صراع آخر يتجدد، وأزمة أخرى تطفو على السطح الملتهب في بقاع شتى من العالم. التوترات العرقية تعيد البوسنة إلى واجهة الأحداث. ذلك بعد أكثر من ربع قرن على حرب دموية تركت آثارها النفسية ثم الجيوسياسية إلى الآن. أطراف إقليمية تبحث عن موطئ قدم ومكاسب سياسية تتداخل في المشهد الهش بالأساس. مشهد يظهر في مقدمته ميلوراد دوديك زعيم صرب البوسنة، بعدما تعهد بإنشاء جيش منفصل، وشدد على أنه «لم يعد لدولة بوسنية موحدة وجود».

هذه التوترات التي تعرفها البوسنة والهرسك تأتي في ظل انتشار واسع للسلاح غير المرخص، الذي بلغ عدده حسب تقديرات نحو 750 ألف قطعة. ما يجدّد مخاوف اندلاع أزمة تعود بمنطقة البلقان إلى مستنقع الدم الذي غرقت فيه ما بين 1992 و1995.

تهديد وصفه كريستيان شميت، المبعوث الأممي للبوسنة، بأنه «أخطر تهديد وجودي تواجهه البلاد خلال مرحلة ما بعد الحرب (الأهلية)».

 

في محاولة لفهم الخريطة المعقدة للمشهد الحالي ومن يقف وراءه وأسباب تصعيده، أجرينا هذا الحوار مع مصطفى شلش. وهو الباحث المختص في شؤون بلدان البلقان بمركز الدراسات العربية الأوراسية، فإلى نص الحوار:

مصر 360: لماذا تصاعدت الخلافات العرقية والسياسية، وظهرت على السطح مؤخرًا في البوسنة؟

ج: البوسنة والهرسك هي بمثابة إسرائيل في المنطقة العربية، إن جاز التشبيه. إذ كانت محمية أمريكية في قلب الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفييتي. والصراع الحالي في أوكرانيا يلقي بآثاره؛ فروسيا تريد أن تنقل تركيز الولايات المتحدة وحلف الناتو من أوكرانيا إلى نقطة تصعيد أخرى عن طريق صرب البوسنة، ممثلين في زعيمهم ميلوراد دوديك.

منطقة البلقان هي ساحة تسخين واستقطاب. فإما أن تدفع الولايات المتحدة بطرف أو تدفع روسيا بطرف كجزء من لعبة توازنات القوى. وأوكرانيا بدأت تتحرك ضد التصعيد الروسي بأن فتحت مساحة لتركيا -بإشارة أمريكية- للدخول على خط الأزمة. وروسيا تريد تشتيت هذه الجهود بفتح نقطة صراع أخرى في البوسنة التي تتولى فيها تركيا العديد من الملفات نيابة عن الأمريكان.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وميلوراد دوديك ذاته زعيم صربسكا
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وميلوراد دوديك ذاته زعيم صربسكا

مصر 360: ما هو نظام الحكم في البوسنة والهرسك، وهل هو جزء من الأزمة الحالية؟

ج: البوسنة تتكون من ثلاث عرقيات هم البوشناق المسلمون، والكروات والصرب المسيحيون. وجميعهم ليسوا على وفاق. نظام الحكم يتكون من ثلاث إقطاعيات من الحكم الذاتي، منها قطاعين يحكمهما البوسنيون والكروات بشكل مشترك. بالإضافة إلى إقطاع ثالث يحكمه الصرب ممثل في جمهورية صربسكا. والثلاثة ممثلة ضمن مجلس حكم رئاسي أسفل منه مندوبين ساميين تابعين للأمم المتحدة.

النظام الانتخابي جزء كبير من المشكلة، فعند توقيع اتفاق دايتون عام 1995، لم يفهم الأوروبيون طبيعة العرقيات، واعتبروا أن الكل بوسني، وبالتالي مُتساوون في الانتخابات. لكن الكروات اليوم عددهم قليل في المناطق التي يحكمونها بشكل مشترك مع البوشناق. وبهذه الطريقة يحدد البونشاق للكروات من يحكمهم. وهذه أزمة في منطقة لا تؤمن بالتعددية على النمط الأوروبي.

