ظل الحديث عن التوسع في زراعة النباتات الطبية والعطرية في مصر، متداولًا بشدة خلال العقدين الأخيرين. نظرًا للعائد النقدي التصديري الكبير الذي تحققه منتجات هذه الزراعات، لكن المساحات المنزرعة بالنباتات الطبية والعطرية بَقيت متواضعة جدًا. فلم تتخط في أفضل حالتها 1% (نحو 80 أل فدان) من مجمل الأراضي الزراعية في مصر.

مساحة “الوا حد بالمائة” هذه، رغم محدوديتها، استطاعت وضع النباتات الطبية والعطرية في المرتبة الخامسة لصادرات المحاصيل الزراعية المصرية هذا العام. من حيث القيمة، والمركز الحادي عشر عالميًا، بحسب بيانات المجلس التصديري للحاصلات الزراعية. وتُصدر مصر نحو 65 ألف طن من النباتات الطبية والعطرية تبلغ قيمتها 120 مليون دولار.

على الرغم من ذلك فإن هذه النسب لا تعبر عن الطموحات والتوقعات الكبيرة التي تبناها خبراء الاقتصاد الزراعي، خلال السنوات الأخيرة. مبشرين بأن زراعة النباتات العطرية سوف تنقل صادرات الحاصلات الزراعية نقلة عملاقة، نظرًا لارتفاع أسعارها عالميًا. ما سينعكس في زيادة عوائد النقد الأجنبي، وقبل ذلك بالطبع تحسين أحوال قطاعًا كبيرًا من الفلاحين.

معوقات في طريق التوسع

لزراعة النباتات الطبية والعطرية جذور قديمة في مصر، لكن التوجه الكبير إليها من قبل الفلاحين خلال العقدين الأخيرين. جاء كتعويض عن تدهور الزراعات التقليدية خاصة القطن. والذي اعتمد عليه الفلاح  المصري لقرون كركيزة اقتصادية هامة.

وتزرع مصر عشرات الأنواع من النباتات الطبية والعطرية منها: الكمون، الينسون، الشمر، الكراوية، الكزبرة، حبة البركة، والنعناع، البردقوش، المريمية، الزعتر، الريحان، والبابونج، شيح الكاموميل، عباد القمر. بالإضافة إلى حشيشة الليمون، السترونيلا، الكركديه، ويصدر نحو 90% من هذا الإنتاج للعديد  من الدول في مقدمتها الولايات المتحدة، ودول أوروبا.

الريحان
الريحان

يتسع يومًا بعد آخر سوق النباتات الطبية والعطرية عالميًا نظرًا لتعدد الصناعات  التي تدخل  النباتات الطبية والعطرية فيها. مثل صناعة الأدوية، وإنتاج الزيوت الثابتة والطيارة، ومساحيق ومستحضرات التجميل، والعطور، وغيرها من الصناعات.

ويعطي تنوع المناخ ميزة كبيرة للأراضي المصرية يجعلها قادرة على زراعة أنواع مختلفة من النباتات الطبية والعطرية خلال فصلي الصيف والشتاء. وهي ميزة ليست موجودة في الكثير من الدول ما يجعل المناطق المنتجة للنباتات الطبية والعطرية عالميًا محدودة بشكل كبير.

عشوائية الزراعة

تركزت زراعة النباتات الطبية والعطرية منذ عقود في محافظات الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط. حيث تنتج المحافظات الأربع ما يزيد عن 80% من مجمل إنتاج النباتات الطبية والعطرية في مصر.

كباقي الزراعات في مصر منذ إلغاء الدورة الزراعية، غابت السياسات الزراعية قصيرة وطويلة الأجل. فيما يتعلق بزراعة النباتات الطبية والعطرية، وأُلقِت المسؤولية كاملة على عاتق الفلاح.

وجد الفلاح نفسه في مواجهة العديد من المشكلات المتعلقة بهذه الزراعة الواعدة، وهي مشكلات حالت دون توسع المساحات المنزرعة. بل وأدت إلى تقليص بعض الفلاحين للمساحات التي كانوا يزرعونها.

نقص المياه وتلوثها

حمدي فتح الله، أحد فلاحي مركز أبشواي بمحافظة الفيوم، ويمتلك ثلاثة أفدنة يزرعها بمحاصيل: الكراوية، وعباد القمر، والنعناع الفلفلي. يقول لـ”مصر 360″ إن المشكلة الأكبر التي تواجههم هي نقص المياه، حيث تقع أراضيهم في نهايات الترع ما يجعل كميات المياه الواصلة إليها أقل من احتياجاتها. وهو ما أثر بالطبع على زراعتهم من النباتات الطبية والعطرية خاصة المحاصيل الصيفية.

