منزلي قديم في هذا البلد «الإسكندنافي»، وقد شرحت أصوله الكاتبة مارجريتا ماجنوسون سنة 2017، في كتاب لها ذائع الصيت يحمل عنوان «الفنّ السويدي للترتيب ما قبل الموت»، حيث ينكبّ كبار السنّ على التحضير لما بعد الرحيل «في عملية اعتناء بكلّ التفاصيل التي سنخلّفها بعد وفاتنا»، وتوضح الكاتبة أن «ترتيب شؤون البيت قد يجلب ذكريات طيّبة، وإذا لم يكن الحال كذلك، فلا بدّ من التخلّص من هذه المحتويات».
كل التيارات السياسية الرئيسية في مصر، وفي الوطن العربي، بحاجة ماسة لهذه «النفضة» التي تستهدف توضيح المفاهيم وضبطها، وفي حاجة ضرورية إلى «جردة محتويات» للتخلص من الزائد عن الحاجة والاحتفاظ بما يفيد فقط، عملية «داستادنينج» فكرية وسياسية صارت مطلوبة، وباتت ملحة، وتنادي على القوى الحية المتبقية في الأوساط «الناصرية» أن تباشر فيه، دون إبطاء أو تلكؤ، قبل فوات الأوان، وتخوض بعمق إلى كل جوانبه، التي سيكون بالضرورة بعضها فكري، وبعضها الآخر سياسي، وكثيرٌ منها يتعلق بالصعيدين: الحركي والبرامجي.
**
أذكرني حين كنت أخوض حوارًا ساخنًا مع صديقي الراحل المرحوم الأستاذ «سيد حسان» (وهو من العقليات الناصرية اللامعة والشابة وقتها)، كان الحديث يدور حول التوابع التي أحدثتها «ورقة أكتوبر» التي طرحها الرئيس «السادات» في منتصف العام 1974، والتي أعقبها بورقة أخرى تحت مسمى «لجنة تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي»، والتي انتهت إلى تكوين «لجنة المنابر»، وتولت إدارة الحوار حول بدء «التعددية السياسية»، ثم تم تعديل اسمها إلى «لجنة مستقبل العمل السياسي»، والتي باشرت في العديد من الاجتماعات، وتبلورت داخلها أربعة اتجاهات أساسية أولها الاتجاه المطالب بإطلاق حرية تكوين الأحزاب، ثم انتهت العملية برمتها إلى إقامة ثلاثة منابر ثابتة داخل الاتحاد الاشتراكي: منبر يمثل الوسط (التيار الأساسي في البلاد)، ومنبر يمثل اليمين بصفة عامة، ومنبر يمثل تيارات اليسار المختلفة، ثم لم يلبث الرئيس «السادات» طويلا حتى أعلن تحويل المنابر الثلاثة إلى أحزاب.
وقتها ـ في أوائل العام 1976ـ دارت وقائع هذا الحوار الساخن بيني وبين صديقي الأستاذ «سيد حسان»، كان رأيه مع إطلاق حرية تكوين الأحزاب، وكنا وقتئذٍ ما نزال متمسكين بصيغة «تحالف قوى الشعب العامل» ووحدة العمل السياسي في إطار تنظيم جامع لكل الطاقات الوطنية، كانت الدنيا تتغير من حولنا، وتصدمنا كل يوم بمتغيرات مذهلة، لكن عقولنا كانت قد توقفت عند ما ورثناه من أفكار، كانت بطبيعتها وبظروف نشأتها، قابلة للتغيير، والتطوير، وداعية إلى الإبداع في إطارها.
بعدها بسنين طويلة قدمت اعتذاري متأخرًا لصديقي الراحل، وقلت له بالنص: «كان عندك حق».
**
الآن لم يعد يكفي التسليم بضرورة المراجعات، لم يعد يكفي غير التقدم الجسور، الذي يراجع ولا يتراجع، يحفظ الثوابت، وينطلق من متغيرات الواقع الجديد، ليقدم إبداعاته في كل ما استجد، ويجب البدء من التسليم بحقيقة واضحة وضوح الشمس وهي أن النظام السياسي الذي أقامته التجربة الناصرية لم يفلح في الحفاظ على منجزات ومكتسبات التجربة، بل اسُتغل النظام نفسه للانقلاب عليها، والعمل على تشويهها، ومحو تاريخها من العقل والوجدان العربي والمصري.
لقد جرى بناء النظام السياسي لثورة يوليو اعتمادًا على زعامة وكاريزمية وشعبية «جمال عبد الناصر» الجارفة، وعلى الرضا العام على خطه السياسي، وانحيازاته للأغلبية التي حُرمت طويلًا من أن يكون لها نصيب من ثروات بلادها، وللأسف فقد جرى من بعد استخدام نفس آليات النظام للنكوص على منجزات وسياسيات وتوجهات الثورة الناصرية، وتعثرت، وتم الانقلاب عليها من داخل النظام نفسه، وباستخدام نفس آلياته، وتراجع المشروع القومي، وانتكست التجربة الناصرية.
لم يعد يكفي التسليم بالانتقادات الموجهة إلى قضية «الديمقراطية» في التجربة الناصرية، ولا يكفي نقد تجربة «الاتحاد الاشتراكي»، ولا القفز فوق صيغة «تحالف الشعب العامل» والتسليم بالتعدد الحزبي، لابد أن يقدم الناصريون اليوم رسمًا بريشة الوضوح والشفافية لصورة «النظام السياسي» الذي تسعى الناصرية إلى بناءه في المستقبل، مطلوب تقديم رؤية نظرية جديدة لهذا البناء الذي يحقق الديمقراطية في المفهوم الناصري.
المقال المقبل: (المراجعات وحتمية الحل الديمقراطي).