الأوروبيون لم يفهموا طبيعة العرقيات في البوسنة

تبدى ذلك بوضوح مثلاً خلال جائحة كورونا. إذ كان هناك صراع بشأن من سيتلقى الدعم ويحصل على اللقاحات. في صربسكا قرروا إنشاء وزارة للدواء تحصل على اللقاح من روسيا. في حين أن الكروات والبوسنيين طلبوا اللقاح من الاتحاد الأوروبي. وهذا ساهم في تصاعد خطاب الكراهية بين مختلف الأطراف التي تصارعت حتى على الدواء.

والنقطة الأهم التي أججت الصراع مؤخرًا، هو القانون الذي أصدره المندوب السامي، النمساوي فالانتين إنزكو، قبل رحيله. وهو قانون يقر عقوبة الحبس لمن ينكر الإبادات الجماعية، ويمنع عدم تمجيد أي رمز صربي مقاتل (من مجرمي الحرب) خلال الحرب الأهلية. بالنسبة للصرب هذه مسألة قومية تحط من قدر شخصيات يعتبرونها مقدسة، شاركت في حرب دينية مقدسة.

عامل آخر، هو ميلوراد دوديك ذاته، زعيم صربسكا، المستمر في الحكم منذ أكثر من 10 سنوات، ويريد البقاء في منصبه عن طريق تصعيد الخطاب القومي الشعبوي. ذلك الخطاب الذي يمكنه من خلق فقاعة يقول بها لمواطنيه الصرب إنه يدافع عنهم بشراسة، ولا يمكن التعايش في هذه الدولة ولابد من الانفصال. هو نموذج مشابه لألكساندر لوكاشينكو في بيلاروسيا.

في مقابلة مع صحيفة «ديرشبيجل» الألمانية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالب دوديك بإلغاء القوانين التي يفرضها المندوبون الساميون في صربسكا، والاعتماد على «قوانينا الخاصة ضمن مرحلة انتقالية تشمل إنشاء نظام ضرائب وجيش منفصل». لكن نسبة حدوث هذا ضعيفة جدًا إذ لن يقبل أي طرف بخلق دولة جديدة، بحسب شلش.

ميلوراد دوديك ذاته زعيم صربسكا
ميلوراد دوديك ذاته زعيم صربسكا

مصر 360: ما أوجه القصور في اتفاق دايتون للسلام، الذي أوقف الحرب الأهلية؟

ج: اتفاق دايتون بالأساس حل قصير المدى، وترتيب مؤقت لسلام دائم فيما بعد. لكن هذا لم يحدث إلى الآن. وبعد مرور 26 عامًا لا يزال دستور البوسنة مؤقت. هذه دولة تمثل الاختلال الوظيفي والفشل السياسي. نحن نتحدث عن دولة نشأت فيها ثلاث وزارات فقط، والنظام الجنائي يعتمد على المحكمة الجنائية الدولية.

البوسنة فشلت فيما يسمونه الانتقال من دايتون إلى بروكسل -أي الاتحاد الأوروبي- وبشكل صريح هي دولة فاشلة لا تمتلك أي مقومات للدولة. هناك طرف يريد الانتقال للاتحاد الأوروبي ويعزز الديمقراطية (البوسنيون والكروات)، وطرف صربي يرى أن مصالحه ودعمه وسلاحه مع الروس.

توقيع اتفاقية الإطارِ العامِ للسلامِ في البوسنة والهرسك (دايتون للسلام) في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 بالعاصمة الفرنسية باريس
توقيع اتفاقية الإطارِ العامِ للسلامِ في البوسنة والهرسك (دايتون للسلام) في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 بالعاصمة الفرنسية باريس

مصر 360: من يتحمّل فشل الانتقال من دايتون إلى بروكسل؟

ج: بكل وضوح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لأنهما أرادا فقط في تلك اللحظة تجميد الصراع. ثم سريعًا تم الدخول إلى مرحلة «الإرهاب العالمي». وللأسف الشديد تم سحب القوات الأمريكية والأوروبية، المُقدّرة بستين ألف تقريبًا، دفعة واحدة. وانتقلوا إلى أفغانستان ثم لاحقًا العراق. ولا يتبقى حاليًا سوى ألفي جندي. أسقط هذا البوسنة من الحسابات الأمريكية ما سمح للروس بملء الفراغ.