ليس نقص المياه فقط بل تلوثها أيضًا هو إحدى المشكلات التي تواجه المزارعين. سعيد عبد الرحمن أحد مزارعي النباتات العطرية بمركز سمسطا بمحافظة بني سويف يتحدث عن تلك المشكلة فيقول. إنه منذ سنوات يتعاقد مع إحدى الشركات على توريد منتجات أرضه من البرداقوش والنعناع والمورينجا، والبالغ مساحتها 8 أفدنة. وهي مزروعة بطريقة الزراعة العضوية  “الأورجانيك”. لكن بعد قياس نسبة متبقيات المبيدات وقياس مستوى جودة هذه المنتجات تُقبل الشركة على تخفيض السعر. ويؤكد عبد الرحمن أن  تدني جودة منتجاته سببها تلوث المياه التي يروون بها. داعيًا وزارة الري إلى إيجاد حلول سواء لمشكلات نقص المياه أو تلوثها.

التلاعب بالأسعار.. اتهامات يُنكرها التجار

يتهم بعض الفلاحين التجار بالتلاعب بالأسعار، وربط السعر عند مستويات متدنية. ما يضع  الفلاحين أمام خيارين إما البيع بهذه الأسعار أو تخزين المحاصيل للأعوام التالية ما يتسبب في خسائر كبيرة لهم.

يقول إبراهيم سعد، أحد مزارعي النباتات العطرية  بمركز أبشواي بالفيوم، إن بعض الفلاحين أصبح عندهم رغبة أكبر في زراعة محاصيل أخرى لا تحتاج لجهد تسويقي حتى وإن كان عائدها أقل. فمشكلة التسويق مشكلة كبيرة خاصة لأصحاب المساحات الصغيرة التي تتراوح بين ثلاثة و خمسة أفدنة، فقد صاروا لعبة في يد التجار.

علي أحمد علي، وهو أحد تجار النباتات العطرية بقرية “جردو” والذي طور نشاطه إلى مكتب للتصدير. ينكر تمامًا تلاعب التجار المحليين بالأسعار، مرجعًا الأزمة إلى العشوائية الكبيرة في عمل مكاتب وشركات التصدير والتي يزيد عددها عن 300 مكتب وشركة. فغياب الرقابة الحكومية عن هذه المكاتب وعدم تحديد متوسط عادل للأسعار طبقًا للأسعار العالمية هو السبب الرئيسي في تفاوت الأسعار وتدنيها. وليس تلاعب التجار في الأسعار وسعيهم إلى تحقيق هامش ربح أعلى.

يوضح علي، بعض المكاتب وشركات التصدير خاصة الصغيرة. تتعاقد مع مستوردين أجانب بأسعار متدنية تقل كثيرًا عن الأسعار العالمية.

تجمع هذه المكاتب احتياجاتها إما بأسعار متدنية مستغلة عجز الفلاحين عن تسويق منتجاتهم لضعف حجمها. أو بتخليط المنتجات بأخرى أقل جودة، هذه السياسة المتبعة من بعض مكاتب التصدير والتي تعتبر “حرقًا للأسعار” تضر بسمعة المنتج كما تضر بأسعاره.

يطالب علي برقابة شديدة على مكاتب التصدير من قبل الحكومة، وتحديد متوسط للأسعار يُحظر التصدير بأقل منه. وكذا تحديد نسبة جودة المنتجات المصدرة حفاظًا على الأسعار وجودة المنتجات الزراعية المصرية، وحماية لمصالح الفلاحين وكافة أطراف العملية من مزارعين وتجار ومصدرين.

غياب الدور الإرشادي

“لم يعد هناك أي دور للجمعيات الزراعية، وانتهت مهمة المرشد الزراعي، فهو لم يعد موجودًا سوى على الورق، أو في أدبيات الزراعة المصرية”. هكذا يرى أحمد فتحي، الباحث في الاقتصادي الزراعي  وكيمياء النبات.

يقول فتحي لـ”مصر 360″: ربما يرى البعض أن الفلاحين في المناطق الشهيرة  بزراعة النباتات العطرية خاصة في محافظات شمال الصعيد. لا يحتاجون لجهد إرشادي كبير لأن لديهم خبرة كبيرة بهذه الزراعات.