الاتحاد الأوروبي كذلك يتحمل الجزء الأكبر من الفشل نتيجة سياساته التي أحبطت البوسنيين، مثل عدم الانضمام للاتحاد، أو عدم تمويل البنية التحتية، وخلق فرص عمل وإنشاء المؤسسات. هذه السياسة مثلاً دفعت صربيا لأحضان روسيا والصين. لم تعد ترغب هذه الدولة في الانضمام إلى منطقة اليورو.

في تلك المرحلة لجأ كل طرف داخل البوسنة إلى داعم إقليمي. فالبوشناق اتجهوا إلى تركيا والسعودية (التي ساهمت سياساتها بعد الحرب، من نشر للفكر الوهابي، في دعم الإرهاب ما جعل المقاتلين البوسنيون هم الأكثر عددًا بين المقاتلين الأوروبيين في سوريا مثلاً). في المقابل دعمت الكنيستين الروسية والصربية، الصرب في صربسكا؛ وبالتالي بدلاً من وجود انقسام عرقي فقط، أصبح هناك انقسام ديني متصاعد. ومحاور هذا الانقسام تركيا والسعودية، التي توقفت عن الدعم حاليًا، وروسيا وصربيا.

البوشناق اتجهوا إلى تركيا والسعودية (التي ساهمت سياساتها بعد الحرب، من نشر للفكر الوهابي، في دعم الإرهاب ما جعل المقاتلين البوسنيون هم الأكثر عددًا بين المقاتلين الأوروبيين في سوريا مثلاً)
البوشناق اتجهوا إلى تركيا والسعودية (التي ساهمت سياساتها بعد الحرب، من نشر للفكر الوهابي، في دعم الإرهاب ما جعل المقاتلين البوسنيون هم الأكثر عددًا بين المقاتلين الأوروبيين في سوريا مثلاً)

مصر 360: ما هي طبيعة العلاقات التركية في هذه المنطقة؟

ج: تركيا لديها علاقات جيدة مع مختلف الأطراف في البوسنة. ويُنظر إليها كوسيط نزيه ضمن مساعيها للحفاظ على دور لا غنى عنه من أمريكا، في مواجهة الروس. وسياسات الأتراك في هذه المنطقة مهمة للغاية. وللأسف الشديد لا يتم النظر إليها هنا في منطقتنا، التي تتجاهل هذه البقعة التي ربطتنا بها علاقات تاريخية ودينية هامة للغاية.

وكدليل على أهمية الدور التركي، فالزعيم الصربي دوديك يتمتع بعلاقات جيدة للغاية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

الزعيم الصربي دوديك والرئيس التركي رجب طيب أردوغان
الزعيم الصربي دوديك والرئيس التركي رجب طيب أردوغان

مصر 360: هل هناك وجود إيراني في البوسنة؟

ج: نعم هناك وجود، ولكنه محدود جدًا. هناك عدة مدارس دينية إيرانية، لكنها ضعيفة. 5% فقط من سكان البوسنة شيعة. وهو عدد يتجاوز 15 ألفًا طبقًا لآخر إحصاء.

هنا، نقطة يجدر الإشارة إليها، وهي أن السعودية حينما قدمت تمويلاً غير محدود للمدارس الدينية كان بدافع التخوّف من الوجود الإيراني، الذي درّب خلال فترة الحرب قوات الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش عام 1982.

الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش
الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش

مصر 360: ما هي المصالح الصينية في هذه المنطقة؟

ج: الوجود الصيني في البلقان اقتصادي في المقام الأول، وهو قوي جدًا. ولا علاقة للصين بأي خلافات عرقية أو دينية. فكل ما يضر بدورها كتاجر تبتعد عنه. وفي البوسنة تحديدًا تساهم في مشروعات بنية تحتية بتكلفة 2 مليار دولار. ومن بينها بناء محطة طاقة حرارية بقيمة 700 مليون يورو. وهو أكبر استثمار مباشر في تلك الدولة منذ نهاية حرب. كما تقدم الصين قروضًا ميسرة وخطط سداد طويلة الأجل.