المشكلة الرئيسية التي تواجه الفلاحين هناك بحسب حكيم، أن عملية بيع المنتج تمر بكثير من الوسطاء التجاريين. وهذا له نتائج سلبية على هامش الربح الذي يحصل عليه الفلاح، فلا  يستطيع بييع منتجه بسعر عادل. لأن المساحات التي يملكها الفلاحين مساحات صغيرة تتراوح في متوسطها ما بين فدان إلى خمسة أفدنة ما يعني أن إنتاج أكبر قطعة منها لا يتخطى بضعة أطنان

لكن في المناطق التي تعتبر حديثة العهد نسبيًا بهذه الزراعات لابد من عودة وفاعلية دور المرشد الزراعي. لتوجيه الفلاحين نحو الأنواع المناسبة لنوعية أراضيهم، ودرجات الحرارة في هذه المناطق، ونسب المياه اللازمة لهذه الأنواع وطرق التسميد.

“وعلى أي حال فإن عودة المرشد الواعي والمدرب والمطلع على الأنواع المختلفة من المحاصيل، في كافة مناطق الجمهورية ضرورة ملحة”. الكلام لا يزال للمهندس أحمد فتحي.

سياسات زراعية مستدامة

غياب سياسات زراعية مستدامة أدى إلى تناثر المساحات المنزرعة بالنباتات العطرية، ما أثر على جودة المنتجات. فيمكننا أن نرى بضعة أفدنة مزروعة بنظام الزراعة العضوية “الأورجانيك”، وفي الجوار أخرى تم تسميدها بأسمدة كيمياوية. إن هذا يؤثر على الزراعات “الأورجانيك” ويقلل من جودتها وبالتالي أسعارها.

توحيد المساحات المنزرعة بالنباتات العطرية، وعودة نظامًا شبيهًا بالدورة الزراعية سوف يضمن جودة أعلى للمنتج. كما سيدعم القدرات التسويقية لفلاحي المنطقة الموحدة والتفاوض على سعر عادل وحمايتهم من تلاعب التجار والمصدرين.

تجارب تعاونية وروابط فلاحية

الاستشاري التعاوني محمد عبد الحكيم، يروي لـ”مصر 360″ إحدى التجارب التي نفذها مشروع “تعاون” التابع لجمعية “شباب مصر” في منطقة الشواشنة بمركز يوسف الصديق بالفيوم، وهي من المناطق المميزة في زراعة النباتات العطرية.

المشكلة الرئيسية التي تواجه الفلاحين هناك بحسب حكيم، أن عملية بيع المنتج تمر بكثير من الوسطاء التجاريين. وهذا له نتائج سلبية على هامش الربح الذي يحصل عليه الفلاح، فلا  يستطيع بييع منتجه بسعر عادل. لأن المساحات التي يملكها الفلاحين مساحات صغيرة تتراوح في متوسطها ما بين فدان إلى خمسة أفدنة ما يعني أن إنتاج أكبر قطعة منها لا يتخطى بضعة أطنان. وهي كميات من الصعب أن يصل بها الفلاح إلى المصدر رأسًا فيضطر إلى البيع للتجار، الذين يحددون الأسعار بانخفاص يصل لآلاف الجنيهات في الطن الواحد.

يستكمل حكيم: “قمنا بتأسيس ثلاث شركات تعاونية، في مركز يوسف الصديق، وهي قانونًا شركات مساهمة طبقًا لقانون الاستثمار لكنها داخليًا تدار بشكل تعاوني. كل شركة تضم 25 مساهمًا من أصحاب المساحات الصغيرة والتي تتراوح بين بضعة قراريط إلى 5 أفدنة أبرزهم شركة “الأرض الطيبة” وتغطي مساحة 65 فدانًا”.

البيع المباشر

يضيف حكيم: “استطاعت الشركة عقد ثلاث صفقات بيع للمصدر بشكل مباشر. خلال المواسم الثلاثة الماضية الموسم الأول باعت الشركة منتجات أراضيها باتفاق مباشر، لكنها استطاعت في الموسم الثاني والثالث بيع منتجاتها عبر تعاقد ما قبل الجني والحصاد. فيما استطاعت التعاقد على بيع منتجات العام المقبل مع إحدى شركات التصدير قبل الزراعة بحد أدنى للأسعار. حتى يضمن للمزارعين هامش ربح في حال حدثت تقلبات للأسعار. مشيرًا إلى أن المساحة المتعاقد على زراعتها للعام المقبل ستزرع جميعها بنظام الزراعة العضوية.

يشير حكيم أن الشركة المصدرة وضعت اشتراطات الجودة داخل العقد، وتعاقد مشروع “تعاون” الذي تنفذه جمعية “شباب مصر” مع كلية الزراعة جامعة الفيوم. لتوفير مرشدين زراعيين يتمتعون بدراية علمية بزراعة هذه النباتات وطرق تطوير إنتاجها، خاصة فيما يتعلق بالزراعات العضوية.

تزرع أراضي الشركة الشيح والشمر وظهر الليمون والنعناع. وتقوم الشركة فقط بعمليات التجفيف والغربلة، قبل التسليم للشركة المصدرة.

يشير حكيم أنه مؤخرًا استطاعت الشركات الثلاث توقيع اتفاقًا مع الدكتور رفعت حليم صاحب مجموعة شركات رويال ومسؤول الجالية المصرية بالكويت. ووزارة الهجرة ومحافظة الفيوم، لإنشاء مصنع يقوم بعمليات التجفيف والتعبئة والتجهيز للتصدير على أن يدار المصنع من قبل مجالس إدارات الشركات الثلاث.

الزراعة التعاقدية

غياب السياسات التعاقدية الزراعية يضر بالغ الضرر بمستقبل هذه الزراعة الواعدة ويحول دون توسعها. فقانون الزراعة التعاقدية والذي لم يُفعل حتى الآن من شأنه أن يحل محل الدورة الزراعية، فسوف يضمن إقبال الفلاحين على الزراعة. وتوسع المساحات المنزرعة من النباتات الطبية والعطرية، وتوحيد تلك المساحات. لأنه سوف  يحمي الفلاح من تقلبات الأسعار، كما سيضمن لشركات التصدير اشتراطات الجودة المطلوبة.

عمليات التصنيع  أو ما يطلق عليه القيمة المضافة للمنتجات يمكن أن تضاعف العوائد النقدية لصادرات النباتات العطرية لأكثر من 10 أضعاف، كما ستوفر الكثير من فرص العمل.

فتح أسواق جديدة

لا معنى لتوسع المساحات المنزرعة دون فتح أسواق خارجية جديدة، فبينما تكتسب النباتات الطبية والعطرية المصرية سمعة كبيرة في الأسواق العالمية. تظل مهمة فتح الأسواق أمام المنتج الزراعي مهمة كبيرة لا يمكن أن تترك لشركات التصدير دون تدخل من الدولة.

يقول سعد عمران صاحب إحدى شركات تصدير النباتات العطرية إن شركان التصدير عانت خلال أعوام طويلة من أجل تسويق المنتجات وفتح الأسواق الخارجية. لكن تظل إمكانيات غالبية الشركات خاصة أنها شركات صغيرة، إمكانيات محدودة، وتحتاج هذه المهمة إلى التدخل المباشر من الدولة عبر المكاتب التجارية للسفارات والقنصليات المصرية في الخارج. مضيفًا “لا استطيع القول إن جهد الدولة في هذا الاتجاه معدومًا. لكنه لا يتفق مع الطموحات التصديرية التي تعلن عنها الحكومة في هذا القطاع”.

قيمة مضافة لمنتجات النباتات العطرية

المنتجات الزراعية من النباتات العطرية تصدر كمادة خام. وهو ما يجعل عوائدها ضعيفة إذا ما قورنت بعوائد هذه المنتجات في حال مرت بمراحل تصنيعية كاملة أو جزئية مثل استخراج الزيوت وتصنيع المواد الفعالة من هذه المنتجات.

يمكن لعمليات التصنيع  أو ما يطلق عليه القيمة المضافة للمنتجات. أن تضاعف العوائد النقدية لصادرات النباتات العطرية لأكثر من 10 أضعاف، كما ستوفر الكثير من فرص العمل.

ربما يعتبر البعض أن ما حققته زراعة النباتات الطبية والعطرية خلال السنوات الماضية من ارتفاع صادرات منتجاتها وعوائدها النقدية نجاحًا كبيرًا. وهو بلا شك كذلك. لكن على الحكومة المصرية أن تستثمر الفرص المتاحة في هذا القطاع وهي كثيرة وتحتاج إلى سياسات زراعية مستدامة وجهود علمية وبحثية وتسويقية وصناعية كبيرة. حينها سيصبح هذا القطاع من أهم القطاعات الزراعية ذات العوائد الكبيرة. فهو طريقًا موازيًا للزراعات الاستراتيجية علينا أن نسلكه.