الصين بها تنوعات عرقية ضخمة ورغبات عرقية انفصالية كذلك. وبالتالي لا يمكن أن تؤيد هذا في أي بقعة جغرافية أخرى لأنه يضر بموقفها السياسي.

مصر 360: إلى أين يمكن أن يتجه التصعيد حاليا؟

ج: في وجهة نظري، وطبقًا للتجربة التاريخية، فإن دوديك يمارس مناورة ضمن مناوراته المشهور بها. وتهديده الدائم بالانفصال هو يبحث به عن مساحة ترضية وتمويل وابتزاز للاتحاد الأوروبي. ذلك في ظل أن الروس لا يقدمون سخاءً ماديًا. فعند قدومه إلى السلطة كان يُنظر إليه بصفته رجل معتدل، داعم الغرب في مواجهة القوميين. لكن بدءًا من عام 2006 وأزمات المهاجرين الأفغانية والعراقية المتصاعدة في العالم، اتجه صوب الخطاب اليميني القومي. خاصة مع انعدام الأفق السياسي وتآكل الديمقراطية والفساد المالي، للحفاظ على منصبه.

الولايات المتحدة ستتدخل بشكل سريع للغاية لمنع تفاقم الأزمة وحدوث جبهة صراع أخرى. الأزمة الحالية قد تُصدّر أزمات لاجئين من أقرب نقطة في البوسنة إلى الجبل الأسود المجاورة. روسيا تستهدف ذلك، ولكن لماذا؟ لأن الجبل الأسود ترغب في الدخول ضمن الإطار الصاروخي لحلف الناتو. وهو ما يهدد الأمن القومي الروسي. لذا تريد الأخيرة خنق المؤيديين للاتحاد الأوروبي هناك واستبدالهم برجالها.

الولايات المتحدة ستتدخل بشكل سريع للغاية لمنع تفاقم الأزمة وحدوث جبهة صراع أخرى
الولايات المتحدة ستتدخل بشكل سريع للغاية لمنع تفاقم الأزمة وحدوث جبهة صراع أخرى

مصر 360: من وجهة نظرك، هل هناك مسارات أو تصور لحل دائم في البوسنة؟

ج: من البداية لم يجُز التقسيم بحدود الدم. فكل من ظفر بقطعة أخذها. لدينا صرب صربسكا في البوسنة وجمهورية صربيا، لماذا لم يندمجا معًا إذا!

خُلقت البوسنة لتبقى هذه المنطقة مشتعلة، مثل لبنان في منطقتنا كي نتخيل المشهد.

نحن نتحدث عن 8 آلاف مسلم بوسني قُتلوا في يوم واحد (مذبحة سربرنيتسا) على أيدي الصرب الذين ينكرون ارتكابهم لإبادة جماعية إلى الآن. وهم يدعون أنها كانت حربًا يدافعون فيها عن أنفسهم. وبالتالي لم تحدث أي مصالحة وطنية حقيقية على أي مستوى، ولهذا لم تتحقق البيئة الآمنة التي كانت أول بند في اتفاق دايتون الذي لم يكن اتفاق محاسبة ومصالحة شاملة.

 

على سبيل المثال، مجرمو الحرب الصرب المدانون من محكمة العدل الدولية هم موظفون ومستشارون في كل من البوسنة وصربسكا. هذا مشهد عبثي بامتياز.

خُلقت البوسنة بإرادة أمريكية كي تكون بوابتها إلى حيث عمق الأراضي الروسية. والمسألة متعلقة بكيف يبقى الوضع على ما هو عليه. بوضع خط أحمر للروس وخط أحمر لعدم اشتعال الحرب مجددًا. ذلك عن طريق مجموعة من المُسكّنات. ومن ثم تشتعل الخلافات مجددًا، وهكذا نبقى في نفس الدائرة.

تاريخيًا، لم تعرف هذه المنطقة الهدوء، وكانت ساحة للصراع بين الدولة العثمانية المسلمة والقيصرية الروسية المسيحية. وهذا يعيدنا إلى نقطة أنه حين يفتقد الإنسان للمشروع والبوصلة يلجأ إلى الدين والعرق كهوية. والبلقان كانت نقطة التقاء ثلاث حضارات مختلفة عبر التاريخ.